نحن نتصور بكل يسر في فرنسا أن وفاء سكان مستعمراتنا، أمازيغ أو مسلمين في هيئة مسرحية وشاعرية؛ إذ يبدو أننا نظن أنه في يوم ما عند تأملهم للباس كولونيل، أو عند سماعهم لنشيدنا الوطني "لامارسييز" فإن هؤلاء السكان المحليين قد لامسوا النعمة وأن هذا التحول المفاجئ قد نالهم به إعجاب أكيد بقيمنا المُحَضِّرة والجمهورية. إنه لتصور ألمعي، واختزالي، ومعانيه ملتبسة، وبهذا فهو فقط مفيد في أن يلقى كخطاب في نهاية المآدب والحفلات! غير أن الحقيقة أكثر تعقيدا، وأكثر إنسانية، وعلى هذا هي أكثر تشويقا وغريزية، لدرجة تكاد تكون حيوانية. إنه ليس بين أيدينا من قبائل أكثر ولاء ووفاء من تلك التي قهرنا أكثر معارضاتها شجاعة وشراسة وانتصرنا عليها؛ فالمعارضون السابقون هم دائما أفضل الأنصار والأَتْبَاع. والتفاني الأعمى في خدمتنا والتماهي مع حضارتنا وقيمنا، هذا التفاني الذي يبلغ حد الجنون هو ذلك الذي نجده عند "الْمْخَازْنِيَّة" الذين كانوا بالأمس فقط يطلقون علينا النار؛ وهاهم اليوم يُعَرِّضون أنفسهم للموت طواعية من أجلنا. لقد خضعوا لمغناطيس المنتصر، كما يقول "ابن خلدون":أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه و نحلته و سائر أحواله و عوائده. و السبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها و انقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أولما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب و تشبهت به؛ و ذلك هو الاقتداء أو لما تراه والله أعلم من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية و لا قوة بأس، وإنما هو بما انتحلته من العوائد و المذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب، و هذا راجع للأول و لذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه و سلاحه في اتخاذها و أشكالها بل و في سائر أحواله و انظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين لهم دائماً و ما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم و انظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية و جند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم حتى أنه إذا كانت أمة تجاور أخرى و لها الغُلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه و الاقتداء حظ كبير كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم "الجلالقة"؛ فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم و شاراتهم و الكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجدران و المصانع و البيوت، حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء و الأمر لله. و تأمل في هذا سر قولهم العامة على دين الملك فإنه من بابه؛ إذ الملك غالب لمن تحت يده و الرعية مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم و المتعلمين بمعلمهم و الله العليم الحكيم و به سبحانه و تعالى التوفيق. إن هناك دائما حاجة لصدمة ودوخة اللكمة القوية. إن الغازي، والمنتصر، في نظر هؤلاء، هما أداتان لله أو للقدر؛ أمامهما يجد المنهزم نفسه مرغما على الانحناء. إن الغازي المحتل لن يحظى بالقبول، ثم بالاحترام والطاعة إلا بقدر ما يُظهر من هذه القوة مخلوطة بشيء من الأخلاق، والتي يحس السكان المحليون بأثرها ويتأكدون بأنها لا تُقهر. بل يمكن حتى الذهاب أبعد من ذلك، والقول بأن كل احتلال هو مؤقت وعابر إذا لم يبدأ بقوة محسوبة ومجردة من كل عنف زائد وغير مفيد. على المحتل رغما عن كل الظروف المرحبة أن يحافظ دائما على وضع القائد، وضع من يستشرف المستقبل، يأمر، يقود، وعند الحاجة، وبعد أن يكون قد أنذر؛ يعاقب ويقمع كل انحراف عن الطريق الذي رسمه. ومع كل مقتضيات الحصافة واللباقة، والتعامل مع الظروف؛ فإن تعاطٍ طويل مع المسلمين ومع غريزة سيكولوجيتهم يمكن أن يسمح بحسن فرض الطاعة مع صيانة الشعور المشروع بالكرامة ومراعاة الحساسيات، غير أنه لا يجوز للمنتصر الغازي أن يبتعد مهما كان الأمر عن هيبته كسلطة سيادية. إن التساهل، في حالات العصيان الجسيم يُعتبر ضعفا وليس يُقدر عندهم حق تقديره. و المهم ليس الضرب بشكل أعمى وبقوة، ولكن المهم أن تضرب بدقة وعدل وفي الوقت المناسب. فبهذا يولد الاحترام وبهذا يستمر. وكما جميع الحكومات الضعيفة فإن نظام "الدايات" في الجزائر، ونظام "المخزن" العتيق في المغرب، كانا يتصرفان بعنف شديد وقسوة مع شعوبهما؛ بينما حكومة أقوى وأحسن تنظيما تستطيع أن تكون أقل صرامة وقسوة، وأن تخفف أكثر من سلم العقوبات، ولكنها لا يجب أبدا أن تتنازل عن صلابتها وهيبتها. يروي مؤرخ عربي أمضى ثلاث سنوات في مصر إبان حملة "نابوليون بونابارت" أنه عندما دخل الفرنسيون إلى القاهرة طلبوا أولا وقبل كل شيء أن يسلم جميع السكان أسلحتهم، ولكن عندما أخاف هذا الأمر الشعب الذي أخذ يتهامس بأن ذلك قد يكون ذريعة لدخول الجنود إلى البيوت وذريعة لممارسة النهب، فإن المنتصرين تعاملوا بشهامة و تخلوا عن مطلبهم، ولكن بعد ذلك بوقت قصير؛ فإن تلك الأسلحة التي تركت بتهور بين أيدي الناس قد استعملت ضد هؤلاء المنتصرين. وثورة القاهرة لم يتم الرد عليها إلا بقمع جد ضعيف، يقول نفس المؤرخ: وظل السكان يهنئون بعضهم، ولا أحد كان يظن أن الأمر سوف ينتهي بهذه الطريقة. وسكان فاس قد كان لهم نفس الانطباع بعد المظاهرات المغربية التي كانت تعقب صلاة العصر في سنة 1912، هذه المظاهرات التي لم تعاقب إلا عقابا خفيفا وبشكل سيء، فقد كانت هناك فقط بعض الإعدامات القليلة بدون محاكمة لبعض المغاربة الذين استغلوا المظاهرات للقيام بالنهب والسرقة أو لبعض المارة البؤساء الذين صادف مرورهم في ذلك الوقت، ولكن لم يتم إلقاء أي قنبلة أو طلقة مدفعية على الحرم الأكثر تقديسا من طرف المغاربة، كما لو أن في الأمر إهمالا؛ وقد كان من شأن ذلك بوضوح أن يوحي للمدينة الآثمة أن الحماية الإلهية لا تحمي الجريمة، حتى تلك التي ضحيتها كافر لعين.