من المعروف تاريخيًّا أن الصليبيين أنزلوا بالمسجد الأقصى والعمائر الإسلامية في بيت المقدس الكثير من معالم الطمس والتشويه والإضرار؛ وذلك على امتداد 90 عامًا تبدأ باحتلالهم القدس سنة 493ه/1099م وتنتهي سنة 583ه/1187م؛ حيث تم تحرير القدس في حطين، وعندما استرد صلاح الدين بيت المقدس أمر بإصلاح العمائر الإسلامية في القدس، واعتبر ذلك صفحةً مشرقةً في جهاده الرائع والخالد ليس في ميدان دحر العدوان فحسب بل في ميدان إزالة آثار هذا العدوان على بيت المقدس. وأول إصلاح قام به صلاح الدين بالمسجد الأقصى هو إعادة شعائر الصلاة بالمسجد، فأقيمت به صلاة الجمعة الموافقة 4 شعبان سنة 583ه/19 أكتوبر 1187م، ثم أمر بسرعة إزالة التعديات المعمارية التي أنزلها الصليبيون بالمسجد الأقصى؛ وذلك بهدم الحوائط الداخلية التي أقاموها لإخفاء معالم هذا المسجد بخاصة المحراب الرئيسي، وتابع صلاح الدين تجديد المسجد وإضفاء الجلال والجمال على مساحته، وشمل التجديد نقل المنبر الذي كان السلطان نور الدين محمود قد أعده للمسجد سنة 564ه/1168م، وكان من أجمل المنابر وأدقها صناعة ووضعه صلاح الدين على يمين المحراب، وظل في مكانه إلى أن أحرق على يد اليهود عند حرقهم للمسجد في 21 أغسطس سنة 1969م. وتابع صلاح الدين تجديد المسجد الأقصى وشمل التجديد الحياة العلمية له بتزويده بالفقهاء والعلماء والكتب والمصاحف، وبدأت الزيارات لجمهور المسلمين للمسجد، فيذكر السيوطي: «هرع الناس من كل صوب إلى المسجد الأقصى ومن كل فج عميق وسلكوا إليه في كل طريق وتوافد الراكع والساجد والخاشع والحاكم والشاهد والجاهد والمجاهد والقايم والقاعد». كما أولى صلاح الدين عناية أيضًا بمسجد قبة الصخرة، وبادر بتجديده، حيث كشف عن الصخرة التي أخفاها الصليبيون يكسوها بالرخام، فأمر بإزالة الرخام حتى عادت الصخرة إلى وضعها الأصلي وأزال ما بها من صور وتماثيل ونظفت من الصلبان، والرهبان والخنازير، وغسلت الصخرة بالماء الطاهر وبماء الورد، فيذكر السيوطي: «أمر السلطان بكشف نقابها ورفع حجابها وحسر لثامها وكسر رخامها فعادت كما كانت في الزمن القديم واستجلى الناظرون وجه حسنها الوسيم». وشملت عمارة صلاح الدين الأسوار والعمارة الحربية ولكن المجال لا يتسع لذكرها. قالوا عنه يقول القاضي بهاء الدين بن شداد واصفًا صلاح الدين: «كان رحمه الله عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله إلا الجبال»، وقال أيضًا: «وهو كالوالدة الثكلى، يجول بفرسه من طلب إلى طلب، ويحث الناس على الجهاد، ويطوف بين الأطلاب بنفسه وينادي: يا للإسلام، وعيناه تذرفان بالدموع، وكلما نظر إلى عكا، وما حلَّ بها من البلاء، اشتد في الزحف والقتال، ولم يطعم طعامًا ألبتة، وإنما شرب أقداح دواء كان يشير بها الطبيب، ولقد أخبرني بعض أطبائه أنه بقي من يوم الجمعة إلى يوم الأحد لم يتناول من الغذاء إلا شيئًا يسيرًا لفرط اهتمامه». وفاة صلاح الدين بعد صلح الرملة رجع صلاح الدين عائدًا إلى دمشق حيث مرض بها وتوفي فيها ودفن بها يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر صفر عام 589 ه/1193م وكان عمره سبعًا وخمسين سنة بعد أن دام حكمه لمصر خمسة وعشرين عامًا، قضى معظمها في الجهاد والسعي لتحرير الأوطان، رحم الله صلاح الدين الأيوبي وكل مَن يعمل لتحرير البلاد الإسلامية والأماكن المقدسة ولعودة العزة والقيادة الإسلامية. خاتمة المطاف إن استقراء التاريخ لأمر ضروري لتعرف الأمة كيف انتصر السلف، ليسير على طريق الخلف، ولنعلم كيف أُعيدت القدس أولاً، لنعمل بنفس الطريقة على إعادتها ثانيًا، وهو ما أردناه من استهدافنا لعرض سيرة الناصر صلاح الدين، ليعرف الناس مَن هو البطل الفارس المسلم صاحب المبادئ والمثل العليا، إن سيرة صلاح الدين تحرك بواعث الأمل في النفوس، فقد انتصر قديمًا في وقت كان المسلمون فيه أشبه بوقتنا هذا، كانوا شراذم متنافرة متناحرة، وعلى الرغم من ذلك تمكن صلاح الدين من أن يعيد للأمة وحدتها وقوتها، ونحن اليوم في حاجة ماسة إلى قيادة واعية تأخذ بأيدينا إلى الغايات العليا والآمال القصوى، فهل للمسلمين من صلاح جديد يُصلح الدنيا بالدين، ويجدِّد للناس دينهم؟! نسأل الله ذلك. قاد صلاح الدين ثورة الخلاص ضد الدولة الفاطمية الشيعية التي أفسدت العقائد ونشرت البدع التي نعاني منها حتى اليوم، وأقام دولة الحق والعدل.