تمثل الصيرفة الإسلامية تجسيدا عمليا ونموذجا واقعيا، يعكس جانبا من الجوانب الخاصة بفلسفة التشريع الإسلامي في مجال المعاملات المالية. فبعدما كانت الأحكام الفقهية المنظمة لأحد مكونات الاقتصاد الإسلامي حبيسة ومقيدة في بطون أمهات الكتب، تمكنت من الخروج إلى واقع المال وعالم الأعمال، فتلاقحت على ضوء التجربة مع مقتضيات الواقع من خلال مؤسسات قائمة بذاتها ، تتخذ من المنهج الإسلامي أساسا ومنطلقا لها، وتروم تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية، وبالتالي وضع المال وتشغيله في مساره الإسلامي الصحيح وفق مبدأ الاستخلاف وعمارة الأرض. لقد استطاعت المصارف الإسلامية أن تحجز لنفسها موقعا لا يستهان به ضمن المؤسسات الاقتصادية العالمية ذات التاريخ العريق والتجربة الطويلة والدعم المستمر والمتواصل. فأصبحت بذلك قيمة مضافة للواقع الاقتصادي العالمي- رغم الصعوبات والتحديات القائمة وفي ظل منافسة غير عادلة- ولعل ما يؤكد ذلك لغة الأرقام والتي تشير إلى أن" الصناعة المصرفية قد نمت بشكل سريع، على امتداد العقود الأربعة الماضية، إذ ازداد عدد المصارف الإسلامية في العالم إلى نحو 450 مؤسسة ومصرفاً حول العالم، يتركز نحو 40% منها في الدول العربية وتحديداً في دول الخليج العربي. وتوسعت قاعدة موجودات هذه المصارف والمؤسسات المالية لتتجاوز700بليون دولار." 1 وعلى المستوى الإجرائي والمنهجي تمكنت المصارف الاسلامية من الانتقال من مرحلة التحدي أو إثبات الذات إلى مرحلة العطاء المتميز، حيث تمكنت من ابتكار أساليب وصيغ جديدة في مجال التمويل والاستثمار تجمع بين الضوابط الفقهية والاستجابة للمتطلبات المعاصرة في مجال الاقتصاد ، من ذلك مثلا تصحيح دور النقود كوسيلة للاقتصاد الحقيقي عوض الاتجار فيها أو اتخاذها سلعة تقوم بثمن هو سعر الفائدة. كما اعتمدت على أسلوب المشاركة في الربح والخسارة بناء على قاعدة الغنم بالغرم لتتفادى بذلك الوقوع في المعاملات الربوية، الشيء الذي جعلها تركز على إدارة الاستثمار ودراسة الجدوى الاقتصادية، عوض إدارة الائتمان أو الاهتمام بمسالة الضمان وملاءة العميل. وقد كان من أهم النتائج المترتبة عن ذلك تحقيق الإنتاجية وتحريك دواليب الاستثمار بشكل عملي، والحيلولة دون وقوع حالة من التضخم أو الكساد. فالابتعاد عن التعامل بالفائدة معناه عدم قبول أية زيادة نقدية لا تقابلها زيادة إنتاجية، كما أن اعتماد أسلوب المشاركة عوض المداينة معناه عدم حلية العائد إلااذا كان نتيجة لتحمل المخاطر واحتمال الخسارة من قبل الأطراف جميعا، على عكس الإقراض بفائدة الذي فيه نوع من المحاباة للمقرض على حساب المقترض الذي يتحمل بمفرده مسؤولية ضمان القرض مع الفوائد المترتبة عليه ، في حين يبقى المقرض أو الدائن في منأى عن مخاطر العملية الإنتاجية، وهو بهذا التصرف يضمن لنفسه الغنم ويلقي بالغرم على المقترض. إن اعتماد العمل المصرفي الإسلامي على الأسس والضوابط الشرعية السالفة الذكر يعتبر صمام الأمان من الوقوع في الأزمات المالية، كما يضمن الاستقرار على مستوى المعاملات المالية ، على عكس المؤسسات المالية التقليدية التي تأثرت سلبا وبشكل كبير من جراء تداعيات الأزمة والتي أدت إلى إفلاس الكثير منها . فقد كشفت هذه الأزمة المالية العالمية عن هشاشة النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يقوم على التعامل بالفائدة ويعتمد على نظام المشتقات المالية والتي قوامها الغرر والقمار والاحتكار، وكلها أساليب محرمة من الناحية الشرعية. وفي السياق ذاته يمكن الحديث عن هذه الأزمة المالية من منظور آخر ويتعلق الأمر هنا بتلك المواقف وكذا النتائج المترتبة عنها ، وذلك على الصعيد الدولي والتي هي جديرة بالبحث والدراسة . من ذلك على سبيل المثال الموقف الذي عبر عنه الكثير من رجال الاقتصاد والسياسة في الغرب والذي مفاده الدعوة إلى دراسة مبادئ الاقتصاد الإسلامي واعتمادها من خلال الانفتاح على تجربة الصيرفة الإسلامية، للوقوف على خصوصياتها ودورها في تحقيق معدلات ايجابية في مجال الاستثمار وبعيدا عن الأزمات. فعلى سبيل المثال كتب فانسون بوفيس Vincent رئيس تحرير مجلة " تشالينجر" بتاريخ 05 شتنبر2008 موضوعا بعنوان: "البابا والقرآن " تساءل من خلاله عن موقف الكنيسة قائلا:" أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلا من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا، لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري ،لان النقود لاتلد النقود " 2. كما طالب Roland Laskine رئيس تحرير صحيفة le journal des finances في مقال له- في افتتاحية الصحيفة في 25 شتنبر2008 بعنوان : هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة الاسلامية ؟- بضرورة تطبيق الشريعة الاسلامية في المجال المالي والاقتصادي لوضع حد لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل والإفراط في المضاربات الوهمية غير المشروعة 3 ، بينما أصدرت الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية، وهي أعلى هيئة رسمية تعنى بمراقبة نشاطات البنوك في وقت سابق، قرارا يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية التي يتميز بها النظام الرأسمالي ، واشتراط التقابض في أجل محدد بثلاثة أيام لا أكثر من إبرام العقد ، وهو ما يتطابق مع أحكام الفقه الإسلامي. أما على المستوى العملي فقد لوحظ في الفترة الأخيرة تنافس كبير وانفتاح متواصل من قبل كثير من الدول الغربية مثل فرنسا وابريطانيا والولايات المتحدةالأمريكية واليابان من أجل فسح المجال أمام التمويلات الإسلامية . وهكذا فقد أصدرت الحكومة البريطانية قرارا سنة 2008 بمنح إعفاءات ضريبية على الصكوك الشيء الذي من شأنه أن يشجع نمو المصارف الإسلامية، كما قامت أيضا " بإلغاء الضريبة المزدوجة التي كانت تفرضها على القروض العقارية الإسلامية وهي القروض التي كان يحصل عليها الأفراد لشراء مساكنهم" 4. وتعتبر لندن العاصمة الغربية الأولى للصيرفة الإسلامية. أما على المستوى الأكاديمي والعلمي فقد بدأت بعض الجامعات البريطانية تمنح درجات وشهادات علمية في الصيرفة الإسلامية وكمثال على ذلك جامعات "ريدينغ" و"لافبرا" و"دندي" التي تمنح درجة الماجستير في الاستثمار المصرفي والصرافة الإسلامية.بالإضافة إلى معهد المصرفية الاسلامية والتأمين في لندن . كما يوجد برنامج للماجستير في المالية الاسلامية في جامعة باريس دوفن بفرنسا . وما من شك أن هذا التغير والانفتاح على المنتجات المالية الإسلامية من طرف دول غريبة يمثل في حقيقة الأمر حدثا متميزا، يحمل في طياته كثيرا من الدلالات و المعاني، ويتضمن جملة من الحقائق التي لا محيد عنها مهما تعددت الأسباب واختلفت الدوافع وتباينت المواقف والآراء . فثمة من يعتقد بهذا الخصوص أن الهدف الحقيقي من هذا التغيير هو الحصول على أكبر نصيب ممكن من أموال المسلمين الذين يحرصون على استثمار أموالهم وفق الطرق الشرعية، بمعنى أن المقصد هنا مقصد مادي تجاري، وذلك بتحقيق معدلات ربحية مهمة خاصة في ظل تزايد الفوائض المسجلة في ميزانيات دول الخليج نتيجة ارتفاع أسعار النفط . بالإضافة إلى ذلك ثمة من يركز على عامل المنافسة والحرص على تقوية الموقف المالي لهذه المؤسسات الغربية من خلال جذب العملاء المسلمين والاستفادة من ودائعهم وضمان استمرارية التعامل معهم، لتكوين قاعدة أكبر على مستوى المتعاملين مسايرة لمقتضيات العصر واستجابة لاحتياجات الواقع . وإذا كان لهذه الأسباب نصيب من الصحة بحكم ارتباطها بواقع الحال وهذا أمر لا يمكن إنكاره ،غير أن ثمة حقائق ملموسة لها ارتباط وثيق بطبيعة هذا التغير الحاصل على مستوى الغرب، ويتعلق الأمر على وجه الخصوص باعتراف الغرب بأهمية الصيرفة الإسلامية وقوتها في سوق النقد والمال، وإيمانها بالجدوى الاقتصادية لهذه المؤسسات المالية الإسلامية ،فالغرب لم يتبن هذه المنتجات المالية إلا بعد دراسة فنية معمقة بعيدا عن الاعتبارات العاطفية، فتبين له عن اقتناع أن هذه المنتجات المالية تتميز بالتنوع والجدة، الشيء الذي يسمح بتلبية حاجيات الأفراد والتجار المستثمرين والاستجابة لها، كما أنها تمكنت من الصمود أمام الأزمة المالية العالمية بحكم طبيعتها الخاصة إذ إنها تعتمد على ضوابط أخلاقية وعلى أسس شرعية بعيدا عن الربا والغرر والقمار مما يؤدي إلى تقليل المخاطر والحفاظ على جانب الربحية. وبناء عليه يمكن القول إن توجه الغرب سواء على المستوى المؤسساتي أو المعرفي أو القانوني إلى الأخذ ببعض جوانب الاقتصاد الإسلامي عامة والصيرفة الإسلامية خاصة لم يأت على سبيل الصدفة أو من منطلق العاطفة، وإنما جاء نتيجة دراسة متأنية وموضوعية تمثل اعترافا بأهمية الصيرفة الإسلامية. وهذا التطور الحاصل والانتشار الواسع للصيرفة الإسلامية يمكن اعتباره بلاغا للفكر الاقتصادي الإسلامي، ودعما قويا ماديا و معنويا للوجود الإسلامي في الغرب ، وتأكيدا صريحا لمصداقية الاقتصاد الإسلامي وخصوصية أحكامه ومبادئه التي هي ربانية المصدر وإنسانية المقصد، فهي تتواءم مع الفطرة وتروم تحقيق مصالح الخلق ودرء المفاسد عنهم .كما يمثل هذا التغير أيضا برهانا واضحا ودليلا ملموسا على واقعية التشريع الإسلامي وعالميته. وثمة نقطة أساسية لابد من الإشارة إليها في هذا السياق ، هي أن المزايا التي تحظى بها الصيرفة الإسلامية، وكذا الاهتمام الغربي المتزايد بشأنها يوما بعد يوم يطرح جملة من التحديات، و يضع على عاتق المسؤولين والعلماء مهمة جسيمة تتجلى في ضرورة العمل على تطوير آليات العمل ، ومجابهة التحديات المستقبلية في ظل وتيرة أسرع بحيث تتواءم مع الوتيرة التي يتطور بها الاقتصاد العالمي. ومن بين المجالات التي ينبغي الاهتمام بها أكثر في هذا الإطار " آليات العمل والتسويق ومراعاة المخاطر، ورفع مستوى الفعالية والمردودية والمهنية والتخصص . وهي كلها مطالب لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال النهوض بالبحث العلمي ، الذي يعتبر الأرضية الصلبة لكل عمليات التطوير والتحديث، وتوسيع دائرة الاستقطاب في النظام المالي الإسلامي." 5. كما أن التميز الحاصل على مستوى الضوابط والمبادئ التي تعتمدها الصيرفة الإسلامية في مجال التمويل والاستثمار والتي تجمع بين القيم الأخلاقية والقواعد الشرعية المرتبطة بالجانب العملي يستلزم ضرورة التركيز على هذه المقومات وضمان تفعيلها، وكذا الاهتمام بالجانب التنظيمي والرقابي والمحاسباتي خصوصا في ظل تزايد حجم المعاملات التي تقدم عليها المؤسسات المالية ذات الطابع العالمي. من ثمة إذن تأتي أهمية الجمع بين الاحترافية المهنية والضوابط الشرعية، وكذا تأهيل الموارد البشرية تأهيلا علميا وعمليا بحيث تكون في مستوى متابعة التطورات الحاصلة في عالم الأعمال ، ومواكبة المستجدات بما يراعي مقتضيات العصر ودون المساس بثوابت الشرع. فعلى سبيل المثال لا ينبغي تقديم تنازلات أو البحث عن مخارج شرعية أو التكلف في تأويل بعض النصوص الشرعية لتحليل جملة من المعاملات المحرمة أو إضفاء طابع المشروعية عليها، فقوة الصيرفة الإسلامية وخصوصياتها لا تكمن في مجال الربحية فحسب، بل تتمثل أيضا في جانب القيم الفطرية والمقاصد الأخلاقية والرسالة التربوية والإنسانية. وتلكم أهم الأسباب التي جعلت هذه المصارف محل تأثير على الآخر، فاكتسبت بذلك طابع العالمية والمصداقية في آن واحد. ❋❋❋❋❋ الإحالات: 1 - مقال بعنوان: ودائع المصارف الإسلامية تريليون دولار عام 2012 منشور في الموقع التالي: WWW.ISLAMTODAY.NET 2 - ذ مصطفى الشيمي ، مقال بعنوان : في الأزمة المالية المعاصرة . مجلة الإعجاز العلمي ع:31/ ص27 3 - د . أشرف محمد دوابه ، الاقتصاد الإسلامي مدخل ومنهج . ص: 61 .دار السلام .الطبعة الأولى .2010م 4 جريدة الشرق الأوسط، ، العدد: 11609 . (الجمعة1شوال 1431/10شتنبر2010) 5 -د . عبد الرجيم العلمي ، دور البحث العلمي في النهوض بالعمل المصرفي بحث مقدم إلى "مؤتمر المصارف الإسلامية بين الواقع والمأمول"دبي 31 مايو/ 3 يونيو 2009م. عضو الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في الاقتصاد الإسلامي