كان صلاح الدين الأيوبي محبًّا لمجالسة العلماء وأكابر الفقهاء، كما كان يحسن إلى الصوفية كثيرًا ويستشيرهم في كثير من الأمور، يبجل علماءهم ويجلس إليهم ويستمع إلى نصحهم، فوقفوا إلى جانبه في حروبه ضد الصليبين في مواقع كثيرة، وكان يذهب إلى العلماء الذين يرفضون طرق أبواب السلاطين ويتردد عليهم، ومن هؤلاء الحافظ الأصفهاني، وقد شهد المعاصرون لصلاح الدين بأنه استفاد من مشايخ أهل العلم وكبار الفقهاء المعاصرين في تفهم ما استعصى عليه من الأحكام، وكان الشيخ قطب الدين النيسابوري قد جمع له كتابًا في أحكام الدين، فحرص صلاح الدين على تلك المعلومات وأخذ يُعلمها الصغار من أبنائه ويحفظها لهم. وفي سبيل تحقيق الوحدة السياسية والمعنوية للمسلمين، برهن صلاح الدين على أن التصميم الأخلاقي ووحدة الهدف ووضوح رؤيته يكونان القوة التي يمكن بها التغلب على جميع الصعوبات، وتخطي كل العقبات، وكعادة صلاح الدين بدأ إصلاحاته الداخلية، حيث رفض المذهب الشيعي، وأبطل الدعاء للخليفة الفاطمي، وجعله للخليفة العباسي، واستطاع بذكائه أن ينهي الخلافة الفاطمية في مصر. وأنشأ المدارس السنية لمقاومة المذهب الشيعي، وأقام المستشفيات، وأتم الاستعدادات وأقام التحصينات، وأخذ يستنفر المسلمين للجهاد، كما ظهر اهتمامه بصناعة الأسلحة، وبناء السفن، وعمل المفرقعات، وتركيب الألغام والمجانيق، وغيرها من أدوات القتال. مواقف مضيئة البطل صلاح الدين رمز تحرير بيت المقدس من دنس الاحتلال الصليبي، ورمز ارتباط القادة المسلمين بالقدس وبالمسجد الأقصى المبارك، ورمز عدالة الإسلام، فقد حرر القدس بعد أن ذبح المحتلون أكثر من سبعين ألف مسلم في ساحات المسجد الأقصى المبارك، ولمَّا تمكَّن وانتصر عليهم استحضر قول الله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)) (النحل)، فلم ينتقم؛ بل خيّرهم بين العودة من حيث أتوا أو البقاء في ظل رعاية الإسلام وسماحته؛ ليبيّن لكل الدنيا أن المسلمين على مر الأيام هم المؤهلون للسيادة على الأرض وحماية الإنسان والمقدسات. ومن مواقفه التي تعبر عن تأسيه بسيدنا عمر بن الخطاب، أنه بعد استلامه لمدينة القدس تفقد مع مرافقيه آثار العدوان الصليبي وشاهدوا التخريب الذي أصاب العمائر الإسلامية، وخاصةً المسجد الأقصى مما حدا ببعض مرافقيه، والذي استبد الغضب والسخط عليهم لِما شاهدوه من تخريب فاقترحوا على صلاح الدين هدم كنيسة القيامة حتى يحولوا بين الصليبيين وزيارتها، ولكن صلاح الدين أبى والتزم بسياسة سيدنا عمر بن الخطاب حين استلم القدس وحافظ على كنيسة القيامة، ورد صلاح الدين على أولئك المطالبين بهدم كنيسة القيامة قائلاً: إنه لا يستطيع أن يخالف أمرًا أقرَّه الخليفة عمر بن الخطاب بهذا المكان المسيحي المقدس. أما موقفه مع ريتشارد ملك إنجلترا فيعبر عن سماحة لا يدانيها فيها، وهذا الموقف حرَّك وجدان الأدباء من الأوروبيين وجعلتهم يصيغون حولها الأساطير التي تهدف لإثارة المثل العليا في ضمائر الناس. تحرير بيت المقدس من الصليبيين تعتبر الفترة التي تولى فيها صلاح الدين الأيوبي مسئولية الجهاد ضد الصليبيين من أهم مراحل تاريخ منطقة الشرق الأدنى في العصور الوسطى، وبالتالي أهم مراحل تاريخ العلاقات بين المشرق الإسلامي والغرب المسيحي؛ لأن الجبهة الإسلامية الموحدة لم تصبح حقيقة واقعة إلا على يد صلاح الدين، ولذلك أصبح لزامًا عليه أن يضع الخطة العامة لطرد الصليبيين من بلدان المشرق الإسلامي. وكانت حياته كلها جهاد، وكان يعود من غزو إلى غزو، ومن معركة إلى معركة، وكانت معركة حطين من معاركه التي كتبت له بأقلام من نور على صفحات من ذهب، وسطرت على جبين التاريخ شاهدة له بكل معاني الجهاد والتضحية، وكان من كلامه: «كيف يطيب لي الفرح والطعام ولذة المنام وبيت المقدس بأيدي الصليبيين؟!. وكان نزوله عليه في يوم الأحد الخامس عشر من رجب سنة 583ه، يقول بهاء الدين بن شداد في السيرة الصلاحية، نكس الصليب الذي كان على قبة الصخرة وكان شكلاً عظيمًا، ونصر الله الإسلام على يده نصرًا عزيزًا، وكان الإفرنج قد استولوا على القدس سنة 492ه ولم يزل بأيديهم حتى استنقذه منهم صلاح الدين، وقد عبر ابن الأثير عن هول هذه المعركة وضراوتها بقوله: وكثر القتل والأسر فيهم فكان من يرى القتلى لا يظن أن هناك أسرى، ومن يرى الأسرى لا يظن أن هناك قتلى»، وقد مر ابن الأثير بمكان الموقعة بعد سنة فرأى الأرض ملأى بعظامهم ترى من بعيد لكثرتها، منها المتجمع بعضه على بعض، ومنها ما جرفته السيول وأكلته السباع في الركام والوديان.