في هذا الحوار، يناقش الدكتور مصطفى منار مشروع الدستور الجديد على ضوء ثلاث معايير، من بين أخرى، تعد عالمية وكانت أساس عدة مذكرات حزبية رفعت إلى لجنة المنوني. الأولى مرجعية الدولة وهويتها، ووضعها في الدستور الجديد، والجديد فيها دسترة المجلس الأعلى للعلماء، وعضويتهم في مؤسسات دستورية أخرى، فضلا عن تقسيم الفصل 19 في دستور 96 إلى فصلين هما 41 و42. والثاني مبدأ فصل السلط، وقال منار بشأنه إنه يجب قراءته على ضوء ملكية تنفيذية التي تعد جوهر مشروع الدستور، وإن أرسى بعض معالم الانتقال الديمقراطي، أبرز مؤشراتها اعتماد منطق الشراكة والتشاور بين الملك والوزير الأول على المستوى التنفيذي. أما المبدأ الثالث فهو ربط المسؤولية بالمحاسبة، وقال منار بشأنه إن الدستور الحالي عزز من آليات الرقابة السياسية والقضائية على ممارسة السلطة، وتدبير الأموال العمومية. فيما يلي نص الحوار: ❒ تم تقسيم الفصل 19 في دستور 96 إلى فصلين في مشروع الدستور الجديد هما الفصل 41 والفصل 42، ما آثار هذا التقسيم من الناحية الدستورية؟ ❒❒ التقسيم لا يعني الإلغاء أو التضييق، ولكن قد يعني إضافة جديد، في هذا الإطار أعتقد أن الفصل 41 أضاف جديدا مقارنة مع الفصل 19، على الأقل فيما يخص الصلاحيات الدينية للملك، وأهم جديد هو دسترة المجلس العلمي الأعلى في هذا الفصل، و تخصيصه بالفتوى اعتمادا على مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، والفتوى هنا هي تلك التي تعتمدها الدولة رسميا، وهو ما يُغلق في نظري الباب أمام فوضى الإفتاء. لكن دعني أقول لك أن هذا الفصل يطرح إشكالا يتعلق بطبيعة الاختصاصات التي يمارسها الملك بواسطة الظهائر، وهل تقتصر على التدبير أم تتعداه إلى التشريع؟، من المهم الإشارة هنا إلى أن جلالة الملك أكد في خطابه الذي أعلن فيه عن مضامين مشروع الدستور أن التشريع هو مجال خاص بالبرلمان، وإذا كان الأمر كذلك فإن الملك يقتضي ألا يُشرع في المجال الديني، وإلا عليه أن يشرك نواب الأمة في هذه المسألة. ❒ بالإضافة إلى أنه دستر المجلس العلمي الأعلى، يلاحظ أن مشروع الدستور كرّس حضور العلماء في مؤسسات دستورية أخرى، هل يؤسس هذا الحضور لنهاية التضارب بين القوانين والدين الإسلامي؟ ❒❒ لا شك أن دسترة مؤسسة العلماء وتمثيليتهم في المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وفي المحكمة الدستورية، هو قيمة مضافة ومهمة، ومن شأن ذلك أن يضفي صبغة دستورية على عمل المجالس العلمية. ولا شك أيضا أن دسترة المجلس العلمي الأعلى ستمكن العلماء من ممارسة وظيفتهم على أكمل وجه، ومساعدة الملك في القيام بمهام إمارة المؤمنين. وأعتقد أن هذا سيؤدي إلى توحيد الرؤية والانسجام أكثر، سواء في المجال الديني أو في العلاقة بينه وبين بقية المجالات. ❒ هل ترى أن مشروع الدستور الجديد استطاع التوفيق بين المرجعية الإسلامية والديمقراطية؟ ❒❒ أعتقد أن هناك فرق كبير بين ما جاء في المشروع وبين ما كان منصوصا عليه في المسودة، المشروع المعروض على التصويت جاء متقدما على المسودة التي وضعتها اللجنة، وحسب ما روّجته أكثر من جهة، فإن المسودة كانت تتضمن تنصيصا على حرية المعتقد، الذي يمكن تأويله تأويلات خطيرة لأهداف غير متوقعة، بحيث يمكن أن يقع الدعوة إلى تغيير الدين، وفتح الباب بشكل مجاني أمام موجات التنصير والتشيع، وغيرها من العقائد والمذاهب التي نعرف ولا نعرف. كنت أريد بعدما تم التراجع عن حرية المعتقد في المشروع أن يتم التنصيص على المذهب المالكي، كما كان عليه الحال في القانون الأساسي الذي وضعه المرحوم الحسن الثاني سنة 1961. وفي المسودة أيضا كان الحديث عن المغرب كبلد مسلم، عوض المغرب دولة إسلامية، وكان من شأن ذلك الإضرار كثيرا بالشرعية الدينية للدولة المغربية، قبل أن يتم تدارك هذا الأمر الخطير في نص المشروع، وهذا مهم جدا. أما بالنسبة للغة العربية، فهي لغة تعرضت للتهميش. في القانون الأساسي لسنة 1961 لم يكن ينص على لغة الدولة، لأنه لم يكن أحد يدرك أن اللغة العربية ستتعرض لما تعرضت له بعد ذلك من تهميش. أقصد أن اللغة العربية لم تكن تطرح إشكالا وقتها، وأتحدث عن فترة كان فيها علماء وسياسيين كبار أمثال علال الفاسي وعبد الكريم الخطيب، لكن اليوم بات الأمر شائكا، ويطرح على مستوى الهوية ككل. كان هناك زيغ في مسودة الدستور وقع تداركه في المشروع، الذي نص على أن اللغة العربية يجب حمايتها وتطويرها. وموقفي الشخصي في هذا الموضوع أن دستورية اللغة العربية لغة رسمية لا يجب أن يشرك معها شيء، ويمكن التنصيص على باقي اللغات كلغات وطنية، وأعتبر التجربة الإسبانية غنية في هذا الباب، فهي تنص على القشتالية لغة رسمية للدولة، وباقي اللغات لغات وطنية للجهات التي تتكلم بها. وأظن هذا المخرج ممكن اعتماده بالنسبة للمغرب، والمغاربة لن يسمحوا باختلاق الصراع بين العربية الأمازيغية. يجب أن لا يستغرقنا النقاش حول الهوية على حساب التنمية، وكيفية تطوير المغرب والنهوض به، خاصة وأن النقاش يتصدره أحيانا من هم ليس أهله، ومن لهم خلفيات سياسوية ضيقة، وما دام هؤلاء يتزعمون النقاش في هكذا مواضيع، فإن المغاربة عليهم أن ينتبهوا إلى مخاطره، لأن النقاش حول اللغة وافتعال الصراع بين الأمازيغية والعربية، يمكن أن يكون بمثابة الشرارة الأولى لقنبلة موقوتة، أدعو المغاربة إلى حماية أنفسهم منها، والحفاظ على وحدتهم التاريخية. ❒ إلى أي حد استجاب مشروع الدستور الجديد إلى مبدأ فصل السلط وتوازنها؟ ❒❒ أعتقد بأن مشروع دستور 2011 من خلال الفصول التي تناولها حاول أن يؤسس لمبدأ الفصل بين السلط، لكن في إطار نظام ملكية دستورية، بمعنى أنه لم يؤسس للقطيعة. ولا يمكن في نظري القول بأن ما جاء في مشروع الدستور هو نظام ملكية برلمانية. لكن يمكن القول أن هناك توازن وتكامل في مشروع الدستور الجديد. عندما نقول مبدأ فصل السلط في الفقه الدستوري معناه أن كل مؤسسة لها اختصاصات تستقل بها عن غيرها، وتمارسها في تكامل مع باقي المؤسسات الدستورية. ومشروع الدستور الذي نحن بصدده فيه قدر كبير من الوضوح بين المؤسسات الدستورية، بين الملك والسلطة التشريعية، وهذا الأخيرة والسلطة التنفيذية، وكذا بين الملك والسلطة القضائية، التي أصبحت مستقلة عن باقي السلط، لكن لم يصل إلى ملكية برلمانية، وإنما ظل حبيس ملكية دستورية تنفيذية. ❒ لكن هناك إشكال يثار بصدد رئاسة الملك لغالبية المؤسسات الدستورية، واحتفاظه بصلاحيات تشريعية وتنفيذية وقضائية، ألا يشوش هذا على مبدأ فصل السلط؟ ❒❒ يبدو أن هذه من الأمور التي تطرح إشكالات، لكن لا ننسى أنه في الدساتير السابقة كان الملك هو محور الفعل السياسي، وكذا النظام السياسي المغربي. وكون أن مشروع الدستور الجديد نصّ على أن شكل النظام السياسي هو نظام ملكية دستورية ديمقراطية برلمانية اجتماعية، فهذا يعني أن الملك يظل له موقعه ومركزه الأساسي، دون أن يعني ذلك عدم وجود تنازلات عن بعض الصلاحيات. ومكانة الملك تخضع لعدة اعتبارات تاريخية ودينية وسياسية، تسمح له يأن يحكم ويسود، على خلاف ما تقتضيه معايير الملكية البرلمانية. كما أن الاعتماد على البيعة كأساس للحكم، تستلزم أن يحكم الملك بصفته أميرا للمؤمنين، وهذا هو ما يُنظمه الفصل 41 في الدستور الجديد، الذي احتفظ للملك بحق التدبير في المجال الديني. كما له حق التشريع من خلال الفصل 70 الذي ينص على أن للملك أن يأذن للحكومة وفق شروط محددة أن تتخذ مراسيم تدبيرية، التي تدخل إلى حيز التنفيذ بمجرد نشرها في الجريدة الرسمية، وهناك الفصل 81 الذي يتحدث عن مراسيم تطبيقية التي تؤخذ خلال الفترة ما بين دورات مجلسي البرلمان، أضف إلى ذلك أن الملك بصفته رئيسا للقوات المسلحة الملكية، وبصفته رئيسا للمجلس الأعلى للأمن، وكذا رئيسا للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، كل تلك الصفات تجعل الدستور يحتفظ للملك بصلاحيات عسكرية وأمنية وقضائية إضافة إلى الصلاحيات الدينية. ❒ هناك من يعتقد أن التنصيص على عضوية رئيس الحكومة في عدة مؤسسات يرأسها الملك، مثل المجلس الأعلى للأمن، والمجلس الوزاري، يؤسس لمنطق الشراكة بين الملك والحكومة في تسيير شؤون الدولة، ما رأيك؟ ❒❒ أعتقد أن مشروع الدستور اعتمد فعلا منطق التشاور والشراكة بين الملك ورئيس الحكومة، وهذا يؤسس لبعض معالم الانتقال الديمقراطي، من خلال الصلاحيات التي أضيفت إلى رئيس الحكومة، وهي أقوى مقارنة مع دستور 1996. وهذا واضح في المجلس الوزاري الذي يترأسه الملك، ولكن يمكنه أن يفوض لرئيس الحكومة رئاسة المجلس نفسه بناء على جدول أعمال محدد. ولرئيس الحكومة حق الاقتراح في التعيين في المناصب السامية، أي تعيين السفراء والولاة والعمال، ومديري المؤسسات الأمنية، والمقاولات الإستراتيجية، على أساس أن يتم التعيين في المجلس الذي يترأسه الملك ويحضره رئيس الحكومة والوزراء. كما أن الدستور ينص على أنه من حق الملك حلّ البرلمان، وكذلك رئيس الحكومة بعد استشارة الملك ورئيسي البرلمان. كما نص الفصل 54 على حضور رئيس الحكومة في المجلس الأعلى للأمن، إلى جانب وزراء المعنيين بقضايا الأمن والدفاع، مثل وزير الخارجية والدفاع والداخلية والقضاء والدفاع وضباط من القوات المسلحة الملكية، يمكن القول أن هؤلاء هم وزراء السيادة في الدستور الجديد. من خلال الفصول المذكورة يظهر أن هناك تأسيس لمنطق الشراكة في تدبير أمور الدولة. ❒ أشرت إلى وزراء السيادة، هل هذا يعني دسترة ما كان عرفا؟ ❒❒ انطلاقا من قراءتنا للفصل 49 المتعلق بمجلس الوزراء، والفصل 54 المتعلق بالمجلس الأعلى للأمن، فإن تخصيص وزراء الخارجية والداخلية والقضاء والدفاع هم ركائز الدولة، وسيبقى مصيرهم بيد الملك، حتى وإن كان للرئيس الحكومة حق اقتراح جميع الوزراء. ❒ كيف تقرأ مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة في الدستور الجديد؟ ❒❒ ينص الدستور على مسؤولية رئيس الحكومة أمام البرلمان، بل إن تنصيب حكومته لا تتم إلا بحصول رئيس الحكومة نفسه على أغلبية أصوات مجلس النواب. وأمام البرلمان أيضا يُقدم شهريا ما أنجزته حكومته من أعمال ذات طبيعة سياسية، وهذه رقابة سياسية واضحة، وقد تكون فعالة. وفي الفصل 94 تم التنصيص على أن الوزراء الذين أخلوا بواجباتهم تجاه الشعب يحاكمون أمام المحاكم العادية للدولة، بمعنى أن هناك مساواة في التقاضي بين جميع المواطنين مهما كانت مواقعهم. زيادة على أن الوزير لا يمكنهم الجمع بين مهامهم في الحكومة ومهامهم المهنية والتجارية وأن لا يكون طرفا في صفقات عمومية، أحد طرفيها الدولة. لقد كرّس الدستور أيضا مبدأ عدم الإفلات من العقاب، كما أوصت به هيئة الإنصاف والمصالحة، وهذا يمتد إلى مجال اختلاس الأموال العمومية، الذي يختص بالتقصي والمراقبة فيه المجلس الأعلى للحسابات، الذي له صلاحية النظر والتدقيق في صرف الأموال العمومية للدولة، وكذا أموال التي تسلم إلى الأحزاب السياسية، وأوجه صرف الأموال العمومية في العمليات الانتخابية، هذا بالإضافة إلى التنصيص على مبدأ التصريح بالممتلكات. ❒ لكن كيف يستقيم إعمال مبدأ المحاسبة في ظل وجود مؤسسات دستورية تخضع لمنطق التعيين؟ ❒❒ لا يمكن أن نتصور في ظل وجود برلمان منتخب، ورئيس حكومة من الحزب الأول في الانتخابات، عدم وجود محاسبة للمؤسسات. وإعمال منطق التعيين قد تكون له نتائج إيجابية أو سلبية، تبعا لقدرة الفاعلين السياسيين على تفعيل نصوص الدستور في الاتجاه الديمقراطي. عندما نتحدث عن التعيين في المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الذي يُعيّن الملك فيه 5 شخصيات مشهود لهم بالنزاهة والتجرد والكفاءة، بما فيهم عضو مقترح من المجلس العلمي الأعلى، أظن أن هذه التعيينات ستكون إضافة نوعية للمجلس، لكن حينما يتعلق الأمر بتعيينات على مستوى المؤسسات المدنية، فإن الدستور يؤكد أنها تتم بتشاور بين الملك ورئيس الحكومة، بمعنى أن التعيينات المهمة ستخضع للتوافق الإيجابي. ❒ قصدت بسؤالي المؤسسات التي وظيفتها المحاسبة والمراقبة مثل مجلس المنافسة، أو مجلس الوسيط ومجلس محاربة الرشوة، والتي هي مؤسسات حساسة بالنسبة للمواطن المغربي؟ ❒❒ لقد تم التنصيص على دستورية هاته المؤسسات، وهذا تقدم مهم، وأعتقد أنها ستصبح مؤسسات تقريرية، لها الحق في إحالة ما تراه اختلالات على القضاء. مؤسسة الوسيط مثلا أصبح لها امتداد داخل المجلس الأعلى للقضاء، الذي يتكون من شخصيات منتخبة وأخرى معينة بالصفة، منهم ممثل عن مؤسسة الوسيط وآخر عن المجلس الوطني لحقوق الإنسان. الحكامة تحتاج إلى تعميق أكثر، وهذا سيقع بالموازاة مع تطور المؤسسات العصرية، وبالتالي تطور الدولة نفسها. ❒ يتحدث الدستور عن الملك باعتباره «حكما أسمى» في الوقت الذي يترأس فيه عدة مؤسسات دستورية، ألا يبدو هذا تناقضا؟ ❒❒ قد يبدو ذلك، لكن من المعلوم أن التحكيم طالبت به الأحزاب والنقابات، وتم تضمينه في الفصل 42 من مشروع الدستور الجديد، وهذا مهم، لأنه قد تطرح إشكالات واقعية تتطلب تحكيما خارج ما يمارسه الملك من صلاحيات، وأبرز مثال على ذلك ما ورد في الفصل 47 حيث ينص على أن الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر نتائج الانتخابات، لكن لم يقيد هذا التعيين بفترة زمنية، والإشكال الذي يمكن أن يطرح هو تصدر حزب نتائج الانتخابات ثم لا يستطيع تشكيل تكتل كاف يمنحه الأغلبية، هنا أظن لابد من تدخل الملك للتوفيق بين الأحزاب لتشكيل حكومة لتنجب الفراغ الدستوري. والدور التحكيمي للملك مرتبط بوظيفته السيادية والتمثيلية والضمانية كذلك، وهذه الوظائف منها ما هو منصوص عليه في الدستور صراحة، ومنها ما هو مسكوت عنه، وقد يفرز الواقع السياسي أحداث ووقائع تتطلب تفعيل الدور التحكيمي للملك خارج ما هو منصوص عليه صراحة في الدستور.