عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن زيد بن ثابت، حدثه:" أنهم تسحروا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قاموا إلى الصلاة، قلت: كم بينهما؟ قال: قدر خمسين أو ستين "، يعني آية. (صحيح البخاري: كتاب مواقيت الصلاة/ باب وقت الفجر). مضمون الحديث: * تسحر الصحابة رضي الله عنهم مع النبي عليه والصلاة والسلام، وقيامهم إلى الصلاة بعد ذلك. والأحكام المباشرة من الحديث، هي: * قيام الرعيل الأول بسنة التسحر في رمضان. * إقامة الصلاة بعد ذلك، مما يؤكد أن من بركات سنة التسحر عدم النوم عن صلاة الفريضة. ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم:" تسحروا فإن في السحور بركة"(البخاري ومسلم). * الوقت الفاصل بين الانتهاء من التسحر والقيام للصلاة في حدود زمن قراءة خمسين إلى ستين آية قراءة متوسطة، يمكن تقريبا بزمن الوقت في حدود 15 دقيقة. * يشرح هذا الحديث مفهوم التأخير الذي حث عليه صلى الله عليه وسلم بالقول:" لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور، وعجلوا الفطر"(رواه أحمد). فليس هو تأخير غير منضبط، بل تأخير في حدود الخمسين إلى الستين. فقه الحديث ومراميه: لقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارا، بحيث يقول الكلمات المعدودات، وهن يتضمن من المعاني والأحكام الشيء الذي لا يمكن وصفه لمن تمرس بالنصوص الشرعية. ومن هذا الفقه في حديث اليوم: أ الاجتماع والنفرة من التوحد: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل مع أصحابه ويشرب معهم، ولم يكن منعزلا عنهم مترفعا عن الجلوس معهم، وكان قصده الشرعي أن يتعلموا منه السنة في الأكل والشرب وفي الاجتماع مع الناس، ما الذي عليهم التزامه، وما الذي عليهم تجنبه. فكان عليه الصلاة والسلام يقصد ذلك ويؤكد أن سنة البشرية هي أن تجتمع وتألف وتؤلف، وأن التوحد مرض ينبغي الابتعاد عنه. ب تعزيز الهوية والانتماء: لقد كان صلى الله عليه وسلم حريص في أقواله وأحواله وأعماله على بث الشعور بالانتماء، وتعزيزه والاعتزاز به، فربطهم في العد بالآيات حتى أصبحت لغة تواصلهم. ومن هنا وجدنا: - التقدير بالآيات: والتقدير بالآيات كانت عادة وطريقة الصحابة الكرام، من ذلك ما جاء في قيام الليل: أن عائشة ، أخبرت:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته - تعني بالليل - فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر ، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للصلاة "( صحيح البخاري:كتاب الجمعة:أبواب الوتر/باب ما جاء في الوتر). وفي صلاة التعب والمرض: عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " كان يصلي جالسا ، فيقرأ وهو جالس ، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية ، قام فقرأ وهو قائم ، ثم ركع ، ثم سجد ، ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك "(صحيح مسلم:كتاب صلاة المسافرين وقصرها/باب جواز النافلة قائما وقاعدا). التقدير بالسور: ومن نماذج ما كان يذهب إليه الصحابة الكرام، ما رواه أبو سعيد الخدري أنه قال:" كنا نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة الم تنزيل السجدة، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من الظهر وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك " ولم يذكر أبو بكر في روايته: الم تنزيل وقال: قدر ثلاثين"( صحيح مسلم: كتاب الصلاة/باب القراءة في الظهر والعصر). - التقدير بالصلاة: فعن يعلى بن مملك: أنه سأل أم سلمة عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته، فقالت:" وما لكم وصلاته؟ كان يصلي، ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح "، ونعتت له قراءته، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا"(صحيح ابن خزيمة: جماع أبواب صلاة التطوع بالليل/ باب الترتيل بالقراءة في صلاة الليل). - التقدير بالصاع:عن أبي سلمة قال: دخلت أنا وأخو عائشة على عائشة، فسألها أخوها عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم:" فدعت بإناء نحوا من صاع، فاغتسلت، وأفاضت على رأسها، وبيننا وبينها حجاب"(صحيح البخاري:كتاب الغسل/باب الغسل بالصاع ونحوه). وهو ربط الأمة بركن دينها الثالث وهو الزكاة الشرعية. ج تعزيز الهوية دعوة قرآنية: والحرص على الارتباط بالهوية، وبحضارة الاسلام والمسلمين، وبثقافتهم، ولغتهم، وبدينهم، وبأعلامهم .. منهج أصله القرآن الكريم، وأراد من أمته أن تختار هويتها المتميزة بالوحي عن سائر الأمم، ولا تختار شيئا من حضارة الآخرين وهويتهم. ففي القرآن الكريم قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا". ومع أن الكلمتين من حيث اللغة ذات مدلول واحد، ولكن لأن يهود اختاروا مصطلح:" راعنا"، وهم يقصدون به الرعون وليس الاسترعاء والانتظار، قرر الحق في حزم الابتعاد عن لي اليهود ومكرهم، وأن لهم في اللغة مندوحة عن كلمة ترتبط بهم ومؤداهم الوقاحة التي تلبسوا بها وتلبست حضارتهم بذلك. وقد ربط الله تعالى المواعيد التي كثر تساؤلهم عنها بركن من أركان الاسلام، فقال تعالى:" يسألونك عن الأهلة" فأجاب الحق عن سؤالهم بربطهم بدينهم:" قل هي مواقيت للناس والحج".وعندما أراد الصحابة اختيار التأريخ وجعله علامة على البيوع والآجال وكل مناشط الحياة، اختاروا تاريخهم لكي يترجم عن التأريخ، فاختاروا الهجرة كما هو معلوم من أحداث السيرة النبوية. د تعزيز الهوية منهج نبوي: لقد نقل الاسلام أبناءه من حالة الارتباط بماض لا يتشرف بالشريعة، إلى مناخ ينغي أن تسود وتهيمن فيه على الحياة. ليس في الحكم والتعليم والثقافة والتربية والفكر.. بل حتى في التخاطب والتواصل، وترويج سوق الشريعة بين المسلمين حتى تكون ثقافة شعبية. لقد وجدهم يقولون عند إرادة التقدر: فعلت هذا الشيء قدر حلب شاة، أو قدر نحر جزور، ...وهي أعمال مشتركة بين الناس لا توجد رائحة الدعوة والرسالية فيها. فرأى بعد دخولهم في الاسلام راضين به، أن تكون خاصية الدعوة عندهم حاضرة، وإشاعة منظومته الجديدة في الأمثلة والمثال.. وأراد بهم ترك بصمات التدين في المخاطبات، فقالوا: قدر الصلاة، قدر خمسين آية، قدر صاع ..وغيرها من ألفاظ الدعوة إلى حقائق الدين وأركانه. ولقد كانوا يقولون: عند صلاة الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء أو الفجر، فيتواعدون باختيار المواقيت الشرعية، ويجعلونها علامة على التواعد أو على التوضيح والبيان، كأن يقولوا: حدث هذا عند العصر أو بعده.. وهكذا. ويتأكد تعزيز الهوية والانتماء في حديث التسحر، ما ورد في تعليله من أن ذلك مرتبط بمخالفة اليهود الذين كانوا يعجلون، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر, إن اليهود والنصارى يؤخرون "(صحيح ابن خزيمة). ه علماء الأمة وربط الأجيال بهوية الأمة: وإذا أردنا أن نتتبع أجيال العلماء عبر العصور فإننا واجدون في كل ما كتبوه وتركوه تعزيز للهوية وتمكين لها. ولنقتصر في الكلام على نموذج واحد من هؤلاء وهو الامام ابن مالك صاحب الأفية المشهورة في النحو، والذي يظهر في كل بيت من أبيات منظومته ذاهب هذا المذهب الذي أردنا بيانه وإيضاحه، نقف عند بعض هذه الأبيات. •الارتباط بالقيم: في أول بيت من منظومة ابن مالك نجده يقول:كلامنا لفظ مفيد كاستقم ***** واسم وفعل ثم حرف الكلم فاختار مثالا للكلام لفظ الاستقامة التي تميز الأمة الاسلامية عن سائر الأمم، وهي دعوة ربانية ونبوية للأجيال، فنحاز في التمثيل إليها، ولم يختر غيرها من الكلمات، كأكل أو شرب أو قام..مع إفادتها المعنى المراد. ولكن لأنه يحمل رسالة في ما يكتبه، نقش ونحت روح الدين الاسلامي فيما كتبه. فنص رحمه الله تعالى أن من أراد الدخول للتعلم وتمييز الكلام ما بين الاسم والفعل والحرف، فليحرص في تعلمه وبعد التعلم أن ترافقه الاستقامة فيما استفاده. •الارتباط بالتاريخ:وعند حديثه عن النواسخ الفعلية، قال ابن مالك: ترفع كان المبتدا اسما والخبر تنصبه ككان سيدا عمر فاختار مثالا للنواسخ الفعلية التي ترفع الأول ويسمى اسمى، وتنصب الثاني ويسمى خبرها. اختار من تاريخ الأمة الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب رمز العدل والاستقامة والرشد، وأنه رضي الله عنه سيد من سادات الاسلام، وأحد أئمة العدل الذي تعتز به تاريخ البشرية. ولم يختر الإمام ابن مالك رمزا من رموز تاريخ أمة أخرى، أو رمزا للتفاهة والتبطل لكي يشيعه في أبناء الأمة. إنه اختيار واع ومسدد وراشد، لثقافة إشاعة الارتباط بهوية الأمة الاسلامية: دينا وتاريخا وأعلاما..يجددون فيه ويسرون فيه على منهاج النبوة في التسحر في رمضان، فلم يقبلوا أن تستبدل الحقائق الشرعية الإيمانية، بعادات ساذجة، أو ثقافة مخالفة مغايرة، تمتاح من حوض آخر يخالف دين الاسلام العظيم. إن القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والصحابة والتابعون والفقهاء والأئمة .. وكل رجالات الإسلام كان لهم حرص على هويتنا التي نتميز ونمتاز بها عن الأمم كلها، بها نعرف وبها نعتز. وعندي قراءة لهذه المنظومة النحوية وما كان من أمر تعزيز هذه الهوية المكلومة اليوم، ولعل قابلات الأيام إن فسح المولى تبارك وتعالى في الأجل أن نقف عند الرسالية التي كان يحملها هؤلاء الأئمة الأعلام، وحرصوا على غرسها في الأجيال، حتى نتذكر ونأتسي، فلا ننسى أو نضل فنتيه كما رأينا في حديث التسحر اليوم. فاللهم رشدك وهدايتك.