كان استقبالا حماسيا في مطار محمد الخامس، الجو كان دافئا وزاد من دفئه حرارة اللقاء والعناق، عناق العائلة والأهل،الابن الصغير كان يفرك عينيه من النعاس الذي داعب جفونه، انحنى عليه الأب الشاب "عبد الصمد حيكر" وضمه إليه ضمة طويلة لعله يعوض إحدى عشر يوما من الغياب، الذي لا يشبهه غياب. بالتمروالحليب ولافتة بيضاء مرسومة باللون الأخضر لشبيبة العدالة والتنمية، ورموز الشبيبة والحزب وأعضاء من حركة التوحيد والإصلاح بالدار البيضاء كلهم اجتمعوا لملاقاة "سفير بغداد"، الحدث الذي لم تحضر له القناتان الأولى والثانية بعدما عجزتا عن تغطية العدوان على الشعب العراقي. فرحة اللقاء لم تمنعه من زف تباشيرالنصر القادم من الناصرية والبصرة وبغداد، والتعبير عن المعنويات المرتفعة للشعب العراقي. لم يتردد العائد من قلب بغداد في قبول "حوار" مع "التجديد" لبسط الحقيقة من قلب المعركة. فكان الحوار التالي:
كيف كانت ظروف عودتكم من العراق إلى المغرب؟ بسم الله الرحمن الرحيم، رحلة العودة من العراق مهما عانيته من إرهاق بدني، فإن الإرهاق الحقيقي هو مغادرتي للعراق، وقد تركت إخواننا في العراق يعانون من ويلات القصف الوحشي الأمريكي، وما كان لي أن أنصرف عن العراق وأغادرها عائدا إلى المغرب إلا بناء على الرغبة الملحة والأكيدة للإخوة العراقيين، الذين يعتبرون أنهم من الناحية البشرية ليس لديهم خصاص، ولكنهم بحاجة إلى من ينقل حقيقة ما يجري داخل العراق إلى العالم الخارجي سيما وأن هذه الحرب تحيط بها مؤامرة إعلامية. فهم بحاجة إلى أن تنقل الأجواء السائدة هناك إلى خارج الأراضي العراقية.
حملت لنا الأخبار الواردة من قلب المعركة قصف العدوان الأمريكي البريطاني الغاشم لحافلة كان على متنها مجموعة من السوريين وهم في طريقهم للعودة إلى سوريا، هلا حكيتم لنا ظروف القصف؟ الذي حدث أن حركة التنقل بين سوريا والعراق فيها اتجاهين، الأول من سوريا إلى العراق، وهذا المسار يشهد حركة حثيثة، والمسار المعاكس يعرف قلة المغادرين في اتجاه سوريا. والحديث عن الحافلة التي تم قصفها أخبركم أنها حافلة كانت تقل عددا من المتطوعين وفي مقدمتهم سوريون للجهاد، وأثناء عودتنا من بغداد إلى دمشق أخذنا مسارا أكثر أمانا حسب ما أخبرنا السائق، وقد وجدنا جسرين تم قصفهما بعنف وقوة من قبل الأمريكان. والرئيس صدام حسين قبل بدء القصف كان أعلن في خطاب له أن كل العراقيين الذين يرغبون في مغادرة العراق فهم أحرار، فكانت بعض العائلات تغادر العراق، لكن في يوم الثلاثاء ابتداء من الثانية عشر زوالا أصبحت السلطات السورية ترفض دخول العراقيين أرض سوريا، وبالتالي كان الكل يرجع.
كيف تركتم العراق والعراقيين؟ مهما بدلت من جهد لأعبر عن حقيقة ما يجري فما يميز الشعب العراقي في هذه اللحظات فإن اللسان لن يسعفني والكلمات لن تطيعني.الشعب العراقي يعتبر أن الله تبارك وتعالى قد اختاره لهذه المهمة المتمثلة في مواجهة الطاغوت الأمريكي الصهيوني، وهو موقن أن هذا الاختيار قد يترتب عليه إما نصر مؤكد وإما شهادة في سبيل الله، وهذه ثقافة سائدة عند كافة فئات الشعب العراقي، على الأقل من لاقيت، وهذا الإحساس تعبير عن أن الناس لا ينتابهم أي خوف، ولا أي تردد أو تراجع، والشعب العراقي من الناحية العسكرية له حدود دنيا في التكوين العسكري وهو بأكمله مسلح، والجيش العراقي مهامه الدفاعية محدودة جدا، مما يدل على أن للعراقيين قوة جبارة في رد العدوان ودحره. والشعب العراقي كل أفراده حيويون شبابا وشيبا لهم كما يعبرون هم عن ذلك "واجبات عسكرية" وكل فرد عنده مهمة عسكرية دقيقة، ولمسنا في الشعب العراقي وعيا عاما، ومحنة الحروب التي مر منها أكسبته خبرة خاصة، حتى أننا لم نضطر للسؤال عن بعض التفاصيل، ونجد أي فرد من الشعب العراقي يجيبنا عنها، مثلا عند عودتنا إلى سوريا كل مرة كنت أرى أحد الأشخاص واقفا فوق ربوة، وسألت السائق ما عسى هذا الشخص أن يرد؟ وأخبرني أن تلك تقنية بمثابة فخ، يماهي العدو أنه بمفرده، ولكن بمحيطه هناك أنصار آخرون، هذه التوضيحات وغيرها لم نكن نستقيها من المسؤولين بل من أناس عاديين، فالشعب العراقي قادر على الإبداع والإنتاج حتى في أجواء الحرب، كنت في يوم الأربعاء قبل بدء القصف بيوم واحد ذهبت إلى مقر الاتحاد العام لشباب العراق، وكان الغرض أن نلتقي بعض المسؤولين لإخبارهم بوجودنا، وترتيب بعض الاتصالات وأخذ بعض المعطيات، وفي ظل تلك الظروف وجدنا بجوار المقر العام محلا لبيع بعض المعدات (خوذات واقية من الرصاص لحماية الرأس، ومضخات المياه، وبعض المنتوجات التي يحتاجها الشعب إبان الحرب، وهي من إنتاج الشباب العراقي، فالشعب العراقي في ظل الحرب آلته الإنتاجية مشتغلة ومتحركة. وأنا في الحقيقة كما قلت لعدد من المنابر الإعلامية هناك في العراق في المقام الأول، أمريكا تستهدف العنصر العراقي قبل استهداف ثرواته الطبيعية، وأمريكا بالنسبة لها الشعب العراقي شهم متمرد، لا يريد أن يخضع لإملاءاتها المتعددة، وهو يدافع عن أرضه الآن عينه وقلبه على فلسطين، وهذا ما لمسناه في أكثر من مناسبة. الشعب العراقي بكلمة مختصرة تركناه ولسان حاله قبل لسنا مقاله يؤكد أنه موقن بالنصر المظفر، ولذلك سمت القيادة العراقية هذه المعركة بمعركة "الحواسم" وبالنسبة إليهم هذه هي اللحظة التي يتم فيها الحسم النهائي مع الطاغوت الأمريكي البريطاني الصهيوني، والإخوة العراقيون يؤكدون أن النصر حليفهم وأن الأمريكان في أقرب وقت سيلجؤون بصفة أو بأخرى إلى إعلان إيقاف الحرب.
مقاطعا: لحفظ ماء وجه أمريكا إن بقي لها! مؤكدا: بالطبع، وهذه هي معنويات الشعب العراقي، وفي كثير من الأحيان كنا في فندق توجد به الصحافة الدولية، وأغلبهم حضر الحرب في أفغانستان أثناء العدوان الأمريكي، وفي بلغراد، وغيرها من الأماكن، فهم قد اكتسبوا نوعا من الخبرة واستأنسوا بجو الحرب، ولم يبق عندهم لا دهشة ولا خوف، وفي بعض الأحيان كان ينتابهم خوف شديد في حين أن الإخوة العراقيين منشرحون ويتبادلون النكت وأطراف الحديث بشكل عادي جدا، وهذه العبارات لن تصف حقيقة الحالة النفسية والمعنوية التي يعيشونها، لكن بكل تأكيد هم موقنون أنهم منتصرون، ومعتزون بقول "لا" صراحة في وجه أمريكا، وهم على أي حال مؤمنون أقوياء.
في أيام العدوان كانت تتناقل بعض الفضائيات القصف المباشر لبغداد، وكنت وقتها في عين المكان كيف هو شعورك وشعور "البغداديين"، سيما وأن المشاهد يخيل إليه أن المدينة لم يبق منها أي شيء؟. لا أخفيك أنه في أول الأمر انتابنا بعض الخوف، وأول مرة أعيش جو الحرب، لكن أمام الصورة التي وصفتها للشعب العراقي والحالة النفسية التي يعيشها أصبحنا مستأنسين، أحيانا القصف مستمر وكنا ننتقل بين فندق وآخر وبينهما مسافة تقارب 200 متر. في اليوم الأول من القصف (العدوان) بالقرب منا حوالي 150 مترا تم قصف القصر الجمهوري على الأقل ب 15 صاروخا من نوع "كروز" وفي يوم السبت مساء الطائرة التي تحطمت كانت تبعد عن مكاننا ب 50 مترا تقريبا، وفي الليل كنا ننام ولا نكترث بأي شيء، وكانت توقظنا في بعض الأحيان بعض القذائف المرعبة، لكن ليس إلى درجة الخوف والانصراف.وكان كل همنا أن نعيش وإخواننا في المحنة، في بعض الأحيان كنا نضطر للنزول إلى الملجإ (وهو في الحقيقة عبارة عن قبو أسفل العمارة). وإنها حرب عدوانية إجرامية لعدة اعتبارات: أولها: أنها غير متكافئة من ناحية العدة، وفي بعض الأحيان كنا نعرف وقت بدء القصف من بعض الصحافيين لأن لهم مصادرهم، وكانت تأتينا في الحين أخبار مفادها أن ب 17 طائرة من نوع 52 (غير المكشوفة بواسطة الرادار) انطلقت لقصف بغداد، في المقابل نجد الشعب العراقي الذي تم تجريده من الأسلحة لمدة تزيد عن العقد، وتمت مقاومة إنتاجه العسكري والحربي، يواجه هذه الآلة الحربية بأسلحة تقليدية ربما قد لا تنفع حتى في صيد الوحوش. ثانيا: أمريكا لا تستهدف المنشآت العسكرية، ولا المراكز الحربية فقط، وإنما تستهدف الأحياء السكنية والمنشآت المدنية من مستشفيات وجامعات.
مقاطعا: هذا يعني أن ادعاء أمريكا استهدافها للعسكريين مجرد افتراء. أنا أقول لك أنه تم استهداف أحياء سكنية وأماكن قريبة من المستشفيات، ففي يوم السبت بالقرب من مستشفى اليرموك (أكبر مستشفى في العراق) تم القصف وفيه أكبر عدد من النزلاء الجرحى في حالة خطيرة. وحقيقة القصف (العدوان) استهدف المدنيين والأحياء المدنية، وتم استهداف بعض الأماكن حيث توجد دروع بشرية مثل محطة الكهرباء، وإذا سمعتم ذلك في وسائل الإعلام فهو مجرد تضليل، وبالمناسبة كل وسائل الإعلام بما فيها التي تبث تقارير ميدانية، ينبغي التعامل معها بحيطة كبيرة.
وفيم يفيد معرفة وقت القصف وإقلاع الطائرات المغيرة؟ فائدتها تختلف حسب المتلقي فالإنسان العادي تفيده في طلب الأمان والاختباء، والصحافي لتغطية الحدث والتصوير، والعسكري لتهيئ الخطة الدفاعية الملائمة، وهذه المعلومات لم تكن في الحقيقة معلنة، فقط عندما كنا في بهو الفندق الذي نقيم فيه نلتقي بعض رجال الصحافة الذين نسجنا معهم علاقات، خاصة الصحافة الغربية الفرنسية، وكانت بحكم إرسال الأخبار إلى وكالاتها المحلية كانوا يحصلون في المقابل على أخبار من هذا النوع، وأؤكد لك أن الأخبار من هذا النوع لم أحصل عليها إلا مرتين، وكانتا من غير تهيئ مسبق، ولم يكن معلنا.
الصحافيون الذين كنت تلتقي بهم، هل كانوا يرسلون الخبر (المعلومة) صحيحا، ووكالاتهم هي التي تزيف الخبر أم عندهم نية مسبقة للتعتيم والتضليل؟ أكذب عليك إن قلت لك شيئا من هذا النوع، لأنه لم يكن عندي تحري من هذا النوع، لكن أؤكد لك أن مبعوث CNN الأمريكية طرده العراقيون من الفندق الذي كنت أقيم فيه نظرا لكونه لم يكن يخبر من غرفته بالفندق، وكان يتبع فقط بعض الأخبار من هنا وهناك، وكان يبث سمومه وكانت قناة CNN مصدرا لوكالات الأنباء الأجنبية الأخرى، بالشكل الذي يجعل الحرب الإعلامية ذات مصدرأمريكي صهيوني يتحكم في باقي وكالات الأنباء. وتم اكتشاف أحد صحافيي TF1 الفرنسية عند زيارته لمحطات الكهرباء حيث توجد الدروع البشرية كان ينحرف عن مهمته الإعلامية، والصحفية ليتحول إلى مخوف من البقاء كدروع بشرية، وتم التعامل معه.. وكنت أنتظر طرده هو الآخر، على أية حال كانت السلطات العراقية تنظم للصحافيين لقاءات على شكل مؤتمرات صحفية، وزيارات ميدانية لأماكن القصف بشكل آمن، وكان في الفندق الذي أقمت فيه سكرتارية للإعلام العراقي التي تسير جميع ظروف اشتغال الصحافيين، فهم يأخذون المعلومة كمادة أولية ثم يحولونها حسب توجهاتهم وأغراضهم.
حسب ما وصلنا طلبت من السلطات العراقية بصفتك درعا بشريا تفقد معسكرات تدريب المتطوعين، لماذا هذا الطلب، وماذا وجدتم هناك؟ أوضح أمرا أن العراق تميز بين الدروع البشرية وبين المتطوعين الفدائيين المجاهدين، فالدروع البشرية يقدر الإخوة العراقيون أنه لا مجال لأن يكون العرب من ضمنهم لأن المنشآت الحساسة داخل بغداد وعموم التراب العراقي، كانت مهددة أكثر من غيرها بالقصف، والماكثون بها معرضون أكثر من غيرهم للموت، والإخوة العراقيون جزاهم الله خيرا بمجرد وصولنا استشعروا حقيقة الموقف، وتأثروا لذلك فقالوا إنهم غير مستعدين للتضحية بأي أحد منا في هذا الإطار، لذلك عندما تعرفوا على صفتي البرلمانية التقيت بمسؤولين ليسوا من الجيش، ولا من الهيآت السياسية، مسؤولين في منظمة تسمى (منظمة الصداقة والسلم والتضامن) كانت مشرفة على عملية توزيع الدروع البشرية، وألحوا إلحاحا على ألا أكون في الدروع البشرية، وطلبوا مني العودة في أقرب وقت ممكن إلى المغرب كي أصف وأنقل إلى الإخوة المغاربة حقيقة ما يجري هنالك، فقلت لهم على الأقل أنا أتيت لأكون درعا بشريا ولا تحرمونني من هذا الحق، فطلبت منهم أن ينظموا لي زيارة إلى المحطات التي توزعت فيها الدروع البشرية، ولم أكن الوحيد بل كانت مجموعة أطر، فنظمت هذه الزيارات واطمأننا على الماكثين بها وكانوا على أحسن حال، والقذائف تتهاوى قريبا جدا منهم بعضهم كان يصيبهم شيء من الخوف. فالدروع البشرية رائعة جدا، وهي تعبير عن الضمير العالمي الإنساني الرافض للظلم والعدوانية بغض النظر عن الجهة التي يقع عليها هذا الظلم، ولم يكن حضور البعد العقائدي والسياسي والايديولوجي، فوجدنا أناسا من أمريكا، وبريطانيا والأرجنتين، والنمسا ومن مختلف الجنسيات. والذي أثر في بشكل قوي شيخ سوري عمره أزيد من 75 سنة لا يكاد يستقيم في مشيته متكئا على عكازه، وجاء طالبا للجهاد (متطوعا) والعراقيون حاولوا إقناعه بالعدول عن فكرته وبقي مصرا وملحا في طلبه، ولم ينهض لتناول وجبة الغذاء إلا بعد أن تلقى وعودا بضمانات مؤكدة على أن يودعوه في إحدى محطات الدروع البشرية. بالمقابل هناك وفود للمجاهدين والمتطوعين الفدائيين، وهذه عملية عليها تعتيم مطلق من كافة المنابر الإعلامية، وأؤكد لك أنه في كل دقيقة يتوافد على العراق شباب من مختلف أرجاء المعمور خاصة الأقطار العربية منها متطوعون إلى الجهاد يذهبون بهم إلى قسم التوجيه السياسي التابع لوزارة الدفاع العراقية، ومن ثم إلى الكلية الحربية ليتلقوا تداريب على السلاح واستعمال بعض المعدات العسكرية ثم للانخراط في مهام دفاعية عراقية، والنسبة العالية من المجاهدين من سوريا الذين هبوا ولبوا نداء الجهاد بنسبة كبيرة، فإلى حدود يوم السبت الماضي أزيد من ألفي متطوع من سوريا فقط ثم من فلسطين، ومغاربة، وأردنيون، ومن جنوب افريقيا، ويمنيون، ومن سلطنة عمان... لكن الشيء المؤكد هنا هو أنهم جاؤوا ويتحدثون بلغة الرغبة للاستشهاد في سبيل الله، وهذا ما لمسته، فثقافة الجهاد خاصة في المجتمع الخليجي أصبحت هي الأصل، ثانيا: أن الإسلام متجدر وهو المحرك الأساس. تجد بعض المتطوعين المجاهدين التزامهم بالتدين ربما ضعيف، ولكن عندما يتحدثون عن أسباب إتيانه لا تلمس في كلامه إلا الخطاب الإسلامي المرغب في الاستشهاد.
هل يمكن اعتبار الإرهاب الأمريكي ولد في نفسية الأفراد والرأي العام الدولي كراهية لأمريكا، والرغبة في مواجهتها بكل الأشكال؟ هذه إشارة مهمة، إذا تأملت معي الإسم الذي أطلقته أمريكا على هذه الحرب، رغم وجود اختلاف في الترجمة من الانجليزية إلى العربية (أنا أسمي هذه المعركة شخصيا على لسان الأمريكيين: معركة الصدمة والإرهاب) وبعضهم قال معركة الصدمة والترهيب، والصدمة والتهويل والتخويف، أمريكا إرهابية بكافة المقاييس، والشعوب العربية الإسلامية إنما تقوم بواجبها وحقها في الدفاع المشروع عن حقها في الوجود وفعلا موجة الكراهية لأمريكا أولا، ولبريطانيا ثانيا، وللصهيونية بشكل عام، هي روح متنامية، ولم تعد مقتصرة على العرب والمسلمين، لكن أصبحت تشمل غيرهم من بلجيكيين، ونمساويين، وفرنسيين، ومن داخل أمريكا. لقد كان في الفندق المشرفون على تنظيم الدروع البشرية من مختلف الجنسيات، والحوارات التي كانت تتم في ما بيننا مضمونها الحقيقي هو هذا، حتى إن إحدى البلجيكيات عندما كانت تودعنا يوم الاثنين صباحا في الفندق كانت توصيني بضرورة تعبئة الشعب المغربي بمقاطعة المنتوجات الأمريكية وتحريض العمال في الشركات الأمريكية على الإضراب العام والمستمر، وروح الكراهية لأمريكا أصبحت عالمية.
كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية تتوقع أنها ستقوم بنزهة ربيع إلى العراق، ويرحب بها العراقيون بالزغاريد والورود فما حقيقة ذلك؟ فعلا العراقيون استقبلوا الأمريكان والبريطانيين بعدد كبير من الورود، لكن على الطريقة العراقية (مازحا ، ومبتسما) بالمقاومة الباسلة وتكبيد العدو أجسم الخسائر لا في الأرواح ولا في العتاد، ربما تابعتم على قناة الجزيرة فلاحا مسنا لا يملك من السلاح إلا بندقية من نوع "بارنو" صنعت سنة 1948، وتمكن من إسقاط طائرة الأباتشي، وهذه هي الورود التي يحسن العراقيون تقديمها. والخطاب الذي روج له الأمريكان (رواد الحرب العدوانية) هو داخل في إطار الحرب النفسية التي يشنها الإعلام الغربي على الأمة العربية بشكل عام، والشعب العراقي متأكد من نفسه، وهو للاستهلاك الإعلامي، وقد يكون له ما يبرره ذلك أن الأمريكيين والبريطانين كانت لهم لقاءات مع المعارضة العراقية قبل بدء العدوان، وهذه المعارضة العراقية أظن أنه لم يعد يجمعها بأرض العراق إلا بعض التاريخ، فقد عاشت مدة ليست يسيرة خارج أرض العراق، ويخيل إليها أن الشعب العراقي غير راض عن قيادته، وغير متمسك بها وغير مرتبط بها، وصوروا، ربما للأمريكان والبريطانيين هذه القضية (أن الشعب العراقي بحاجة إلى من ينقذه من جبروت وطغيان صدام) والحقيقة من خلال المعاينة أنا لا أعمل الدعاية للشعب العراقي، أشهد أن الشعب العراقي، على الأقل من التقينا بهم، ارتباطهم بالقيادة العراقية يكاد يكون قدسي، فيه ثقة كبيرة وعالية، وعندما يبث خطاب لصدام حسين في بعض القنوات المحلية أو مجرد بيان له يقرأ، وغيره، ينصتون إليه وكأن على رؤوسهم الطير، وفي هذه اللحظة بالضبط لايوجد أي تمييز بين رئيس ومرؤوس فالشعب العراقي الآن مستهدف بدليل القصف للأحياء الشعبية، والمنشآت المدنية إلى غير ذلك، والدليل الحقيقي على صدق ما أقول هو أنه لحد الآن أنباء متضاربة حول هيمنة قوى التحالف على قرية أم القصر التي هي أول نقطة على الحدود الكويتية العراقية قبل البصرة، أما في البصرة فحدث ولا حرج عن المقاومة الشعبية، في الناصرية يعيدون أمجاد أسلافهم سنة 1920 عندما طردوا المقيم البريطاني، وفي الحدود الأردنية العراقية (يتأسف) الأردنيون، لا سامحهم الله، قد سمحوا بتسرب الجنود الأمريكان، وهناك مقاومة للمواطنين العراقيين لدحر القوات الغازية، وهذه تدل على أن الشعب العراقي يدافع عن أرضه ووطنه وكرامته واستقلاله ومسألة ارتباطه بقيادته ليس فيها أي طعن ولا أي تدهور. وإذا كانت هناك مؤاخذات على النظام العراقي كما هو الشأن بالنسبة للأكراد والشيعة فإنها على الأقل مؤجلة، وهذا شأن داخلي يهون أمام العدوان الخارجي. مقاطعا: الشيعة أعطوا موقفا إيجابيا. بطبيعة الحال، الشيعة والأكراد، فهناك إجماع وطني على دحر العدوان الصهيوني الأمريكي على أساس أن الخلافات الأخرى لا يتم الحديث عنها الآن، فلم أسمع لحد الآن عند الأشخاص ولا من خلال الصحافة المكتوبة أي حديث يطعن في ارتباط الشعب العراقي بقيادته.
الحرب كذلك إعلامية، ولمسنا براعة من لدن العراقيين في إدارة هذه الحرب وإزهاق كل ادعاءات العدوان الأمريكي البرطاني، خصوصا عندما أظهرت الفضائية العراقية صور القتلى والأسرى الأمريكيين، كيف كان وقع هذا على النفوس؟ هو وقع إيجابي علينا، حقيقة نحن العرب غير العراقيين، كنا في كل مرة نسمع هذه المعطيات نعتبرها إنجازا عظيما وخارقا للعادة، يستحق الاحتفاء والتنويه، أما العراقيون فبالنسبة إليهم هذا شيء عادي، مما يجعل حقا الشعب العراقي مخيفا لأمريكا وحلفائها،فإسقاط الطائرة أو مواجهة المقاتلين، أو التعرض للقصف، فكل هذه الأشياء أصبحت معتادة ومألوفة، وربما يكون السبب في ذلك جلد العنصر العراقي (صلابته وقوته) وقد يكون سنوات الحرب التي قضاها الشعب العراقي. والكلام الذي يرددونه وفيه إجماع أن أمريكا لا تخيفهم، وستندحر، وستضطر إلى إعلان وقف الحرب بطريقة أو بأخرى.
هل طلب "بوش" المساعدة ومد يد الاستنجاد دليل على قرب نهاية الحرب والخروج منها؟ بالتأكيد ففي اليوم الأول عندما أقول أن مكانا واحدا سقط فيه 19 صاروخ من نوع "كروز" وإذا رأينا بغداد فسيكون أكثر، والبصرة وأم القصر، والموصل، والنجف، أكيد أن الخسائر ستكون أكبر، ومجرد مكوت القوات الأمريكية، قبل استئناف القصف في تلك المنطقة، فيه تكاليف، وإذا أضفنا إلى ذلك إسقاط الطائرات والمدرعات، والدبابات التي لا يتم الحديث عنها في وسائل الإعلام أكيد أن أمريكا إضافة إلى الخسائر المادية والجسدية والنفسية عندها استنزاف حقيقي.
هل يمكن القول أن الحرب الدائرة الآن هي حرب همجية وحشية ضد الحضارة؟ فعلا، الآن أمريكا تشن حربا شيطانية، وهذا اسم حقيقي ومؤشر، أنه في يوم 19 مارس كان اجتماع ثلاثي بين بوش" و"بلير" و"أثنار" في جزيرة اسمها الحقيقي "جزيرة الشيطان" وهذا ما سمعته عن قرب من العراقيين: لأن ما يروج فيها هو تعبير فعلي عن أعمال شيطانية، فيها فحش ودعارة وفسق ومجون وقد تم اختيار هذا المكان لإعلان بداية حرب شيطانية، حتى إن أحد الأمريكيين صرح قائلا (يستغفر الله) إن الله قد أخطأ عندما أودع تلك الثروات بأكملها في أرض العراق، وأنهم جاؤوا ليصححوا ذلك الخطأ. أمريكا الآن تمثل مصدر الشر عبر أرجاء العالم، ومقابل هذا الشر هناك الخير، فإما أن تكون في خندق الشر مؤيدا لهذا العدوان وإذا كنت ضده فأنت مع الخير والرحمة، والتحضر والإنسانية.
الدروع البشرية المغربية التي ذهبت إلى العراق أغلبها عاد قبل القصف، ما حقيقة الأمر...؟ ولماذا بقاء الأخ "سيسين" من الشبيبة الاستقلالية لوحده؟ أظن أن استقبالهم كان كافيا، عندما ذهبنا إلى دمشق صباح الإثنين 18 مارس مباشرة في الطريق وقع حدثان: الأول سماعنا للاجتماع الذي عقد قبل يوم في المكان الذي ذكرته (جزيرة الشيطان) تم بموجبه سحب مشروع القرار من مجلس الأمن، وعندما تعتزم أمريكا بداية القصف ستعطي مهلة 24 ساعة، ولم يفهم هذا الخبر بطريقته الصحيحة، وبدل ذلك فهم الإخوان أنه منذ لحظة الاجتماع أعطيت مهلة 24 ساعة، فرجع فردان لا أقول خوفا ولا أي شيء آخر، أخ من الشبيبة الاتحادية وأخ من اتحاد كتاب المغرب، وارجعوا عندهما لتعرفا منهما حقيقة الأمر، وهذا الأمر يخصهما، وعند اقترابنا من الحدود السورية العراقية (الأخ سيسين) اكتشف ضياع حقيبته ووثائقه، وعندها قررنا (تسعة أفراد) يرجعون إلى دمشق، وأرجع أنا بمعية محمد سيسين من الشبيبة الاستقلالية، لأنه لم يكن بأدنى وثيقة تثبت هويته، ولم يكن ممكنا رجوعه بهذه الطريقة، واقترحني بصفتي برلمانيا، قد تنفع هذه الصفة في المهمة، خاصة في الاتصال بالسفير المغربي بدمشق، وهو ما حصل، نحن الإثنان بتنا في دمشق والإخوة الآخرون وصلوا في وقت متأخر من الليل إلى بغداد، وفي الصباح، عند رجوعنا، وفي المكان الذي سبق أن جلسنا فيه في الاستراحة كان هناك مسجد نسي الأخ حقيبته فيه، وأتت سيدة تنظف المسجد وضعتها في بيتها دون إشعار المسؤولين. نعم، وعندما رجعنا شكوا في يافع صغير وأوجعوه ضربا معتقدين أنه الوحيد الذي يكون قد أخفاها فالحقيبة كان فيها حوالي 200 دولار وآلة تسجيل صغير الحجم (مشيرا إلى الآلة التي أسجل عليها الحوار) وآلة تصوير إضافة إلى الوثائق، فلما رجعت السيدة في اليوم الموالي أخبرت المسؤولين أن الحقيبة بحوزتها، وتابعنا المسير حاولنا السفر عبر الطائرة إلا أن حركة الطيران كانت متوقفة، ولم نصل بغداد إلا في وقت متأخر من الليل. (الثالثة صباحا) وفي يوم الأربعاء على العاشرة صباحا لما التحقنا بالفندق حيث يقيم الإخوة الآخرون وجدناهم حزموا أمتعتهم راجعين، ربما قد استقبلهم الإخوة العراقيون، وربما طلبوا منهم الرجوع لأن مهامهم ربما هنا في المغرب أولى من بقائهم كدروع بشرية. وطلب منا العراقيون الرجوع خاصة أنهم قالوا لي إنك قمت بعمل بطولي عند عودتك مع الأخ سيسين، وهذا كاف، وأنا لم أذهب لأقوم بعمل بطولي، بل انتدبت لهذه المهمة الشريفة لأكون درعا بشريا، وحالتها لم ألتق بعد مع المسؤولين العراقيين وكان ضروريا متابعة مشوارنا لآخر مطاف. ولم نذهب كسائحين، نصل ثم نرجع أدراجنا، كان ضروريا أن نعيش مع إخواننا العراقيين أجواء الحرب لمدة ولو يسيرة، فنحن ليس باستطاعتنا أن نرد عليهم أي شيء، لكن على الأقل حضورنا بالنسبة لهم شيء ثمين، هذا الذي حصل. والأخ سيسين فضل البقاء لأنه يعتقد أن بقاءه فيه تمثيل للشعب المغربي وتأكيد استمرارية التضامن، وربما يبقى هو المصدر الرئيس للاتصال لنقل الأخبار والمعلومات الصحيحة. المهم في هذه الرحلة، وهذه سنة إلاهية إلى أن تقوم الساعة هناك صراع بين الخير والشر، وأكيد أن الخير سينتصر علي الشر، فالإنسان جاءته اللحظة لاختيار بين الصفين، وما يحدث في الأراضي الفلسطينية والانتصارات الجبارة التي حققها حزب الله كانت عاملا أساسيا في تعميق ثقافة الجهاد على الأقل عند شباب المنطقة في الخليج العربي، والشعب العراقي محتاج أكثر لأن تعبر الشعوب عن تضامنها ، وتعبر عن مشاعرها من خلال مواقف مستمرة.
إذا انتهت الحرب فهل تتوق للعودة إلى العراق تشاركهم أفراحهم بالنصر؟ سوف أكون مسرعا للذهاب إلى هناك لكي أحتفل بنشوة النصر، وعلى أي حال وأنا عائد من بغداد كان ينتابني شعوران متناقضان، شعور أول أني كنت أريد البقاء حتى استمتع بنشوة النصر في عين المكان وفي حينه، والآخر لتلبية نداء الإخوة العراقيين لأوضح بعض الحقائق التي تجري هناك. أجرى الحوار عبد الغني بوضرة