ولدينا دليل أكثر وضوحاً وأكبر أهمية على صعيد اشتراك الأندلسيين والمغاربة في الحرب ضد الصليبيين، ويتجلى هذا الدليل بالملاحظة التي دوّنها الرحالة ابن جبير الأندلسي خلال زيارته لبلاد الشام في الربع الأخير من القرن السادس الهجري. ويبدو أن هذا الاشتراك، لم يكن قد اقتصر على فرد بعينه، بقدر ما كان على شكل مجموعة كبيرة العدد، الأمر الذي جعل الصليبيين يلجؤون إلى اتخاذ إجراءات مضادة للأندلسيين، تجسَّدت بفرض ضريبة عليهم دون غيرهم، وذلك جزاء اشتراكهم مع العرب المشارقة ضدهم. يقول ابن جبير عندما زار حصن تبنين: "وكان مكاناً لتمكيس القوافل.. ولا اعتراض على غيرهم. وسببها أن طائفة من أنجادهم غزت مع نور الدين أحد الحصون، فكان لهم في أخذه غنى ظهر واشتهر، فجازاهم الإفرنج بهذه الضريبة المكسية، ألزموها رؤوسهم، فكل مغربي يزن على رأسه الدينار المذكور في اختلافه على بلادهم. وقال الإفرنج: إن هؤلاء المغاربة، كانوا يختلفون على بلادنا، ونسالمهم ولا نرزؤهم شيئاً، فلما تعرضوا لحربنا، وتألبوا مع إخوانهم المسلمين علينا، وجب أن نضع هذه الضريبة عليهم. فللمغاربة في أداء هذا المكث سبب من الذكر الجميل في نكايتهم العدو يسهله عليهم ويخفف عنتهم "(22)". ويستمر اشتراك الأندلسيين والمغاربة في الفترة، التي تلت انتهاء حكم نور الدين زنكي ويمكن القول إن أعدادهم ازدادت بشكل كبير على عهد صلاح الدين الأيوبي، فظهرت مشاركتهم على وجهين، الأول كمحاربين أساسيين، والثاني كمرافقين للجيش يقومون بتقديم الخدمات المختلفة، التي لا تقل عن غيرها في ميدان الحرب. مثال الوجه الأول، الحادثة التي ذكرها العماد الكاتب الأصفهاني في كتابه الموسوم ب(الفتح القسي في الفتح القدسي) حيث يظهر من خلالها قيمة الدور الذي شغله هؤلاء المغاربة على الصعيد العسكري، كمقاتلين أشداء نذروا أنفسهم لتنفيذ مهمات في غاية الخطورة. ففي سنة 587ه/1191م وفي أثناء حصار العرب المسلمين لمدينة عكا، جاء رسول من قبل أحد قادة الصليبيين ومعه أسير مغربي، قدمه إلى السلطان صلاح الدين على سبيل الهديّة، فاستقبل الأسير بحفاوة بالغة وتقدير عظيم، الأمر الذي يدل على مدى إعجاب صلاح الدين الأيوبي بالمغاربة والأندلسيين وتقدير جهودهم في الحرب التي خاضها ضد أعدائه"(23)". أما الأمثلة على الوجه الثاني فهي متعددة نذكر منها على سبيل التعريف بدورهم ما هو أهم وأبلغ للتدليل على عمق هذا الدور وخلوده في ميدان التعاون العربي ونجاحه. من ذلك أن قسماً منهم لم يشتركوا على هيئة محاربين كجنود يحملون السلاح، بل تجلى بمرافقة الجيش، وتقديم خدمات كبيرة، ساهمت إلى حدٍ كبير برفع معنويات الجيش القتالية، وأذكت في عناصر هذا الجيش الروح القتالية العالية. فقد عرفت أعداد كبيرة منهم كانت مهمتهم الرئيسة تحضير الطعام وتجهيز الحمامات للجنود من أجل الاغتسال وتوفير أسباب النظافة العامة، التي تضفي على النفس الإنسانية نوعاً من البهجة والسرور والراحة. ويمكن تقدير عدد هؤلاء الأندلسيين والمغاربة بأكثر من ثلاثة آلاف رجل"(24)" لذلك يمكن النظر إلى الوظائف العالية، التي نالها المغاربة والأندلسيون في القدس بعد تحريرها على أنها تعبير عن المكافأة على خدماتهم والرغبة في استمرار هذه الخدمات في الوقت نفسه. وسوف نذكر كيف أن صلاح الدين الأيوبي عبر عن ذلك، وسار ابنه الأفضل وغيره من الحكام الأيوبيين على الطريق نفسه. فقد كانت صلة الأفضل بالقدس قوية منذ أن حررت، لأنه كان الموكل من قبل أبيه بحفظ ما حرر منها. كما يستفاد من رسالته للعماد الأصفهاني على لسان صلاح الدين الأيوبي في معرض ذكره لانتصاراته وما فتحه عام 583ه/ ومما ورد فيه: "والآن فقد خلص لنا جميع مملكة بيت المقدس وحدها في سمت مصر من العريش وعلى صوب الحجاز من الكرك والشوبك. وتشتمل على البلاد الساحلية إلى منتهى أعمال بيروت. ولم يبق من هذه المملكة إلا صور... وأنه قد رتب الجانب القبلي والبلد القدسي. وشحن الثغور من حد جبيل إلى عسقلان بالرجال والأموال وآلات العدد والعدد المتواصل الممد. ورتب فيها ولده الأفضل علياً لحمايتها وحفظ ولايتها..."". وقد تجلت إنعاماته على الأندلسيين والمغاربة أيام سلطنته. وعندما خلف والده عند وفاته بدمشق سنة 589ه/1193م ليبقى على عرش السلطنة قرابة تسع سنوات، خضع بعدها لعمه العادل في سنة 598ه/1202م. وفي أيام سلطنته وعندما أصبح قادراً على منح الإقطاعات وقف على فقهاء المالكية المدرسة الأفضلية، وبجوارها أوقف قطاعاً من المدينة يقع بجوار المسجد وسور الأقصى من جهة الغرب، ويخرج إليها من أحد أبوابه، علماً بأن المسجد الأقصى يقع في الجنوب الشرقي من مدينة القدس، وأضحى معروفاً باسم حارة المغاربة، كانت وقفاً كما يقول صاحب الأنس الجليل: "على طائفة المغاربة على اختلاف أجناسهم ذكورهم وإناثهم، وكان الوقف حين سلطنته على دمشق ولم يوجد لها كتاب، فكتب محضراً بالوقف لكل جهة، وثبت مضمونه لدى حكام الشرع الشريف بعد وفاة الواقف "(26)" وكان للمغاربة مسجد تقام فيه الصلاة على المذهب المالكي، وكان حي المغاربة يتضخم مع الزمن ويكتظبالمغاربة والأندلسيين الوافدين، منهم الميسورون ومنهم الفقراء أيضاً، وقام الشيخ عمر بن عبد الله بن عبد النبي المغربي المصمودي المجرد بتعمير زاوية بأعلى الحارة أنفق عليها من ماله، ووقفها على الفقراء والمساكين سنة 703ه/1304م وإذا كان عمل الأفضل هذا تجاه المغاربة نوعاً من المكافأة على خدماتهم في جيش أبيه فإن ظروفه فيما بعد وفاة أبيه، تجعل الاعتقاد أنه فعل ذلك بدافع من الاستعانة بقوتهم العسكرية للدفاع عن القدس. فالمدينة فقيرة ولاتكفي وارداتها وواردات الأراضي التابعة لها للقيام بكلفتها، مما أدى إلى تخصيص ثلث وارد إقطاع نابلس لها. وكذلك فإن ضياء الدين بن الأثير وزير الأفضل أقنعه بالتنازل عن القدس، لأسباب منها التخلص من النفقة عليها، لكن المكانة الدينية للمدينة جعلها قوة معنوية لمن تتبعه. وربما كان هذا أيضاً من جملة الأسباب، التي جعلت نواب الأفضل في فلسطين العربية، وفي مقدمتهم عماد الدين بن المشطوب مقطع نابلس يعرضون على سيدهم الرفق، ويتعهدون بالقيام بأودها وأود رجالها كما أنها كانت حتى ذلك الوقت هدفاً رئيساً للصليبيين، وكان بيدهم رأس جسر مناسب للهجوم عليها، يتمثل في ميناء عكا الحصين، وكان على الأفضل والمشيرين عليه والمحيطين به أخذ هذا التهديد بعين الاعتبار، خاصة وأن الأفضل لم يكن حاكم الإمبراطورية الأيوبية فعلياً كأبيه، بل إن سلطانه اقتصر على الشام بكل ما حفلت به آنذاك من عوامل تمنع من قيام سلطة مركزية بها، كما أنها كانت عاجزة عن تمويل جند كثيف، فقد كانت غير قادرة على تمويل أكثر من أربعة آلاف جندي نظامي. وبهذه القوة الضئيلة كان عليه مجابهة الخطر الصليبي، وكذلك خطر أفراد أسرته المستضعفين له وكان أخوه العزيز صاحب مصر على رأسهم في الظاهر. وضمن هذه الأوضاع يبدو منطقياً الإفتراض بأن الأفضل كان يرى في المغاربة والأندلسيين قوة عسكرية مناسبة، يمكن أن يفيد منها في الدفاع عن القدس على الأقل. ومما يؤكد اشتراك المغاربة بالحرب مع صلاح الدين في معارك التحرير في حال غياب الإحصاءات الدقيقة، أن هؤلاء المغاربة هم كالكثير من الشاميين والمصريين، الذين شاركوا بهذه الحرب من غير الجيش النظامي، الذي لم يكن يشكل كل القوة المحاربة ولا حتى النسبة العددية الأكبر. فقد بيّن الإنكليزي جب، أن عدد الجند النظامي لدى جيش صلاح الدين الأيوبي في موقعة حطين، لم يكن يتجاوز الأربعة عشر ألف مقاتل"" أما المحاربون الآخرون فكانوا متطوعة ومتصوفة مع أتباعهم، ومنهم الأندلسيون المغاربة من غير المؤهلين للحرب بشكل نظامي مرتب. ولم يكن الإفرنج على ما يبدو غافلين عن هذه القيمة أو المكانة التي يشغلها المغاربة عند حكام الشام. فقد حدث في سنة 626ه/1230م أن حمل عدد كبير من أسرى جزيرة ميورقة إلى الساحل العربي الشامي، حيث تم فكاكهم وقدموا إلى دمشق. يقول أبو شامة في كتابه (الذيل على الروضتين) في صدد حديثه عن سنة 627ه/1230م: "في هذه السنة جاء الخبر بأن الفرنج استولوا على جزيرة ميورقة، وقتلوا خلقاً كثيراً وأسروا كذلك، وقدموا بعض الأسرى إلى ساحل الشام، فاستفك منهم طائفة، فقدموا علينا دمشق وأخبروا بما جرى عليهم"(28)" وهذا إن دل على شىء، فإنما يدل على مدى التقدير الذي أظهره الأيوبيون للأندلسيين والمغاربة، لما قاموا به من أعمال مميزة ومخلصة خلال الحرب ضد الصليبين، يضاف إلى ذلك، أنهم قوة جديدة تضاف إلى الموجودين القدماء. وفي هذا الميدان يمكن أن نذكر أيضاً تلك الخدمات الجليلة، التي قدمها أطباء أندلسيون لصلاح الدين وجيشه وشعب الشام، الذي وقف كتلة واحدة شامخة ضد الصليبيين. فمنذ النصف الأول من القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، بدأ الأطباء الأندلسيون المشاهير يتوافدون إلى دمشق بعد أن سمعوا بمحاولات الصليبيين احتلالها، وكأنهم كانوا يشعرون أن من واجبهم وهم من بلاد اعتاد أهلها محاربة الصليبيين باستمرار، المساعدة في الدفاع عن دمشق وغيرها من بلاد الشام. من هؤلاء الأطباء أبو الحكم تاج الحكماء عبد الله بن المظفر الباهلي المولود بمدينة المرية في جنوب الأندلس أو بمدينة مرسية في شرق الأندلس سنة 486ه/1076م وقد درس الطب بالأندلس وبمصر، حتى اشتهر به كطبيب معروف. وفي بداية أمره توجه إلى بغداد، وفيها شغل طبيب البيمارستان، الذي كانت تحمل عقاقيره وأدواته في المعسكر السلطاني على أربعين جملاً"(29)"، ولما سمع بتهديد الصليبيين لدمشق غادر بغداد، وأقام بدمشق، يداوي الناس بدكان عند باب جيرون بالقرب من المسجد الأموي الكبير حتى وفاته في سنة 549ه/1155م"(30)" وكذلك فعل ابنه أبو المجد محمد بن عبد الله الباهلي الملقب بافضل الدولة، وتفوق على والده، فصار في علوم الطب من أحذق أطباء زمانه، الأمر الذي جعل نور الدين زنكي يعتمده كمسؤول أول عن إدارة البيمارستان، الذي أنشأه في دمشق خلال السنوات الأولى من النصف الثاني للقرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي. وقد أدى خلال حياته، التي انتهت في الربع الثالث من القرن السادس الهجري أو قبل ذلك بسنوات قليلة، خدمات رائعة في ميدان الطب، فقد كان عمله اليومي مقسماً إلى ثلاث فترات، خصص الأولى لزيارة مرضى البيمارستان سابق الذكر، وخصص الثانية لزيارة مرضى القلعة من الحكام وأتباعهم، وخصص الثالثة للتدريس في إيوان البيمارستان النوري"(31)". كما قام الطبيب الأندلسي عمر بن علي البذوخ القلعي المتوفى بدمشق سنة 579ه/1181م"(32)" بممارسة المداواة العامة، واختلف عن بقية زملائه من الأندلسيين بتصنيع الدواء وتحضيره بنفسه"(33)". ومن هؤلاء، الأطباء أيضاً عبد المنعم الجلياني نسبة إلى جليانة على مقربة من غرناطة في جنوب شرق الأندلس المتوفى بدمشق سنة 603ه/1207م. اشتغل منذ وقت مبكر في ميدان الطب والأدب، وتفوق فيهما بشكل ملحوظ، رحل إلى المغرب ومنها إلى بغداد، حيث اطلع على خزائن الكتب الطبية الفنية، ولما سمع بما يحدث في الشام من حرب ضد الأعداء الصليبيين، ترك بغداد متوجهاً إلى دمشق، حيث عمل طبيباً رئيساً في البيمارستان السلطاني في السفر والحضر أيام صلاح الدين الأيوبي، وظل هكذا حتى وافته المنية"(34)" وقد حظي عند صلاح الدين الأيوبي طبيب أندلسي آخر، هو يحيى البياسبي الملقب بأمين الدين. بعد أن ترك الأندلس، وصل إلى مصر واستقر فيها مدة قصيرة من الزمن توجه بعدها إلى مدينة دمشق، واستقر فيها بشكل نهائي. ويُعد البياسي طبيباً أندلسياً درس الطب في بلاد الشام، حتى اشتهر وعلا ذكره، مما جعل صلاح الدين الأيوبي، يعتمده في قائمة أطبائه الرئيسين، الذين رافقوه في أثناء غيابه عن مدينة دمشق لمحاربة الصليبيين"(35)". وقد قام ابن جبير الأندلسي خلال زيارته لمدينة دمشق سنة 580ه/1185م بالدعاية لصلاح الدين الأيوبي، لما يقوم به من أعمال جليلة لتحرير ما احتل من فلسطين، ولا سيما بيت المقدس من قبل الصليبيين، الأمر الذي ساعد على استقطاب جالية أندلسية للمحاربة ضد هؤلاء الأعداء"(36)" وقد احتوت كتب الحديث النبوي الشريف كما هو معروف العديد من الأحاديث"(37)"، التي تنوه بمكانة فلسطين ولا سيما مدينة بيت المقدس، فقام الأندلسيون والمغاربة بعد احتلال بيت المقدس من قبل الصليبيين بالتذكير بهذه الأحاديث في كل مناسبة دينية وبخاصة خلال خطب أيام الجمع، الأمر الذي ولَّد في النفوس شعوراً قوياً في الرغبة لزيارة بيت المقدس والمساهمة في تحريرها، وهذا الشعور كان سائداً في الأندلس والمغرب قبل ذلك، لكنه بعد الاحتلال الصليبي للقدس وبعض مدن فلسطين الأخرى، أصبح أقوى من ذي قبل، وغدت قدسيته هي الأخرى أعظم من أية فترة أخرى، وأصبحت زيارتها لا تقتصر على كسب الثواب من جراء الصلاة فيها فحسب، بل هدفت إلى جانب ذلك زيارة المشاهد الموجودة ضمنها، وتلك التي حولها في مواقع فلسطين الأخرى. وخير ما مثل حدة الشوق إلى زيارتها مسلك ابن جبير الأندلسي، الذي قال عنه المراكشي: "ولما شاع الخبر المبهج للمسلمين جميعاً حينئذ بفتح بيت المقدس على يد السلطان الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب. وكان فتحه يوم السبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة. وكان ذلك من أقوى الأسباب، التي بعثته على الرحلة الثانية. فتحرك من غرناطة أيضاً يوم الخميس لتسع خلون من ربيع الأول من سنة خمس وثمانين وخمسمئة. قال: وقضى الله برحمته لي بالجمع بين زيارة الخليل عليه السلام وزيارة المصطفى وزيارة المساجد الثلاثة في عام واحد..."(38)" وقام خلال ذلك بمدح صلاح الدين الأيوبي بشىء من الصدق والأمانة، وكان محقاً ومصيباً في ذلك، انطلاقاً من المهمة الجليلة، التي تصدى لتنفيذها صلاح الدين، والتي تتجلى بالسعي الحثيث الصادق من أجل رد عادية الصليبيين وتحرير مااغتصب على أيديهم من أرض العرب والإسلام، وبخاصة مدينة بيت المقدس"(39)" وكما كان الحال في زمن البوريين والزنكيين والأيوبيين، فإن الأمر لم يتبدل في زمن المماليك. فقد ظل الأندلسيون والمغاربة في مقدمة المتحمسين للدفاع عن أرض العرب في الشام ومصر وكرامتهم ضد الصليبيين وغيرهم. والأمثلة كثيرة في هذه الفترة، نذكر منها على سبيل المثال حادثة وقعت في سنة 785ه/1383م عندما هاجم الإفرنج مدينة بيروت. فعلى أثر اتصال المسؤولين عن إدارتها مع نائب دمشق بقصد المساعدة لحمايتها والدفاع عنها، تذرع بأنه يحتاج إلى أمر سلطاني، فقام بعض المتنفذين من المماليك بدعوة الناس للتطوع من أجل الجهاد، فكان في مقدمة الذين استجابوا لهذه الدعوة، القاضي المالكي آنذاك مع مجموعة كبيرة من الأندلسيين والمغاربة الموجودين بدمشق"(40)". ويفهم للوهلة الأولى من كل ما تقدم من أمثلة ووقائع، أن اشتراك الأندلسيين والمغاربة كان رهناً بمداهمة بلاد الشام ومصر من قبل الجيوش الغازية المعتدية، بحيث يشتركون لفترة معينة وينصرفون. لكن الحقيقة كانت غير ذلك، فمن خلال الأمثلة يتبين أنهم انخرطوا في صفوف الجيش النظامي كمتطوعين ومحترفين للعمل العسكري، مثلهم في ذلك مثل أبناء البلاد الأصليين تماماً. والقاضي محمد بن محمد الدمشقي المالكي الملقب بعلم الدين القفصي ووالده خير مثال على ذلك. فقد كان عمله الرئيس قبل تسلمه القضاء في عدة مدن شامية كحلب ودمشق وحماة، كان جندياً في الجيش المملوكي، وكذلك الأمر بالنسبة لوالده"". أما الوجه الثالث لمشاركتهم وإسهامهم في الدفاع والذود عن حياض مصر وبلاد الشام، فقد تجلى بتقديم الأموال من أجل تجهيز المقاتلين بالسلاح والعتاد وما إلى ذلك. مثال ذلك: محمد بن محمد أبو الوليد التجيبي الأندلسي إمام محراب المالكية المتوفى بدمشق سنة 718ه/1319م. والذي يقول عنه ابن حجر العسقلاني في كتابه الدرر الكامنة: "... وكانت له عدة كاملة من السلاح والخيل أعدها للغزاة من ماله...""(42)". لذلك فليس غريباً أن يكون جزءاً كبيراً من تصرفات الحكام المماليك الإيجابية تجاه الجالية الأندلسية المغربية في الشام ومصر، مثل تخفيض الضرائب على البضائع التجارية، التي يأتي بها إلى الشام ومصر التجار المغاربة والأندلسيون وغيرهم، تكون بسبب موقفهم العسكري ضد الأعداء. وقد أسهم الأندلسيون والمغاربة في الدفاع عن الشام على وجه آخر، يختلف عن الوجوه سابقة الذكر من حيث الأسلوب. وقد تجلى هذا الوجه بالدبلوماسية الفذة، التي قدر لها أن تنجح وتثمر نتائجها في عدة مناسبات، ولكن ليس مع الصليبيين، إنما مع تيمورلنك وجيشه، كما فعل عبد الرحمن ابن خلدون، الذي تمكن بعد لقائه مع تيمورلنك من إنقاذ دمشق من المزيد من التدمير والقتل وتشريد الناس"(43)" وقد سقت هذا المثال في هذا الميدان على الرغم من حدوثه بعد رحيل الصليبيين عن المنطقة بمئة عام، لأدلك على مدى حرص الأندلسيين والمغاربة على أرض المشرق العربي في كل زمان ومكان تعرضت فيهما للخطر. وقد ساهموا في وجه آخر لا يقل أهمية عن بقية الوجوه، تجسد في تحديد الخطر الذي يتهدد المنطقة العربية، التي تضم جناحي الوطن العربي الكبير (المغرب والمشرق) فقد توصل بعض خطباء جامع بيت لهيا القريبة من دمشق من الأندلسيين والمغاربة إلى تحديد أبعاد الغزو الفرنجي المتوجه ضد العرب المسلمين ضمن ثلاث شعب، إلى الأندلس وصقلية والشام"(44)" كما رسم طريق الخلاص بالجهاد الذي دعا إليه الله ورسوله في الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، وأكمل غيره البحث عن طريق الخلاص بالدعوة لإزالة الأسباب التي أدت لنجاح الغزو على المستويين السياسي والمذهبي"(45)". وبالجملة فقد بدا واضحاً، أن الأندلسيين والمغاربة، سواء منهم الذين أقاموا بصورة دائمة في مصر والشام، أو الذين بقوا فيها لفترات متفاوتة خلال القرون الأربعة الأخيرة من العصور الوسطى موضوع هذا البحث، لم يقفوا مكتوفي الأيدي حيال ما يجري من أحداث ومعارك، كان القصد منها السيطرة على هذه البقعة من أرض العرب والإسلام. وقد سطروا من خلال اشتراكهم بالدفاع عنها أنصع الصفحات وأنقاها. فبرهنوا بذلك على صدق انتمائهم العربي الإسلامي. فلم تقعدهم الشيخوخة أو التقدم في السن، ولم يرهبهم الموت ولا زوال المناصب الإدارية، أو فقدان الأموال، أو أي شيىء من هذا القبيل، فاستحقوا بذلك كل تقدير واحترام. ويمكن القول، أنهم كانوا في أحيان كثيرة أشد اندفاعاً وحرصاً من أهل البلاد الأصليين. وهذا ما جعل نور الدين زنكي يهتم بأمر الأندلسيين والمغاربة القادمين إلى المشرق إلى حد وصل إلى أنه فضلهم على أهل البلاد المحليين. إذ يروي ابن جبير عنه، أنه اهتم بفك الأسرى منهم قبل أسرى الشام بقوله: "وكان نور الدين رحمه الله نذر في مرضة أصابته تفريق اثني عشر ألف دينار في فداء اسرى من المغاربة، فلما استبل من مرضه، أرسل في فدائهم فسيق فيهم نفر ليسوا من المغاربة، وكانوا من حماة من جملة عمالته، فأمر بصرفهم وإخراج عوض عنهم من المغاربة وقال: هؤلاء يفتكهم أهلوهم وجيرانهم، والمغاربة غرباء لا أهل لهم""(46)" وكذلك فعل صلاح الدين الأيوبي ومن خلفه من أولاده وأقربائه ومن المماليك"(47)" وكذلك فعلت بعض النساء، وبعض التجار من الأغنياء والأثرياء، نذكر منهم نصر بن قوام، وأبا الدر ياقوت مولى العطافي، وكانا من أشهر تجار الساحل الشامي، وقد قاما بافتكاك عدد كبير من أسرى المغرب والأندلس بأموالهم الخاصة، وأموال ذوي الوصايا، لأنهما اشتهرا بأمانتهما وثقتهما وبذلهما الأموال في هذا السبيل النبيل"(48)". الحواشي : (1) - أحمد بدر - مقرر المغرب والأندلس - طبعة جامعة دمشق 1974-1975 ص153 (2) - المقري- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ج2 تحقيق إحسان عباس طبعة بيروت 1968 ص34. (3) - رحلة ابن جبير الأندلسي طبعة بيروت 1959 ص250 وانظر أيضاً ابن الأثير - الكامل في التاريخ ج9 طبعة بيروت 1966 ص289 (4) - منامات الوهراني ومقاماته ورسائله تحقيق إبراهيم شعلان ومحمد نفش طبعة القاهرة 1968 ص10. (5) - الوهراني المصدر السابق ص11 (6) - نفح الطيب - المصدر السابق ج2 ص240 وانظر أيضاً ابن فرحون - الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب طبعة أولى مصر 1351ه ص321-322 (7) - محمد لبيب البتنوني - رحلة الأندلس طبعة أولى مطبعة الكشكول 1927 ص137. (8) -المقري - المصدر السابق ج2 ص348 (9) - انظر تفصيل ذلك في كتاب نفح الطيب للمقري ج1 ص237 و209 (10) - انظر بعض هذه الأحاديث في ابن عساكر - تاريخ مدينة دمشق - مجلد (1) تحقيق صلاح الدين المنجد طبعة دمشق 1951 ص137 - السلمي - ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام- صححه ونشره أحمد سامح الخالدي طبعة القدس 1940 ص11- - من أراد الإطلاع على تفصيلات بهذا الشأن فليراجع البدري - نزهة الأنام في محاسن الشام طبعة مصر 1947- الربعي فضائل الشام ودمشق تحقيق صلاح الدين المنجد طبعة دمشق 1950- السلمي- ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام صححه ونشره أحمد سامح الخالدي طبعة القدس 1940. ( - ابن القلانسي- ذيل تاريخ دمشق طبعة بيروت 1908 ص301. (13) - صلاح الدين المنجد- المشرق في نظر المغاربة والأندلسيين طبعة أولى بيروت 1963 ص22. (14) - رحلة ابن جبير ص257. (15) - ابن بطوطة الرحلة ص205-206. (16) - رحلة ابن جبير ص259. (17) - رحلة ابن جبير ص258 وانظر عن المنجزات العلمية الكثيرة التي شجعت الأندلسيين والمغاربة للإقامة في المشرق. (18) - الرحالة المسلمون في العصور الوسطى ص85. (19) - ابن القلانسي ذيل تاريخ دمشق ص298 ياقوت الحموي معجم البلدان ج15 ص277-278 مادة فندلاو- العدوي الزيارات تحقيق صلاح الدين المنجد طبعة دمشق 1956 ص62-63. (20) - سبط ابن الجوزي- مرآة الزمان في تاريخ الأعيان - القسم الأول من الجزء الثامن- طبعة أولى حيدر آباد الدكن الهند 1951 ص200-201 وانظر عنه أيضاً أبو شامة الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية ج1 ص52. (21) - الذهبي- العبر في خبر من غبر ج4 تحقيق صلاح الدين المنجد طبعة الكويت 1936. (22) - انظر رحلة ابن جبير ص274. (23) - العماد الكاتب الأصفهاني- الفتح القسي في الفتح القدسي تحقيق محمد محمود صبح بدون ذكر الطبعة ولا تاريخها ص502. (24) - المقريزي (أحمد بن علي) السلوك لمعرفة دول الملوك - الجزء الأول القسم الأول تحقيق مصطفى زيادة طبعة القاهرة 1964 ص64. - أبو شامة - الروضتين في أخبار الدولتين ج2 تحقيق محمد حلمي أحمد طبعة القاهرة 1956 ص137. (26) - الحنبلي (مجير الدين) الآنس الجليل في تاريخ القدس والخليل. الثاني بدون ذكر اسم الطبعة ولا تاريخها ص397. - Encyclopidia of Islam - vol.I.P. 797-798 (28) - أبو شامة - الذيل على الروضتين- عني بنشره عزت العطار الحسيني طبعة أولى 1947 ص159. (29) - القفطي (علي بن يوسف) إخبار العلماء بأخبار الحكماء - عني بنشره محمد أمين الخانجي طبعة مصر 1326ه ص264 - المقري المصدر السابق ج2 ص133 ابن قاضي شهبة طبقات اللغويين والنحويين مخطوطة الظاهرية ص347 - ابن خلكان وفيات الأعيان ج3 تحقيق إحسان عباس طبعة بيروت 1970 ص123-124. (30) - المقري - المصدر السابق ج2 ص234. (31) - الصفدي (صلاح بن أيبك) الوافي بالوفيات ج4 طبعة دمشق 1959 ص24. (32) - ابن أبي أصيبعة - عيون الأنباء في طبقات الأطباء ج2 الطبعة الأولى المطبعة البهية 1882 ص155. (33) - ابن أبي أصيبعة المصدر نفسه ص157. (34) - ابن سعيد المغربي - الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة - تحقيق إبراهيم الأبياري طبعة مصر بلا تاريخ ص104-106 ابن أبي أصيبعة المصدر السابق ج2 ص157 المقري المصدر السابق ج3 ص392. (35) - ابن أبي أصيبعة - المصدر السابق ج2 ص163. (36) - انظر عن ذلك رحلة ابن جبير ص270 وما بعدها. (37) انظر جملة من هذه الأحاديث مجير الدين الحنبلي - الآنس الجليل في تاريخ القدس والخليل ج1 ص211 وما بعدها - الربعي - فضائل الشام ودمشق طبعة دمشق 1950 ص14- ابن عساكر - تاريخ مدينة دمشق مجلد1 طبعة دمشق 1951 ص137 - السلمي - ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام طبعة دمشق 1940 ص11. (38) - المراكشي - الذيل والتكملة السفر الخامس القسم الثاني تحقيق إحسان عباس طبعة بيروت 1965 ص605-606. (39) - المقري - المصدر السابق ج2 ص488 - المراكشي - الذيل والتكملة السفر الخامس القسم الثاني ص599. (40) - ابن حجر العسقلاني -إنباء الغمر بأنباء العمر ج1 تحقيق حسن حبشي طبعة القاهرة 1969 طبعة القاهرة 1969 ص27. - ابن حجر العسقلاني إنباء الغمر ج2 ص252 تاريخ ابن قاضي شهبة مجلد 1 ص59 و182 و268 السخاوي (محمد بن عبد الرحمن) الضوء اللامع لأهل القرن التاسع ج10 طبعة بيروت بدون تاريخ ص13. (42) - ابن حجر العسقلاني- الدرر الكامنة ج3 طبعة أولى حيدر آباد الدكن 1349ه ص350-351. (43) - محمود الباجي - عبد الرحمن بن خلدون طبعة تونس جمعية الاتحاد الصفاقسي الزيتوني ص58. (44) - شاكر مصطفى - مجلة كلية الآداب بجامعة الكويت - العدد1 ص197. (45) - القاضي عياض - ترتيب المدارك وتقريب المسالك ج3-4 تحقيق أحمد بكير محمود طبعة بيروت وطرابلس ليبيا بدون تاريخ للطبعة ص301 وما بعدها. أبو شامة الروضتين في أخبار الدولتين ص24. (46) - رحلة ابن جبير ص257. (47) - المقري - المصدر السابق ج3 ص391. (48) - رحلة ابن جبير ص280-281. مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 67 - السنة السابعة عشرة - أيار "مايو" 1997 – محرم 1418