يدرك المسؤولون في سوريا جيدا أن التحرشات والاستفزازات التي تقوم بها الولاياتالمتحدةالأمريكية ضد بلدهم مرتبطة بما يجري في العراق، وقد عبر فاروق الشرع (وزير الخارجية السوري) عن ذلك صراحة في لقاء مع الجزيرة قائلا: "كلما زاد الضغط على القوات الأمريكية داخل العراق، كلما زاد التحرش بسوريا"، كما أن التحرشات ذاتها تعزف على إيقاع الضغوطات التي تفرضها المقاومة الفلسطينية على حكومة شارون. ووعي سوريا بهذه الضغوطات الأمريكية الصهيونية المزدوجة جعلها تقتنع بأن مسلسل التنازلات لن يوقف الهجمات التي اتضح مصدرها الأساس، وبالتالي وجب التصدي لها والانسجام مع نفس الايقاع داخل العراق وفلسطين ولبنان، وهنا نفهم الانتقال من التعاون الإيجابي مع المطالب الأمريكية إلى الرد القوي الذي تجلى أخيرا في تذكير فاروق الشرع بالثوابت السورية المتمثلة في رفض التبعية، ورفض الهيمنة الأجنبية والتشبث بتطبيق القانون الدولي، ووصل الرد إلى قمته عندما وصف فاروق الشرع في دمشق الإدارة الأمريكية الحالية بأنها إدارة استثنائية لم تسبقها إدارة للبيت الأبيض على هذا المستوى من العنف والحماقة، وكان الشرع قبل ذلك قد قدم نصائح لأمريكا قائلا: >إذا أرادت الولاياتالمتحدة، مهما كانت قوتها جبارة، أن تنجح في سياستها الكونية، فيجب أن تكون أقل غرورا وأكثر تواضعا<. إن الولاياتالمتحدةالأمريكية ماضية في إعادة تشكيل المنطقة، واستثمار غزو العراق بوصفه درسا نموذجيا، وذرائعها جاهزة، ويبدو أن الانحناء السوري لن يوقف العاصفة بقدر ما سيكون نصرا نظيفا تستغله الإدارة الأمريكية الحالية في الانتخابات الرئاسية المقبلة في نونبر ,2004 لتفوز بولاية ثانية. ولم تكن سوريا ضمن دول محور الشر الذي أعلن عنه جورج بوش الصغير في خطابه السنوي عن حال الاتحاد في 29/01/,2002 إلا أن وجود دمشق ضمن لائحة الدول الداعمة لالإرهاب في نظر الولاياتالمتحدةالأمريكية، ووجودها داخل المنطقة الحساسة والمستهدفة من الإدارة الأمريكية الحالية، جعل أصابع الاتهام توجه إليها أكثر من كوريا الشمالية التي تعترف صراحة، وفي وضح النهار، بأنها تطور أسلحتها المحظورة أمريكيا وتساوم على ذلك. فمنذ سقوط نظام صدام في 9/04/2003 تواصلت التصريحات من مسؤولين أمريكيين يتهمون فيها سوريا بما يستحق العقاب، لينتزعوا منها مزيدا من التراجع والتنازل لصالح التجمع اليهودي المغتصب. وقد انتقلت الاتهامات الأمريكية من نقل الأسلحة العراقية إلى سوريا، ونقل أجهزة رؤية ليلية إلى العراق! إلى اختباء بعض قادة النظام العراقي السابق في سوريا، مرورا برعاية المنظمات الإرهابية في نظر الإدارة الأمريكية الحالية وصولا إلى معارضة التسويات السياسية الأمريكية، وعرقلة جهود السلام، ورغم الاستجابة السورية لبعض الضغوطات التي تمارسها واشنطن، إلا أن هذه الأخيرة تقابل الاستجابة/التنازلات السورية، بضغط أكبر وأكثر إحراجا، مما دفع بأحد المحللين إلى القول إن سوريا تجد نفسها محشورة في خانة الإذعان المهين لأوامر الإدارة الأمريكية... وهي التي حرصت طوال نظامها النصيري على أن تبقى خارج دائرة الانتقاد الشعبي العربي، بسبب تقديمها تنازلات جديدة لا تنسجم مع حماية الخطاب السوري الرسمي الذي دشنه بشار الأسد منذ توليه الرئاسة. ماذا تريد أمريكا من سوريا؟ في 21/05/2003 دعا سفير إسرائيل لدى واشنطن إلى تغيير النظام في إيران وسوريا، مقترحا انتهاج أساليب العزلة الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية والضغط النفسي، وهو ما تمارسه واشنطن اليوم بالحرف، فالأنشطة العسكرية الإيرانية وتطوير صاروخ شهاب 3 الذي يصل إلى الكيان الصهيوني، جعل واشنطن تعبر عن قلقها بوضوح، كما أن الدعم السياسي والإعلامي الذي توفره سوريا لبعض فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية على وجه الخصوص، جعل من سوريا دولة غير مرغوب فيها وداعمة لالإرهاب، وبالتالي وجب تأديبها حتى تدخل بيت الطاعة الأمريكي وإلا ستواجه عواقب وخيمة، وما درس بغداد عنها ببعيد. لا يحتاج القارئ إلى كثير من العناء والذكاء ليدرك أن قلق واشنطن من سوريا وإيران ناتج عن القلق الذي تعيشه إسرائيل من هاتين الدولتين الإسلاميتين، وليس جديدا أن يعلن السيد فاروق الشرع وزير الخارجية السوري في 27/07/2003 أن إسرائيل تعتبر مصدرا رئيسيا للمعلومات التي يتلقاها كبار المسؤولين الأمريكيين مضيفا أنها (أي إسرائيل) تقف وراء أية علاقة متردية بين الولاياتالمتحدة وأية دولة عربية، وقد ذهب البعض إلى أن الحروب الأمريكية ضد المنطقة هي في الصميم حروب إسرائيلية بالوكالة، وهنا يتضح المستفيد من الأهداف المعلنة والمطالب التي على سوريا تنفيذها بالحرف، وعلى رأسها تقليم أظافر حزب الله ونزع أسلحته، وآخرها التطبيع الشامل مع الكيان الصهيوني مرورا بعدم معارضة ما يجري في فلسطين والعراق من طبخات سياسية لا شعبية، وكذا سحب جيش (الاحتلال ) السوري (في نظر أمريكا) من لبنان، ليخلو الجو للعدو وتحقيق تسوية معه بما يوافق مصالحه وينسجم مع الوضع الجديد الذي خلقته واشنطن باحتلالها العراق الشقيق، وبسط هيمنتها على المنطقة، ونزع أي إرادة في المقاومة. الرد السوري يرصد المتتبعون للعلاقة السورية الأمريكية أنها خضعت منذ 1963 (سنة استيلاء حزب البعث على الحكم في سوريا) لشد وجذب، وكان هناك نوع من التفاهم غير المعلن بين البلدين عبرت عنه بعض الالتفاتات الرسمية كزيارة أولبرايت -وزيرة الخارجية الأمريكية حينها- لدمشق إثر استلام الأسد الابن للسلطة. إلا أن أحداث 11 شتنبر جعلت صقور الإدارة الأمريكية يستهدفون سوريا: إذ صرح ريتشارد ارميتاح نائب وزير الخارجية الأمريكية أن الولاياتالمتحدةالأمريكية قد تقوم بعمل عسكري ضد بعض الدول وذكر سوريا بالإسم، مما دفع بالحكومة السورية إلى استدعاء السفير الأمريكي بدمشق تيودور قطوف لإبلاغه احتجاجها الشديد على تصريحات أرميتاح. ويبدو أن الردود القوية من القيادة السورية قد دخلت نفق التنازلات مباشرة بعد سقوط نظام صدام المفاجئ، والانهيار السريع لمن كلف بالدفاع عن بغداد، وشرعت سوريا في الاستجابة والتعاون مع واشنطن بتقديمها معلومات استخباراتية في إطار المساهمة في مكافحة الإرهاب وكذا إقفال بعض مكاتب المقاومة وإخراج بعض رموزها من دمشق، بالإضافة إلى ضبط الحدود العراقية السورية، أملا في تخفيف الضغوط المتزايدة، إلا أنها لم تتراجع، بل تواصلت وتحولت إلى تهديدات مباشرة واستفزازات عسكرية على الحدود، وهو ما أقنع القيادة السورية على ما يبدو بأن مستنقع التنازلات بدون قرار، ولا يقف عند حد، لذا كان تصريح فاروق الشرع الذي وصف فيه الإدارة الأمريكية بالحمقاء مؤشرا واضحا على استرجاع الصلابة للمواقف وبداية الصعود، وشرع الشرع، الذي كان يتحدث في حوار مفتوح مع الصحفيين السوريين يوم الأحد الأخير، في فضح السياسات الحمقاء للإدارة الأمريكية الحالية قائلا: إن لدى سورية وعدا من أعلى مستوى في الولاياتالمتحدةالأمريكية بانسحاب إسرائيل حتى خط الرابع من يونيو عام 1967 ووعدا آخر بأن الولاياتالمتحدة لا توافق على ضم بوصة واحدة من الجولان المحتل لإسرائيل: ثم تساءل الشرع: كيف تتقدم الإدارة الأمريكية بمطالب إلى سورية تعتبرها بمثابة شروط لإعادة إحياء عملية السلام دون أن تفي هذه الإدارة بالوعود التي قطعتها على نفسها سابقا؟. ووصف الكاتب طلال سلمان تصريح فاروق الشرع بأنه رد قوي، وقال في مقالة نشرتها صحيفة السفير اللبنانية يوم 28/07/2003 لم يسبق لهذا الدبلوماسي العريق أن استدرج أو استفز فقال ما لا يريد قوله، أو ما يفترض أن الوضع القائم لا يحتمل فيه صراحة مطلقة، تجعله يسمي الأشياء بأسمائها... وبالتالي فكل كلمة قالها فاروق الشرع، وكل توصيف أعطاه هو تعبير دقيق عن حقيقة الموقف السوري في مواجهة حرب الضغوط الأمريكية لحساب إسرائيل وجاء في تصريحات فاروق الشرع أن أي وعد تعطيه أمريكا تستطيع إسرائيل أن تلغيه، وقال إن أمريكا لم تحكم بإدارة في مثل هذه الحماقة والعنف وأضاف أن الكونغرس الأمريكي يفترض في نفسه أنه هو مصدر الشرعية الدولية. وهاجم الشرع الكونغرس الأمريكي قائلا: لو كان قانون محاسبة سوريا صادرا عن قوة إلهية لكان أكثر تواضعا لأن الله غفور رحيم، بينما الكونغرس لا يغفر ولا يرحم.... وبدون شك أن هذه التصريحات القوية قد فاجأت المنتقدين للسياسة السورية وموقفها من الحرب على العراق الذي اعتبره البعض مفتقرا إلى لمسة الحساب السياسي مماجعله يعول على المقاومة العراقية قبل السقوط، وبالتالي تسلق شجرة لا سياسية عالية من الحماس العدائي للأمريكان، وهو اليوم يحاول النزول عنها بطرق شتى كما أشار ياسين الحاج صالح في أخبار الشرق يوم 2/05/.2003 فما السر إذن في عودة الصلابة إلى المواقف السورية؟ إذا كانت التنازلات السورية تتماشى مع حجم الضغوطات الأمريكية التي جاءت بعد نشوة الانتصار على بغداد وسقوطها السريع، فإن قوة التصريحات السورية تنسجم حتما مع المقاومة العراقية الباسلة والمتصاعدة، وكذا مع هيبة ومصداقية الولاياتالمتحدةالأمريكية المتهاوية التي ثبت على رئيسها الكذب الصريح. وأخيرا... إن الرد القوي لحزب الله على التماطل الصهيوني في المفاوضات حول الأسرى، جعل إسرائيل تعلن بسرعة استعدادها للتفاوض الجدي وتبادل الأسرى، وأخذ التهديدات على محمل الجد، وهو ما يعني اتقان اللغة التي يفهمها العدو، وأن سياسة الاسترضاء لا تأتي بالنتائج المرجوة، فأمريكا لم تتذكر المعلومات القيمة التي قدمتها الحكومة السورية للولايات المتحدة في حربها على الإرهاب، وبمجرد وصول معلومات من الكيان الصهيوني تختفي كل الإيجابيات السورية المعروضة. وإذا كان نعوم تشومسكي قد حدد شرطين أساسيين لاختيار الضحية الملائمة التالية بعد العراق، في أن يكون الهدف أولا لا حول له ولا قوة بشكل كامل، وثانيا: أن يكون هدفا مهما وقيما يستحق عناء السيطرة، فإنه قد خلص بعد التحليل إلى أن سوريا تشكل هدفا محتملا، مشيرا إلى أن إسرائيل ستكون سعيدة بالمشاركة، ولن يوقف حماقات ومغامرات الإدارة الأمريكية، التي سيطر عليها المحافظون الجدد، إلا مزيد من التشبت بالحقوق، والنجاح في تحيين السياسة التي مارستها سوريا طيلة حكمها وهي لا مع أمريكا كليا ولا ضدها كليا لأنها تعتقد أن استعداء أمريكا مشكلة وصداقتها مشكلة أيضا، والحل يكمن في مدى إتقان لغة المصالح مع المحافظة على الثوابت وتحصين المكتسبات. وما دامت أعظم دولة في العالم تساس من قبل بعضالمحافظين، فإن السيناريوهات المحتملة تبقى مفتوحة علي كل الخيارات . إسماعيل العلوي