من المفيد التوقف عند مقارنة حركة المد الديموقراطي الجارية اليوم في المنطقة العربية بمعارك الاستقلال التي جرت قبل أزيد من نصف قرن، حيث انطلقت بمصر في بداية الخمسينات وانتهت بالجزائر مع بداية الستينيات، ولعلها مفارقة أن تكون هذه الأخيرة متأخرة أكثر من غيرها من الدول العربية في كسب معركة الديموقراطية مثلما حصل مع تأخر كسبها لمعركة الاستقلال بعد أن قدمت أزيد من مليون شهيد. فرغم ما قد يثار من اختلافات في السياقات والفاعلين، إلا أن هناك عناصر اشتراك وتقارب كثيرة بعضها يهم المنطقة ككل وخاصة على ضوء تطورات الوضع في سوريا وليبيا ومصر وتونس واليمن، والبعض الآخر يتعلق ببلادنا، واستيعابها يمكن من انفتاح التفكير على آفاق متعددة في رصد تطور التحولات الجارية في المنطقة، سواء كانت ذات طبيعة ثورية أو إصلاحية، والأهم أنها تتيح القطع مع أوهام سبق رجالات الاستعمار إلى ترديدها، لكن دون أن يقع الاتعاظ بمآلاتها. من هذه العناصر يمكن الاقتصار على ثلاثة ذات راهنية قوية، يهم العنصر الأول منها عدم السقوط في الاستهانة بحركة التاريخ، ذلك أن المنطقة كما ولدت من جديد بفعل المعركة ضد الاستعمار، هي الآن بصدد الولادة من جديد بفعل المعركة ضد الاستبداد والفساد، وأن حركة التأثر والتفاعل بين الشعوب حركة جارية وعميقة ومستمرة، وأنه في زمن الثورة التكنولوجية والقنوات الفضائية فذلك أصبح أكثر قوة، والأهم أن الرهان على استعمال أشد السياسات دموية وتصفية لم تنجح في إيقاف ذلك المد، رغم ما قد يبدو من نجاح في تأخيره، وأن الشعوب تكون في لحظة ترقب قبل أن تقرر الدخول لحسم قضيتها سواء في التحرر أو الديموقراطية، وحالة الترقب هاته هي التي تنتج أوهام الاستثناء أو عدم التأثر قبل أن تقع المفاجأة كما حصل في سوريا وقبلها ليبيا في الأشهر الماضية، وذلك عوض أن تستثمر في بناء الثقة لتصحيح المسار والتفاعل الإيجابي مع حركة التاريخ قبل فوات الأوان، أما حالة المغرب فهي وضعية الترقب الإيجابي بعد المراجعة الدستورية، لكن الخوف هو أن تقع الاستهانة بتبديد ذلك في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. أما العنصر الثاني، فهي أن الولادة سواء في الماضي أو في الحاضر ليست عملية مثالية بل هي نتاج سيرورة معقدة من التفاعلات بين عدد من الفاعلين في الداخل أو الخارج، وأن مخاطر التحريف أو الإرباك أو العودة من النافدة بعد الطرد من الباب تبقى قائمة بل ومتنامية، مما أدى لإفراغ تجارب استقلال عديدة من محتواها التحرري الحقيقي، ولاسيما في ظل التحول الذي عرفته بنية النظام العالمي آنذاك بعد بروز القطبين أمريكا والاتحاد السوفياتي، مما يقتضي حالة من الوعي واليقظة تحول دون تكرار أخطاء الماضي، وما نشهده في تونس ومصر هذه الأيام خير معبر، أما ما نراه من نزوعات لاستعادة ما فقد في المراجعة الدستورية بالمراجعات القانونية القادمة هنا في المغرب فمؤشر دال على ذلك. ويمثل العنصر الثالث دلالة هامة بالنسبة للراهن المغربي، حيث يظهر في تفاعل الملكيات العربية آنذاك مع تطلعات الشعوب من أجل الاستقلال، حيث كان واضحا أن الحالة المغربية مقارنة مع مصر أو ليبيا أو الباي في تونس قدمت نموذج الخيار الاستباقي المبدئي الذي أعطى ولادة ما سمي بثورة الملك والشعب، رغم مناورات الاستهداف التي تمت بحركة القياد ونفي الملك في 1953، إلا أن انحياز الملكية التاريخية للموقف الشعبي والحركة الوطنية أدى إلى تأسيس مسار مختلف للملكية المغربية رغم ما حصل من توترات بفعل انتكاس التعاون بين الحركة الوطنية والملكية لاحقا في مغرب ما بعد الاستفلال وأدت إلى ارتباك حاد، والمطلوب اليوم هو استلهام هذا الدرس في بناء مغرب الديموقراطية، وتقدير دور هذا التعاون في المرحلة الراهنة للقطع مع كل أسباب الإرباك لهذا البناء.