رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مجلس الأمن.. بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    جرسيف .. نجاح كبير للنسخة الرابعة للألعاب الوطنية للمجندين    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    زاكورة تحتضن الدورة الثامنة لملتقى درعة للمسرح    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك        بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    "التقدم والاشتراكية": الحكومة تسعى لترسيخ التطبيع مع تضارب المصالح والفضاء الانتخابي خاضع لسلطة المال    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025        مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاستبداد الفكري للأقلية باسم الحرية الفردية-2- بقلم محمد يتيم
محمد يتيم
نشر في التجديد يوم 11 - 01 - 2012

5 تدليسات عصيد حول حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها وتدليسه حول منطوق ومضمون الدستور في هذه المسألة
بمقتضى مفهوم مدلس عن حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا ، وعن الحرية الفردية ، وعن العلاقة بين الحرية الفردية أو حق الفرد وحقوق الجماعة ، بين المجال العام والمجال الخاص ، من خلال استدلال سوفسطائي يقوم على " نظرية النسبية المطلقة " أي النظرية القائلة :لا وجود لحقيقة موضوعية أو على الأقل لمشترك اجتماعي يمكن البناء عليه، وأن الأشياء هي بالنسبة لي كما تبدو لي وهي بالنسبة كما تبدو لك ، وهي النظرية التي يسميها المتكلمون بنظرية " تكافؤ الأدلة " ، سعى عصيد إلى تمرير تصور عجيب وغريب عن العلاقة بين المستويين ،.
وقد ترتب على هذا الاستدلال الفاسد بناء تصور للحرية الفردية ، ولم يقل به سابقون ولا متأخرون ولم تعمل به حتى فرنسا بلد الثورة وأشدها تشددا في العلمانية ، ولم يقل به لا القانون الدولي ولا دساتير الدول الأكثر علمانية ، حيث إنه باسم تصور إيديولوجي لمفهوم الحرية الفردية يمكن استباحة المجال العام والذوق العام والنظام العام ، وأنه باسم النسبية والتطور والكونية ، يمكن مصادرة حق مجتمع كامل في التشريع والتقنيين والتنظيم وحماية المجال العام والنظام العام ، وأنه تحت ذريعة وجود قوانين يمكن أن تكون متناقضة مع الحرية يمكن مصادرة حق الأغلبية في التقنين لأنها أغلبية "رجعية " ومحافظة " ، وباسم أن القوانين ينبغي أن تكون ضامنة للتعايش، وبحكم وجود مناضلين حقوقيين في المنتديات الدولية يناضلون ضد قوانين تكرس الظلم والاستبداد ، ومنها ضمنيا كما هو مفهوم القوانين التي تضبط حرية الأفراد بعدم المساس بالنظام العام ، يمكن للبعض وقد يكون أقلية لا اعتبار لها أن يفرض فهمه للحرية الفردية أي رفضه لقوانين المجتمع ونظامه وقيمه أي أنه باسم الحرية الفردية وباسم الفهم الكوني لحقوق الإنسان ، وفهمه المتنور للديمقراطية يمكن أن تستبد الأقلية المتنورة الحداثية بالأغلبية الظلامية الرجعية .
6 حول دلالة حقوق الإنسان المتعارف عليها عالميا
بخصوص شعار الكونية يمارس بعض العلمانيين المتطرفين تضليلا لا يمكن أن ينطلي على من له أبسط دراية في القانون الدولي ، حيث يريدون منا أن نتبني منظومات فكرية وأخلاقية تنطبق أكثر على بعض التجارب الغربية التي تبنت أقصى صور العلمانية تطرفا ، حيث يتم تحييد كل ما له علاقة بالدين من المجال العام . يريدون منا كي نكون كونيين أن نتخلى عن جلدتنا وهويتنا وثقافتنا وقيمنا .
ومن دون شك فقد راكمت البشرية وتوافقت عبر تاريخها الطويل على عدد من القيم الإنسانية التي لم تعد ملكا للشرق والغرب ، أو لهذه المجموعة من الدول أو تلك منها العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية والحرية والحق في الحياة والحق في التنقل والحق في التملك والحق في التعبير عن الرأي وحرية المعتقد وهلم جرا . وفي كل هذه القيم يوجد قدر كبير من الاتفاق حتى إن الدارس أحيانا يكاد يجزم أن مساحة التقاء مضامين خطبة الوداع مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تكاد تكون شبه كلية رغم اختلاف الأزمنة واختلاف المرجعيات .
لكن هل يعني ذلك أن التوافق تام ومطلق ؟ هل يعني التوافق أن هناك مجالات بعينها بقيت غير خاضعة للتوافق ؟ الواقع أن مجالات عدم التوافق لا تزال قائمة ليس بين دول الغرب والدول الإسلامية ، بل إنها قائمة بين الدول الغربية نفسها ، بل حتى داخل نفس الدولة .
في قضية مثل قضية إباحة الإجهاض الذي يمكن النظر إليها على أساس أنها داخلة في نطاق الحربة مسألة تجد اختلافات بين الدول الغربية بل ربما داخل نفس الدولة أحيانا ، وما يرتبط به من اعتراف واحترام للحق في الحياة، ونفس الشيء بالنسبة لقضية إلغاء عقوبة الإعدام ، حيث يتفاوت الموقف فيها مثلا داخل الولايات المتحدة بين ولاية . يسبب أن الدستور الأميركي يولي صلاحية سن القوانين الجزائية إلى الولايات وحكوماتها وهيئاتها، ويقدمها على الحكومة الاتحادية. فلا يسع الكونغرس بواشنطن إلغاء عقوبة الموت الا من طريق تعديل دستوري. ولا يتحصل تعديل دستوري الا بغالبية موصوفة في الكونغرس يعضدها إبرام ثلاثة أرباع الولايات مشروع التعديل المقترح.
فكيف يمكن أن ننكر أنه بالانتقال من ثقافة لأخرى سيقع الاختلاف في تنزيل هذا الحق من حقوق الإنسان ، وأن هناك قدرا في هذا الحق يمكن اعتباره متوافق عليه عالميا ، بالقدر الذي توجد فيه مساحة تكبر أو تصغر هي مجال للتباين الذي يرجع إلى اختلاف السياقات الثقافية والمرجعيات الدينية والفكرية والفلسفية ، حيث إن فلسفة الحقوق قد تأخذ أبعادا أخرى ؟
في ثقافتنا الإسلامية ولعصيد أن لا يرى نفسه فيها لكن المغاربة وأغلبيتهم الساحقة رؤية مختلفة للعلاقة بين الحق الخاص والحق العام ، بين واجب الفرد وحق الجماعة أو عموما بين الحقوق والواجبات ، حيث يعتبر مثلا الحق في الحياة أو حفظ النفس من المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية ، وبمقتضى التصور الإسلامي لا يملك الإنسان "حق التصرف بجسده " بقتل نفسه ، ولا يمكن اعتبار هذا الفعل من صميم ممارسة الحرية الفردية بل إنه انتحار محرم شرعا وينبغي أن يحال بينه وبين صاحبه ، لأن لغيره من أبنائه وأسرته ومجتمعه حقوق فيه . ولذلك كان حفظ النفس من كليات الشريعة ، وكما أنه حق فهو واجب أيضا ,
كما أن حفظ المال باعتباره من كليات الشريعة يعطي للجماعة الحق في الحجر على " السفيه " الذي يسيء التصرف في ماله ولا يمكن مصادرة حق الجماعة في الحجر عليه بدعوى أنه يمارس حريته الفردية . وحفظ المال كما أنه حق للفرد فهو حق للجماعة ، فحق الفرد واجب على الجماعة وحق الجماعة واجب الفرد.. وهلم جرا .
وباختصار فإنه لا يمكن باسم كونية حقوق الإنسان مصادرة الاختلافات في تنزيل هذه الحقوق الراجع إلى اختلاف المنظومات الثقافية والفكرية ، لأن السعي إلى تنميط العالم والمجتمعات في منظور سكوني واحد لهذه الحقوق هو مصادرة لواحد من الأسس التي تقوم عليها حقوق الإنسان ألا وهو الحق الاختلاف . ولذلك فالمتعارف عليه من حقوق الإنسان هو المساحة المشتركة التي لا خلاف فيها ولا يؤثر فيها اختلاف السياقات الثقافية والحضارية .
7 القانون الدولي يحفظ الحق في التنوع والخصوصية
وحيث إن القانون الدولي واع بوجود هذا الهامش من عدم التوافق الكلي فإنه ترك الهامش مفتوحا للحق في التحفظ كم دققت وتوسعت في ذلك اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات التي نصت على عدد من المقتضيات الهامة في قواعد المعاهدات الدولية منها مثلا :
ما نصت عليه ديباجتها من أن مبادئ حرية الإرادة، وحسن النية، وقاعدة العقد شريعة المتعاقدين معترف بها عالمياً، مما يدل على أن الانضمام إلى المعاهدات والاتفاقيات يتم ضمن سيادة الدول .
التنصيص على مفهوم التصديق كحق للدول مع تحديد المصطلح تحديدا دقيقا في المادة 2 من الاتفاقية حيث جاء فيها بالحرف : " يقصد ب "التصديق" و"القبول" و "الموافقة" و "الانضمام" الإجراء الدولي المسمى كذلك، والذي تقر الدولة بمقتضاه على المستوى الدولي رضاها الالتزام بالمعاهدة؛
الإقرار بحق الدول في التحفظ الذي عرف في الفقرة (د) من نفس المادة على الشكل التالي :
" يقصد ب "تحفظ" إعلان من جانب واحد، أيا كانت صيغته أو تسميته، تصدره دولة ما عند توقيعها أو تصديقها أو قبولها أو إقرارها أو إنضمامها إلى معاهدة، مستهدفة به استبعاد أو تغيير الأثر القانوني لبعض أحكام المعاهدة من حيث سريانها على تلك الدولة "
تضمين الاتفاقية إمكانية التعبير عن رضا الدولة الالتزام بمعاهدة ما بالتصديق على الاتفاقية في عدد من الحالات منها الحالة التي تنص الاتفاقية نفسها على هذا المقتضى أو إذا اشترطت الدولة التصديق أو وقع ممثلها بشرط التصديق أو عبرت الدولة أثناء المفاوضات عن مثل هذه النية وهو ما تفصل فيه المادة 14 من اتفاقية فيينا التي تتضمن كثيرا من الإجراءات التفصيلية التي تسير في هذا الاتجاه وليس المجال مجال وقوف عندها .
وهذا يؤكد أ نه من التضليل السعي باسم كونية حقوق الإنسان إلى فرض منظور ثقافي أو إيديولوجي أوتأويل تشكل في سياقات فلسفية وسياقات تاريخية لقيم وحقوق الإنسان في خرق سافر لأحد أعظم مقومات حقوق الإنسان الذي هو حق الاختلاف . وإلا كيف ندافع عن حق الاختلاف بالنسبة للأفراد داخل نفس المجموعة الثقافية ونصاره لمجتمعات بكاملها ، ونقول إننا ضد الدوغما الدينية ونفرض دوغما أخرى ندعي أنها تنويرية ؟ لعصيد أن يعتبر إن ممارسة حق التحفظ ناتج عن كوننا نعيش داخل مجتمعات ظلامية منغلقة ، ولكن ليس له أن ينكر ما دمنا ذلك وفي انتظار أن يتمكن هو ونظراؤه من أن يحققوا فتوحاتهم التنويرية أن نمارس حقنا في الاختلاف وأن نحترم القوانين التي تصدرها مؤسساتنا التشريعية الظلامية ، والأحكام التي تصدرها محاكمنا الظلامية على المعتدين على النظام العام
8 الدستور المغربي يقر بالكونية مع حفظ الحق في الاختلاف
تدليس آخر صدر به عصيد مقاله وبني عليه أطروحته بكاملها هي ادعاؤه أن الإسلاميين يتبنون مفهوما للحرية الفردية يتعارض بالإضافة مع مبادئ حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها، مع تلك المبادئ كما ينصّ عليها الدستور المغربي وتلتزم بها الدولة المغربية" . فدعونا نتفحص هذه الدعوى ونحللها على ضوء نصوص الدستور كي نضبط عصيد متلبسا بتهمة التدليس .
والواقع أن الدستور المغربي اليوم قد حسم بشكل واضح في هذا الموضوع ، وتوصل إلى تركيب يجمع بين مقتضى تقرير حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا وبين مقتضيات التلاؤم اللازم بينها وبين ثوابت البلاد ومقوماتها الحضارية ، علما أن كل دساتير الدنيا تضمنت مقتضيات شبيهة بذلك .
فقد نصت ديباجة الدستور على ما يلي :
" وإدراكا منها لضرورة إدراج عملها في إطار المنظمات الدولية، فإن المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في هذه المنظمات، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها، من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا "
كما جاء في نفس الديباجة أيضا :
"جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة "
وبين الدستور في الفصل الأول منه ماهية الثوابت الجامعة التي تستند عليها في حياتها العامة حيث نص بوضوح على ما يلي :
"تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي "
وبنفس المنطق الذي يسمح به القانون الدولي وتنص عليه اتفاقية فيينا جعل التزامه بتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة كما تنص عليها الاتفاقيات الدولية رهنا بالمصادقة عليها في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة حيت تنص الفصل 19 بوضوح على ما يلي :
" يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية،الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها "
وذلك يعني أنه لا تعارض بين الإعلان عن الالتزام بمنظومة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا ،وكما نصت عليها الاتفاقيات الدولية ذات الصلة وبين المنظومة الدستورية والقانونية الوطنية ، ما دامت الشرعية الدولية تفسح مجالا للخصوصية الثقافية والحضارية وتضمن الاتفاقيات الدولية الانضمام بطواعية كليا أو جزئيا ، وتضمن الحق في التحفظ ، وهو ما يعني أن الاحتجاج بالكونية يكون في كثيرا من الأحيان احتجاجا مغالطا ، مع التنويه أننا لسنا من أولئك الذين يستخدمون حجة الخصوصية من أجل الإجهاز على حقوق الإنسان المتعارف عليها كونيا حقا وصدقا .
9 العالم كله يقرر حق المجتمع في التشريع لما يحفظ النظام العام .. لماذا نكون استثناء بإشهار سيف الكونية؟
يدعي عصيد أن : "مشكلة السيد يتيم ليست في كونه يضع "حق الجماعة" قبل حريات الأفراد الأساسية، بل في كونه يعتبر واقع التخلف واللاتسامح أمرا طبيعيا ومقبولا وحجّة على ضرورة الحجر على الحريات، ودفع الأفراد الراغبين في ممارسة نمط عيشهم المخالف الذي اختاروه نحو العزلة والخلوة في بيوتهم، لكي يبقى الفضاء العام للمحافظين والمتدينين، وهو أمر مخالف كليا لمبادئ حقوق الإنسان، ويفضي تماما إلى تكريس واقع الأنظمة القائمة على الرقابة الدينية المتشددة للمجتمع، وعلى مناخ محاكم التفتيش التي تجاوزتها البلدان الديمقراطية منذ قرون "
دعونا نفتحص هذه الدعوى ، وهل هي من البدع التي جاء بها يتيم ، والتي ما أنزل الله بها من سلطان ، أم أنها قضية مقررة في الفقه الدستوري " الكوني " ما دامت هذا المصطلح أثيرا عند عصيد ، ويرفعه سيفا مصلتا كلما أراد أن يفرض فهمه الخاص لحقوق الإنسان والحرية الفردية وللديمقراطية ، بحكم أنه يسعى أن يلزمنا بأن نأخذ هذه المفاهيم بحمولات ثقافية علمانية متطرفة ليس عليها اتفاق حتي في الدول والمجتمعات الغربية . لكن برجوعنا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولإعلانات الحقوق في عدد من دساتير العالم ومنها دساتير أوروبية ، نجد أن الأمر مختلف جدا .
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
ففي مادته 29 التي يؤكد الإعلان ما يلي :
على كل فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه وحده لشخصيته أن تنمو نمواً حراُ كاملاً.
يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي.
إعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا والعلاقة بين الحرية الفردية وحقوق الآخرين
هو الإعلان الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الفرنسية في جلساتها أيام 20، 21، 23، 24، و26 غشت 1789 بعد شهرين من النقاشات في إعلان قطيعة مع النظام القديم بعد الثورة الفرنسية وقبل سقوط الملكية. وكان هذا الإعلان سباقا إلى التأسيس لفكرة الطابع غير المطلق للحرية الفردية ، كما يقرر إمكانية الحد من تلك الحريات من ولكن من خلال القانون خاصة إذا كانت ممارستها تمس بالنظام العام ، حيث جاء في الإعلان ما يلي :
 المادة الرابعة
كل الناس أحرار والحرية هي إباحة كل عمل لا يضر أحداً. وبناء عليه لا حدًَ لحقوق الإنسان الواحد غير حقوق الإنسان الثاني. ووضع هذه الحدود منوط بالقانون دون سواه.
المادة الخامسة
ليس للقانون حق في أن يحرّم شيئا إلا متى كان فيه ضرر للهيئة الاجتماعية. وكل ما لا يحرمه القانون يكون مباحاً فلا يجوز أن يُرغم الإنسان به.
الدساتير الأوروبية يؤكد أن الحريات الفردية غير مطلقة ولا يجوز أن تؤدي إلى المساس بالمجتمع
الدستور الإسباني والطابع غير المطلق للحرية الفردية .
"حرية المعتقدات الدينية والمذاهب الإيديولوجية مضمونة ولا يمكن أن توضع لها قيود إلا القيود القانونية التي من شأنها حماية النظام العام " الفصل 16 1
يقرالدستور الإسباني في الفصل 20 4 أن الحريات المشار إليها في الدستور ( حرية التعبير ، حرية التأليف ,,,,) مشروطة باحترام الحقوق ومنها الحق في حماية الشرف والخصوصية وحماية الشباب والطفولة
يقر الدستور الإيطالي أيضا في فصله الثامن حرية المعتقدات الدينية أمام القانون .ويقر أن المعتقدات الدينية غير الكاثوليكية لها الحق في التنظيم حسب أنظمتها الخاصة شرط عدم التعارض مع النظام القانوني لإيطاليا .
يقر الدستور السويسري في الفصل 36 محددات الحقوق الأساسية حيث إمكانية الحد من الحقوق الأساسية ولكن على أساس القانون ، وأن كل حد من هذه الحريات وجب أن يتم بقانون . وتؤكد نفس المادة أن أي تقييد لحق أساسي وجب أن يكون مبررا بالصالح العام أو بحماية الحقوق الأساسية للآخرين.
ويطول بنا الوقت لو ذهبنا نستعرض ما تضمنته دساتير دول متقدمة في هذا المجال ، وبعض التشريعات التي وضعتها من أجل حماية ما تعتبره " فضاء عاما " ، وما قضية منع الحجاب في الفضاءات العامة التي أثارت جدلا كبيرا في فرنسا وعدد من الدول الأوروبية عنا ببعيد ، بغض النظر عن مدى صوابية هذا التوجه ، ولكن كي نؤكد أن لا وجود لمفهوم للحرية الفردية بالمعني الذي يورده "عصيد " إلا في مخيلته.
وبناء عليه فإنه من خلال القانون ، والقانون وحده يمكن الحد من الحريات الفردية في الفضاء العام ، إذا قدرت المؤسسات التشريعية التي تمثل السيادة الشعبية أن بها مساسا بحرية الأفراد الآخرين أو بالنظام الأخلاقي العام للمجتمع ، ولا يجوز تغليط القارئ بالقول : إن هذا حجر على الحرية الفردية ، و أخذ بمذهب : أنت حر ولكن في بيتك . فالمقابل لذلك هو استبداد الأقلية بدعوى ممارسة الحرية الفردية وبدعوى حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها .
ومسألة ثانية أكدنا عليه في مقالات ذات صلة بالموضوع بأن تطبيق القانون ليس شأنا خاصا بالأفراد أو بأمزجتهم الفردية ، وكل ممارسة من هذا النوع هي أيضا خروج عن النظام العام وسيادة القانون .
ومسألة ثالثة نحتاج أن نرجع إليها هو حرية انتقاد أي مواطن لأي ممارسة إبداعية أو ثقافية مهما كانت تعبيرا عن الحرية الفردية ... لكن الملاحظ أن بعض العلمانيين أصبحوا يمارسون إرهابا فكريا ضد المتدينين في أن ينتقدوا سياسات عمومية أو إبداعات فردية ، وهي صورة أخرى من صور الاستبداد الفكري لدى بعض العلمانيين المتطرفين .
10 ازدواجية المعايير .. دوغمائية مغلقة تارة ونسبية سوفسطائية تارة أخرى
غير أن الغريب في موقف "عصيد " أنه بالقدر الذي يبدو فيه دوغمائيا وهو يتحدث عن كونية قيم حقوق الإنسان ، ويعتبرها متعالية عن كل سياق أو تكييف ، ويصادر حق "الجماعة " الذي تؤكد عليه عدد من المذاهب الفلسفية ، وتقره كل الدساتير المتقدمة ، نجده لا يرى النسبية في القيم إلا حين يتعلق الأمر بحق المجتمعات الإسلامية حين تكون لها رؤيتها للعلاقة بين المجال العام والمجال الخاص . في هذه الحالة يتبنى عصيد المذهب السوفسطائي القائل : الإنسان الفرد مقياس كل شيء والأشياء هي بالنسبة لي كما تبدو لي وهي بالنسبة لك كما تبدو لك ، فيصادر حقها في أن يكون المجال العام بواسطة القانون، ويعتبر أن القانون يمكن أن يكون ناتجا عن مؤسسات صادرة عن ديمقراطية عددية، وليس عن ديمقراطية حقيقية التي تضمن حق الأفراد في أن يتصرفوا كما يشاؤون ولو كان ذلك مؤذيا للجماعة ومشاعرها وأذواقها وقوانينها
انطلاقا من ذلك يعلن عصيد عن خلاصة غريبة عجيبة هي أن القانون إذا تعارض مع هذه الرؤية المؤدلجة لمفهوم الحرية الفردية، وارتأى المشرع أن سلوكات خاصة لها ضررها على النظام العام وعلى الأخلاق العامة ، فإنه لا اعتبار لهذا القانون . فالقوانين ينبغي أن تكون ضامنة للكرامة والمساواة والعدل وليس كل قانون يُحترم ويحقق مبدأ التعايش المذكور، وأنه لهذا السبب يقول عصيد نجد معظم نضال الحقوقيين في المنتديات الدولية عبر العالم يتمّ ضدّ قوانين تكرّس الظلم والتفاوت بين الناس في هذا البلد أو ذاك. ومعنى هذا الكلام أن " عصيد " فهمه الخاص للقانون ، أي أن القانون ينبغي أن يطوع لفهمه الخاص لممارسة الحريات الفردية ، وأنه إذا لم يكن ذلك فهو ليس قانونا ضامنا للكرامة والمساواة والعدل ، وليس ضامنا يحقق مبدأ التعايش .
معنى هذا الكلام إنه إذا رأى فرد أن من ممارسة حريته الفردية مضاجعة خليلته في الشارع العام ، فليس عليك أن تحرمه من ذلك باسم القانون ، وأنه لا معنى أن تقول له استتر بالفاحشة لأنك تقول له : أنت حر ولكن في بيتك .
معنى هذا الكلام أن الاستمرار في منع بيع الخمور للمسلمين هو مجرد نفاق اجتماعي ، وأن مواصلة منعه هو منع للأفراد من ممارسة حريتهم ، وأنه لا معنى أن تجريم السكر العلني وأن تقول إنه إذا استتر الإنسان المسلم بتعاطي الخمر هو أنك تقول له : أنت حر في بيتك .
خلاصة
يزعم عصيد أن اعتمادنا لمرجعية دينية بقراءة سلفية، لا يسمح أبدا بانخراطنا في العصر وقيمه، مما يفسر اتجاه هذا التيار الإسلامي بمختلف تلاوينه إلى استعمال مفاهيم حقوق الإنسان بغرض الالتفاف عليها وإعطائها دلالات أخرى تنسجم مع توجهاته اللاديمقراطية، التي تقوم أساسا على عدم احترام الحق في الاختلاف ونكتفي أخيرا بالتعليقات التالية :
1 هل ينتظر منا أن نتخلى عن مرجعيتنا الإسلامية كشرط في العصر وقيمه ؟
2 أي قراءة يطلب منا أن نقوم بها هل هي القراءة التي تدعي أن الوثنية كانت أكثر تحريرا للإنسان من عقيدة التوحيد ؟
3 نتساءل عن حقيقة التوجهات الديمقراطية لعصيد ، وعن مدى إيمانه باحترام الحق في الاختلاف وهو الذي يصادر حق أمة كاملة في الاختلاف من خلال ادعاء الكونية ؟ وهل الأمر يتعلق فعلا بغيرة حقيقة على حقوق الإنسان أم بتوظيف إيديولوجي شوفيني لحقوق الإنسان ؟
4 أما عن تدليسه لموقف الدستور المغربي من قضية حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا فنترك للقارئ أن يستنتج من يوظف آليات الالتفاف كي يعطي لتلك الحقوق ومفهوم الحرية الفردية كي تنسجم مع توجهاته الديمقراطية جدا
والقارئ لمقال عصيد يمكن أن يخلص إلى أنه ابتدع تصورا مؤدلجا لمفهوم الحرية الفردية ، خلاصته أنه باسم الحرية يمكن لفرد أو لمجموعة أن يفرضوا استبدادهم الفكري والسلوكي على الأغلبية الساحقة من أبناء المجتمع ، تصور صادر من خلاله حق الجماعة والدولة والأمة في أن يكون لها نظام عام وقيم مشتركة تشكل أساس اجتماعها ، بمقتضاها يمكن أن تضع القواعد الدستورية التي تحدد العيش المشترك ، والقوانين التي تعين حدود الحرية الفردية وبداية المشترك الاجتماعي ، تصور أسقط حق الجماعة في أن تضع القواعد الحامية للنظام العام من خلال مؤسسات شرعية ومنتخبة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.