اعتبر أحمد الريسوني أن أهم عنصرين جديدين أتت بهما مذكرة حركة التوحيد والإصلاح هما: المطالبة بدولة مدنية مرجعيتها إسلامية، ومحاولة الدمج بين مبادئ الإسلام في الحكم ومقتصيات الخيار الديمقراطي. وأوضح أن تصور الحركة للدولة المدنية هي الدولة التي لا شيء مقدس فيها، ولا شيء فوق الدستور والقوانين، وأن السيادة فيها للشعب الذي مرجعيته إسلامية. وأضاف الريسوني أنه لا اعتراض للحركة على مضامين الاتفاقيات الدولية سوى ما يتعارض منها مع ما هو قطعي في الإسلام، إذ كل دولة لها سيادة تعتز بها من حقها أن تتحفظ على الجزئيات التي تعارض مرجعية شعبها وهويته. وأبرز الريسوني أن تنصيص الحركة على الإسلام، وليس الشريعة، مصدرا أولا للتشريع، المقصد منه تفادي اللبس من جهة، ومن جهة أخرى لأن الإسلام بأحكامه وقيمه ومقاصده أوسع وقادر على استيعاب القيم الإنسانية الكونية. وفي ما يلي نص الحوار: ما هي جوانب الاجتهاد والإبداع التي جاءت في مذكرة حركة التوحيد والإصلاح بخصوص الإصلاح الدستوري؟ بسم الله الرحمن الرحيم، لعل من عناصر الجدة والتجديد التي جاءت في مذكرة حركة التوحيد والإصلاح، وفي مواقفنا كذلك، وهي قضية شرحناها أمام اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، تبرز في عنصرين: الأول هو ما أسميناه ب''الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية''، والثاني ''الدمج والمزج بين مبادئ الإسلام في الحكم الرشيد والمنهج الديمقراطي''. وحول هذين العنصرين كذلك انصبت أسئلة أعضاء اللجنة الاستشارية، خاصة الأول منهما. وقد أوضحنا من جهتنا أن ما نعنيه بالدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، أنها الدولة التي لا شيء مقدس فيها، ولا مقدس فوق الدستور أو القوانين. ومعنى ذلك، أن دستورها وقوانينها وتشريعاتها تعكس اجتهادات، وبصفتها تلك فهي تقبل النقد والاعتراض والتغيير والتبديل، وتخضع للمؤسسات المعتمدة، ففيها تُقترح وتناقش وتُعدل ويُصادق عليها. لكننا نقول إن المرجعية الأولى لهذه القوانين والتشريعات يجب أن يكون هي الإسلام، بأحكامه وقيمه ومقاصده الكبرى. وانطلاقا من هذا المرتكز، نصت مذكرتنا على ضرورة حذف صفة القداسة من الدستور مثلا، وعلى دسترة البيعة الشرعية، لأنه لا يعقل أن يكون حدث بهذا العمق، بحيث هي التي تعطي الشرعية لأي ملك يتولى الملك، ولا تكون البيعة الشرعية منصوصا عليها في الدستور، وتصورنا كما نصت عليه المذكرة أن البيعة هي بين طرفين: الملك من جهة، وممثلي الأمة والمؤسسات الدستورية من جهة ثانية، فهي بيعة متبادلة إذن وليست من طرف واحد. ومعلوم أن هذا كله مسكوت عنه في البيعة الحالية، وغير مُحدد فيها من يبايع، وهذا لا يعقل. أما العنصر الثاني فهو المزج والدمج الخلاق والمبدع بين مبادئ الإسلام في الحكم الراشد ومقتضيات الخيار الديمقراطي. نحن نعتبر في حركة التوحيد والإصلاح أن في الإسلام مبادئ مُوجهة تضمن إقامة حكم راشد، مثل مبادئ الشورى والمحاسبة والتصرف في الأموال بحق والشفافية والعدل وغيرها كثير، نريد أن نصبها في مقتضيات الخيار الديمقراطي بحيث تتحول إلى مؤسسات وهيئات، وإلى قوانين تنظيمية وتفصيلية، وإلى اختيارات شعبية. هذا الدمج نرتضيه وبموجبه نرتضي الاحتكام إلى الشعب وإلى مؤسساته المنبثقة عن انتخابات حرة ونزيهة، بل نقبل بمخرجاته بدون تحفظ أو مصادرة مسبقة. على أساس أن الشعب هو مصدر السيادة والشرعية الحقيقية والفعلية، إذ يستمد الجميع شرعيته من الشعب ابتداء من البيعة التي يؤديها ممثلو الشعب، إلى القوانين التي تصدرها مؤسسات منتخبة من الشعب، إلى المؤسسات الديمقراطية التي تتخذ القرارات. فهذه هي الصيغة التي نتصورها ونقترحها للدمج بين مبادئ الإسلام ومقتضيات الخيار الديمقراطي. في مذكرة الحركة ثمة تنصيص على أن يكون الإسلام هو المصدر الأول للتشريع، ولم يَرد ذكر الشريعة على غرار أمثلة ونماذج أخرى تصرح وتطالب بها، لماذا الإسلام وليس الشريعة في مذكرة حركة التوحيد والإصلاح؟ لأن الشريعة كمصطلح أصبح مفهوما مشوشا، وأحيانا سلبيا، خاصة في الحقبة الأخيرة. لم يعد الناس يفهمون من الشريعة سوى الحدود وقطع اليد، وهذا فهم خاطيء ومشوه ومختزل، مع العلم أن أحكام الحدود معدودة وتعد على رؤوس الأصابع. لتجاوز هذا اللبس، اقترحنا الإسلام بوصفه أعمل وأشمل وأوسع، الإسلام بما هو عقيدة وشريعة وأخلاق وقيم وأحكام ومثل عليا. وحينما نقول الإسلام مصدر أول للتشريع، فإننا نعني به كذلك المقاصد والأحكام، بل حتى القيم الإنسانية الكونية التي جاءت بها الأديان السماوية، وأجمعت على الأخذ بها واعتبارها، مثل كرامة الإنسان وحقه في الحياة، وفي التعليم وفي الصحة، وهي قيم عالمية نقول بها ونتمسك بها امتثالا للإسلام. ونضيف إليها قيما أخرى مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وصيانة الحقوق الفردية والجماعية. ولذلك رأينا أن مقاصد الإسلام تستوعب كل هذه القيم، ولذلك قلنا به ولم نقل بالشريعة. في حالة تعارض مقتضيات المرجعية الإسلامية مع بعض مقتضيات الاتفاقيات والمواثيق الدولية، ما هو المخرج الذي تقترحونه؟ هذه من بين النقط التي حدث فيها نقاش مطول مع اللجنة، بالنسبة إلينا في حركة التوحيد والإصلاح نعتقد أن المرجعية الإسلامية فيها أمور قطعية، وأخرى ظنية اجتهادية. في الأمور القطعية نعتبر وبدون تردد أن المرجعية الإسلامية باعتبارها مرجعية شعبية ووطنية كذلك، يجب أن تُقدم على المواثيق الدولية، ولنا إزاءها الحق في التحفظ على ما يتعارض منها مع هذه القطعيات بشكل صريح وغير قابل للاجتهاد. أما في الأمور الظنية وهي الأوسع والأشمل فنحن نقبل بها ونقرها. لكن التعارض في عمومه حاصل في مسائل جزئية وقليلة، ونرى بخصوصه أن من واجبنا ومن حق الشعب علينا وانسجاما مع مرجعيتنا أن نتحفظ على ذلك، والتحفظ قد يكون أحيانا على جملة أو جملتين من اتفاقية بكاملها. ومعلوم أن هذه المواثيق نفسها تسمح بالتحفظ، وهو من حق كل الدول التي تعتز بكيانها وسيادتها، ولا يمكن أن يفرض علينا أحد أن نلغي شعبا بكامله وان نمس بمرجعيته، بمبرر مواثيق واتفاقيات خارجية. وإن كنت أرى وأؤكد مرة أخرى أن التعارض جزئي وليس كلي ودائم. من القضايا التي تثار في النقاش بين مختلف الفاعلين في المغرب حاليا ''الحكم بالإعدام''، لكن الملاحظ أن مذكرة الحركة طرحت قضية أوسع هي ''الحق في الحياة''، لماذا؟ لقد أثيرت هذه القضية كذلك مع اللجنة المكلفة وأثارت تساؤلات، وتصورنا وموقفنا بخصوصها أننا نتمسك بحرمة وقدسية الحياة، التي هي هبة عظيمة من الله تعالى، ومن المعلوم أن قدسية الحياة والروح البشرية إنما جاءت بها الأديان، وجعلتها من مقاصدها الكبرى، فهي مصدرها أولا وقبل كل شيء. بل إنها مسألة فطرية في كل إنسان خلقه الله تعالى، بحيث تجده متمسكا بالحياة وإن كان يقاسي ويعاني من أجل يستمر فيها، فهي فطرة مغروسة في الإنسان. ولذلك قلنا بصريح العبارة إننا متفقون تماما على أن يتم التنصيص صراحة في الدستور على الحق في الحياة، ومعنى ذلك أن تتم صيانة الحياة من كل ما يتهددها بكيفية غير مشروعة من مخاطر. وذكرنا على سبيل المثال ترويج المخدرات والخمور التي تعصف يوميا بعدد من الأوراح. فهي مخاطر تؤدي إلى إزهاق الروح، وحرمان الإنسان من حقه الذي أعطاه الله في الحياة. ومن هذا المنطلق قلنا إنه لا بد أن ينص الدستور على هذا الحق، وأن تفصل قوانيننا وسياساتنا وتوضح بما لا يترك مجالا للبس كيفية صيانة حرمة الحق في الحياة. والحكم بالإعدام ليس في الأخير سوى قضية من بين أخرى، يمكن أن تفصل في قوانين أخرى غير الدستور الذي يجب أن ينص على ما هو كلي وهو الحق في الحياة. لكننا في المكتب التنفيذي وفي غيره داخل حركتنا سبق وأن قلنا إن حالات الإعدام المنصوص عليها في القانون الجنائي، ليس لدينا مانع من أن يتم إلغاؤها إلغاء كاملا. لأنها حالات لا تستحق أن يكون فيها الإعدام. وإن كنا من حيث المبدإ مع الإبقاء عليه، ولا نقبل أن تلغى نهائيا وفي جميع الحالات، لأن هناك حالات بعينها ومحددة تستحق أن يكون فيها الإعدام، خاصة في الوقائع التي يُقتل فيها الناس فرادى وجماعات، فإن ردع مرتكبيها لن يكون إلا بحكم الإعدام الذي سيكون صيانة حقيقية للحق في الحياة، وهذا مغزى قول الله تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب). ركزت الحركة في المذكرة على ضرورة تعميق الخيار الديمقراطي، ما الذي تقترحونه لتعميق هذا الخيار وكيف؟ نحن عبرنا دائما أننا مع الخيار الديمقراطي كخيار استراتيجي، وأننا مع تعميقه وترشيده، ومع إلغاء ما يتناقض معه. أما الاقتراحات والتفاصيل فهي قد تختلف من طرف إلى آخر، لكن لا ينبغي أن تشوش على ما هو استراتيجي. ومما تفردنا به في مذكرتنا المطالبة بإحداث هيأة وطنية مستقلة تشرف على الانتخابات بكل أصنافها. لماذا؟ لأن جوهر ما في الديمقراطية بل وعمودها الفقري هي الانتخابات، وهذه الأخيرة تُجرى في المغرب على امتداد 50 سنة، لكنها كانت دائما مطعون في نزاهتها، ليس من قبل الفرقاء الحزبيين فقط، بل هي شهادة تاريخية للنخبة المغربية منذ الاستقلال إلى اليوم، والسبب في ذلك هي وزارة الداخلية. لقد أثبتت وزارة الداخلية منذ خمسين سنة أنها يستحيل أن تكون طرفا محايدا، لأنها طرف يخوض المعارك بشكل دائم، وتشتغل بالانتخابات طيلة السنة وعلى مدى كل السنين. وأثبتت كذلك أنها تفسدها بجميع الوسائل، وتصنعها كما تريد. إلى أن ثبت عندنا، وعند كل المتتبعين، أنه يستحيل أن تكون هناك انتخابات نزيهة بإشراف وزارة الداخلية وبتنظيم منها. من أجل ذلك، ولأن الانتخابات هي العمود الفقري للديمقراطية، وإذا كان المغرب يريد انتخابات نزيهة حقا وفعلا، فهو بحاجة إلى هيئة غير مطعون فيها. ومقترحنا نطرحه على الدولة، وأمام الملك حفظه الله ووفقه، وعلى الحكومة، بل أمام الجميع. فهي صيغة نرمي من ورائها إلى أن تكون الانتخابات نزيهة وحرة، وأن نرفع عنها الشبح الذي ظل يُخيم عليها منذ الاستقلال، حتى لا أقول شبح الفساد والتزوير الذي يتم بوسائل متعددة ومعروفة. طبعا المذكرة تقدمت باقتراحات أخرى عديدة، ومن أهمها كذلك، اقتراح يرمي إلى تقوية دور المجتمع المدني في التشريع، وفي الرقابة على القوانين، وفي رسم السياسات وتنفيذها. لأننا نعرف أن الأحزاب بكاملها لا تؤطر سوى نحو مليون مغربي، وذلك طيلة السنة كلها. فمن سيؤطر ما تبقى من الشعب المغربي. إن الذي سيؤطره هم الشباب والمجتمع المدني، ومقترحنا يهدف إلى إشراك هيآت المجتمع المدني كل في تخصصه ومجال عمله، في التشريع وفي الرقابة على القوانين، وقبل ذلك إشراكها في وضع السياسات العامة، الدينية منها والثقافية وغيرها.