ليس هناك من فرق بين الأفكار الخمينية والأفكار الوهابية، فكما ذقنا مرارة الثانية في 16 ماي، فإن المنطق يقتضي التوجس من ما عداها يوثر الأستاذ محمد عابد الجابري – حفظه الله – التأكيد على ضرورة الانتباه لخصوصية الفكر المغربي ونحن نقارب إشكالات النهضة والتحديث والتراث وخلافه، وهو بهذا يستعيد مجد رشدية كانت علامة على مغرب برهاني متفتح، تتصل فيه العقائد الإيمانية للهوية بالمقولات العقلانية للمغايرة، وتتواصل فيه عقائد الكثرة مع عقائد القلة، في توافق وتبادل كان لأرض المغرب شرف احتضان أواصره، البارحة المغايرة اليونانية، واليوم المغايرة الغربية، وهو بهذا استطاع أن يبدع نسخة مغربية خالصة للقضايا الخلافية في فتن الشرق، ونقصد قضيتي الأصول والإمامة، ولم يكن الأستاذ الجابري بهذا انقساميا كما آثر ذلك خصومه العرفانيون في المشرق، وإنما تنبيه أولي العزم والراسخين في العلم من المغرب الأقصى إلى المسافة التي لطالما حرص عليها أسلافهم مع كل فتن المشرق، مشرق مستلب حد الهوس بماض لم يكن قط مشرفا، بموجب النقل والعقل معا، فأجادوا وأفادوا، إلا سياسيي هذا البلد فإنهم في حِل من هذا الدرس، فنراهم يعاكسون التاريخ والجغرافيا وحقائق الخصوصية المغربية بسياسات تضعنا طرفا في فتن الشرق، بل ومشرقيين أكثر من أهل المشرق،وهذا تماما هو وجه الاستغراب في تداعيات الخلاف المغربي الإيراني، تداعيات كانت علتها الأولى إضفاء لبوس مذهبي على خلاف دبلوماسي، أو لنقل خلاف علاقات عامة مع نظام سياسي بكل ما تحمل الكلمة من معنى. و هذه المصادرة على بداهتها نروم من خلالها الفصل بين فُرس الحضارة والثقافة والامتداد التاريخي والمثاقفة المستمرة مع الثقافة العربية الإسلامية، مشرقها ومغربها، وهذا مما لا يمكن لوزيرنا في الشؤون الدينية وهو المؤرخ، أن ينفيه في خضم معاركه الحالية، وبلاد فارس ما بعد الثورة الخمينية، المستوى الأول لطالما تعامل معه المغاربة تاريخيا بتحضر ورقي، قل نظيره في مشرق الفتن، والثاني يمتح مقولاته من الدبلوماسية كفرع من فروع العلوم السياسية، الأول نخضعه لقيم التسامح والتعايش كغيره من الملل والنحل والأديان والتي لطالما كان المغرب أرضا لتلاقيها وتلاقحها، والثاني نخضعه لمفاهيم السيادة والمصالح العليا، وهذا الفصل هو ما سننشد مقاربته وفقا للتساؤلات التالية: لماذا على مغرب وضعته الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا في أقاصي بلاد الفتن المتناسلة أن يأتيه حين من الدهر يصبح طرفا في هذه الفتن؟ لماذا على مغرب اعتبر الحداثة نهجا استراتيجيا، في مسائل السلطة والثقافة والمجتمع أن يكون طرفا في فتنة عائدة من العصور الغابرة؟ وبصيغة أخرى لماذا علينا أن نشهر سلاح الحقد المذهبي في خلاف سياسي بالدرجة الأولى؟ لماذا على المغرب الحديث أن يكون أكثر مالكية من مالكية أسلافه؟ ماذا عن مغرب التسامح والتعايش الذي راهن عليه البناة الأوائل لهذا الوطن؟ وأخيرا ما هي علة العطب في التوقيت الذي تشتكي منه الدبلوماسية المغربية؟ هكذا يطرح الخلاف المغربي الإيراني في تقديرنا مستويين من النقاش كما يستشف من هذه الأسئلة، الأول ينتمي إلى مجال الدبلوماسية كفرع من فروع العلوم السياسية، وهو مجال يمتح مقولاته واستراتيجياته من البراغماتية ولا شيء غير البراغماتية، والثاني تاريخي مذهبي متعلق بطبيعة الخلاف التاريخي السني الشيعي حول مسألة الإمامة، وهو خلاف حسم فيه مؤسسو الدولة المغربية منذ القدم، ولم يكن ليطرح عندهم هذه التداعيات. -1 مستوى الخلاف الدبلوماسي: تعرف الدبلوماسية على أنها علم إدارة التواصل بين الدول، بناء على مجموعة من المفاهيم والقواعد والإجراءات والأعراف التي تنظم العلاقات الدولية، وليس من هدف لها غير خدمة المصالح العليا والسياسات العامة للدول، وفي الثقافة السياسية الحديثة، أصبحت الاعتبارات الإنسانية كالدين والمذهب والعرق غير ذات أهمية بالقياس إلى الاعتبارات المصلحية، ولنا في العلاقات الدولية اليوم الدليل الأوضح على هذا الأمر، غير أننا سنكتفي بطرفي المشكلة،ونقصد المغرب الحديث والدولة الخمينية، نتساءل هل العلاقة الوطيدة للنظام الخميني مع روسيا القيصرية وسوريا البعثية مؤسسة على التطابق المذهبي؟ وهل خلافات هذا النظام مع عراق صدام كان خلافا مذهبيا؟ وهل تحالف هذا النظام مع أمريكا ضد طالبان مسألة مذهبية؟ ومن جهتنا، هل عداوة الجزائر الشقيقة جدا، والسنية جدا،.. كل ما هو مغربي، له علاقة بالمذهب السني أم هي السياسة والهرولة وراء المصالح؟ لماذا لا تشفع سنيتنا عند الأشقاء السنة لإعلان مساندتهم لقضية وحدتنا الترابية بدل الحياد المعيب؟ وعلى نفس المنوال الاستنكاري لهذه الأسئلة المحدودة يمكن أن نصيغ عددا لا متناه من الأسئلة بعدد القضايا والعلاقات السياسية بين الأمم والدول. إذن وبعيدا عن زوبعة العلاقات العامة التي أثارها الخلاف المغربي الإيراني، ( تخصيص المغرب بالهجوم دون سواه)، وبعيدا عن الحرب بالوكالة التي تخوضها بعض الأطراف في المغرب نيابة عن جمهورية الملالي أو العكس، وبعيدا عن العُطْل الذي تعاني منه الدبلوماسية المغربية على مستوى التوقيت، ( لننتبه مثلا لماذا توقيت إغلاق المغرب لسفارته في فنزويلا مع أنها دولة لم تكن يوما مع موقفنا من الصحراء، ولم يغلق سفارته في الجزائر، ولم يطرد السفير أو يستدعيه على الأقل لاستفساره عن التحرشات الجزائرية على حدودنا الشرقية، ناهيك عن احتضان مرتزقة البوليساريو على ترابها منذ عقود)، إذن بعيدا عن كل هذا، لا يمكن للمرء إلا أن يتفهم قرار الدولة المغربية بقطع علاقتها مع إيران/ النظام السياسي، انطلاقا من مدخلين، الأول متعلق بالسيادة، وليس هناك من مرجع للسيادة إلا المصالح العليا للوطن، هذا بموجب القانون الدولي والذي يعتبر السيادة الخارجية للدولة غير مجزأة وغير مقيدة، وهذا ما لا يمكن لطويلي اللسان في «المنار» وأسيادهم في «العالم» أن يشككوا فيه. الثاني ذو ارتباط سببي بالأول هو واقع المتشرد الطائفي الذي تعيشه بلدان عربية فرطت في سيادتها الداخلية وسمحت لأطراف سياسية ذات أجندات سياسية محضة بركوب موجة تصدير الثورة الخمينية كثورة سياسية اتخذت لبوسا دينيا مشكوكا فيه، فكان أن أصبحت هذه الأطراف أكبر تهديد للسيادة الداخلية لهذه البلدان. ووفق هذا التصور ليس هناك من فرق بين الأفكار الخمينية والأفكار الوهابية، فكما ذقنا مرارة الثانية في 16 ماي، فإن المنطق يقتضي التوجس من ما عداها من الأفكار السياسية الخمينية المسربلة بلبوس ديني، ولنا في التجربة اللبنانية العبرة الكبرى، عندما تحول هذا البلد الجميل إلى بركان طائفي فاقد السيادة، فأي سيادة داخلية يمكن أن تكون لدولة غير قادرة على تنظيم حمل وتوحيده السلاح ونزع سلاح المليشيات؟ أي دولة هذه التي يدفع كل شعبها ثمن قناعات أقلية أو طائفة من شعبها؟ -2 أين مغرب اليوم من قيم التعايش والاختلاف؟ في السنة الماضية احتفل المغرب بمرور اثني عشر قرنا من تاريخه كدولة، وبغض النظر حول ما إذا كانت اثنتا عشر قرنا هي كل تاريخه أو بعض من تاريخه، فإن نشوى الاحتفال، على رمزيتها لا ينبغي أن تنسينا حقيقة أن التشيع كفكر ومذهب كان مكونا أساسيا من مكونات هويتنا، ألم يكن المؤسسون الأوائل للدولة المغربية شيعة؟ ( أنظر العقد الفريد في تاريخ الشرفاء التليد - تأليف الدكتور أمل بن إدريس بن الحسن العلمي) ألم يكن الموحدون أيضا متأثرين بالفكر الشيعي، فكان أن عرفت الدولة المغربية عظمة غير مسبوقة وغير ملحوقة؟ ( أنظر المعجب في تاريخ أهل المغرب- تأليف عبد الواحد بن علي المراكشي)، عندما استطاعت هذه الدولة أن تكون منارة هادية في ليل الفتن المشرقية، وتعرف أزهى أزمنة الفكر الفلسفي والفقه المالكي وباقي العلوم، وهذا ما نجده على نحو واضح في «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» للناصري، حيث كان ابن رشد صاحب كتاب «الكشف عن مناهج الأدلة..»و القاضي عياض الفقيه المحدث والعالم المالكي صاحب كتاب «الشفاء»، وكتاب المدارك في أربعة أجزاء، وغيرهما من الأطباء والعلماء والمناطقة.. إن هاته الأسئلة وهذه الإحالات على اقتضابها، تجعلنا نحرص على أن تكون المسافة التاريخية التي تفصلنا عن مؤرخي الملل والنحل في القرون الأولى للإسلام هي نفسها المسافة التي ينبغي أن تنعكس في نظرتنا إلى الخلاف الإيراني المغربي اليوم، منطلق أن الخلاف المغربي الإيراني اليوم، له حيثيات ليست بالبت والمطلق، حيثيات الخلاف السني الشيعي، فإذا كانت الجغرافيا والديموغرافيا هي ما فرضت على البحرين والسعودية والعراق والكويت أن تكون طرفا في فتنة مذهبية، تتخذ حتى الساعة أشكالا سياسية وإعلامية وديموغرافية متناسلة منذ قرون، فإنه لا ينبغي لنا أن ننسى أن عظمة المغرب، كانت في ترجيحه قيم التعايش والتسامح تجاه من خالفوه الملة والمذهب، ومن موقع الانتماء إلى منطق العصر ورهاناته المستجدة، فليس شأننا أن نستعيد حادثة الاحتكام وننحاز لهذا الطرف أو ذاك، من منطلق أنها حادثة لها حيثياتها التاريخية التي لم يصلنا عنها إلا النزر القليل، ففي مغرب اليوم العازم عن سبق إصرار، على السير حثيثا على منهاج أجداده، الذين خطوا بتسامحهم أروع القيم وأكثرها انفتاحا، سيتوجب علينا طرح موقع الفكر الشيعي في الخريطة الدينية بالمغرب فرصة لنجدد الوصل واللقاء مع هذه القيم.