ثمن الدكتور أحمد الريسوني الخبير الأول في مجمع الفقه الإسلامي بجدة، وأستاذ أصول الفقه بجامعة محمد الخامس بالرباط سابقا، (ثمن) التحركات الشعبية والشبابية الأخيرة في معظم الأقطار العربية، واعتبرها صحية وطبيعية ومبشرة بكل خير، على اعتبار أن الناس ضاقوا ذرعا بالأنظمة والأحزاب الاستبدادية المتوحشة التي تحكم لنصف قرن وأكثر. وضاقوا ذرعا برموز الاستبداد من أصحاب الثلاثين والأربعين سنة في الحكم، ضاقوا ذرعا بخنق الحريات وكتم الأنفاس وقهر المعارضين وقال الريسوني في حوار ل ''التجديد'' إنه وجد في الخطاب الملكي ليوم 9 مارس وفي ما تبعه من خطوات لتنفيذ مقتضياته، صدقا وجدية وتجاوبا حقيقيا مع متطلبات المرحلة. وحذر الريسوني من خصوم الديمقراطية في المرحلة الراهنة، مشيرا إلى أن منهم من يكثرون الثرثرة حول الديموقراطية ومن التشدق بها، فإذا ما لاحت لهم الديموقراطية الحقة أو بدأ تطبيقها بالفعل، رأيتهم يصدون عنها ويتآمرون لإجهاضها وتعطيلها. وأبدى الريسوني تخوفه من أمرين: ''أولهما أن الشيطان يسكن في التفاصيل، فهل ستتمكن لجنة صياغة التعديلات من إخراج الشيطان من التفاصيل، أم ستقوم بدسه فيها'' وبخصوص مكانة العلماء أكد الريسوني أن الوضع الطبيعي في الإسلام أن العلماء هم السلطة الأولى إلى جانب مؤسسة الإمامة (أي رئاسة الدولة) مستطردا: ''أنا مع الاجتهاد والتجديد فيما يخص قضايانا اليوم، وأعتقد أن فقهنا القديم ليس كافيا وليس ملزما لنا. وبخصوص المبادرة الإصلاحية التي أطلقتها حركة التوحيد والإصلاح وشركاؤها. قال الريسوني إن معظم محتوياتها تدخل فيما يمكن اعتباره الآن دائرة الإجماع الوطني، مضيفا أنها بحاجة إلى مزيد من التوضيح والتدقيق والتأصيل والتفصيل، ثم بعد ذلك يتم عرضها وشرحها لمجمل الشعب المغربي، وبكل الوسائل الممكنة، وأهمها التواصل المباشر مع كافة فئات الشعب، منبها إلي أن حركة التوحيد والإصلاح ذات تجربة رائدة وقدرة كبيرة في هذا الباب. المحور الأول : المغرب والتفاعل مع حركة المد الديموقراطي؟ ما هي قراءتكم لتطور حركة الاحتجاج السياسي الديموقراطي في المنطقة العربية؟ بسم الله الرحمن الرحيم، أولا أفضل أن أسمي هذه الحركة بحركة ''التغيير والإصلاح السياسي''، وليس حركة ''الاحتجاج السياسي الديموقراطي''. فالقضية أبعد من مجرد احتجاج، وأعمق من مجرد المطلب الديموقراطي. فالمجتمعات والشعوب العربية - كما يعرف الجميع - ضاقت ذرعا بحكام اختطفوا السلطة بأسلحتهم ويمارسونها ويحرسونها بالأسلحة ذاتها، ضاق الناس ذرعا بالأنظمة والأحزاب الاستبدادية المتوحشة التي تحكم لنصف قرن وأكثر. وضاقوا ذرعا برموز الاستبداد من أصحاب الثلاثين والأربعين سنة في الحكم، ضاقوا ذرعا بخنق الحريات وكتم الأنفاس وقهر المعارضين. ضاقوا ذرعا بالتعامل المتعجرف المهين للشعوب والمواطنين، حتى في حاجاتهم ومعاملاتهم اليومية البسيطة. ضاقوا ذرعا بما يرونه ويعانون منه من سلب ونهب وتبذير وتهريب للأموال العامة. ضاقوا ذرعا من تسلط الأجهزة البوليسية والكتائب الأمنية. ضاقوا ذرعا بالانتخابات الفاسدة والمؤسسات الزائفة، من رئاسة الدولة إلى تشكيل المجالس البلدية والقروية والجمعيات السلطوية. ضاقوا ذرعا ببطالة أبنائهم وبناتهم التي وصلت بهم إلى حد الانتحار في الساحات العامة. ضاقوا ذرعا بإعلام رسمي لا يعرف سوى الكذب والتزييف والتمييع. وحتى السجون والمعتقلات السرية - على كثرتها وتنوعها - فقد ضاقت ذرعا بتكدس نزلائها ودويِّ أنَّاتهم وطول مكوثهم فيها. ضاقت بالناس وضاق الناس بها. فانفجار الغضب والتذمر، والتحرك لأجل فرض الإصلاح والتغيير هو السلوك الطبيعي المشروع، بل هو الواجب. والله تعالى يقول (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) النساء : 148. فيحق لمن ظلم - ولو مرة واحدة - أن يجأر ويجهر بالتظلم وطلبِ حقه والدفاع عن حقه وكرامته، فكيف إذا أصبح الظلم عاما لا ينجو منه إلا الظالم وعائلته وندماؤه؟ وكيف إذا امتد ليل الظلم عقودا متطاولة؟ وكيف إذا أصبح الظلم نظامَ حياة ونظام حكم؟ لقد أصبح الظلم عندنا قانونيا ودستوريا! فهذه هي الملامح العامة للمشهد العربي. ولذلك أرى أن هذه التحركات الشعبية والشبابية صحية وطبيعية ومبشرة بكل خير. لا بد من التأكيد على وجوب الحفاظ على الطابع السلمي المتحضر لهذه الحركة، وأنا أتأسف غاية الأسف لبعض الانزلاقات نحو العنف والعمل المسلح، خاصة في الحالة الليبية المؤلمة. حركات التغيير والإصلاح الآن وفي كل آن: سلميتها هي مصدر شرعيتها وهي سر قوتها. فمن لجأ إلى العنف أو السلاح فقد شرعيته وفقد قوته. (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الأنعام : 145 كيف تنظرون للتفاعل المغربي الرسمي والمدني والشعبي مع حركة الإصلاح الديموقراطي؟ حركة الإصلاح والتغيير التي يشهدها العالم العربي، امتدت إلى المغرب بطبيعة الحال، وكان التفاعل معها والانخراط فيها - على العموم - إيجابيا ومتزنا. ومما امتازت به الحالة المغربية السرعة والجدية في التجاوب الرسمي وتحديدا الملكي. فأنا كما تعلم لست من المداحين ولا من المتملقين، ولكنني أقول: وجدت في الخطاب الملكي وفي ما تبعه من خطوات لتنفيذ مقتضياته، وجدت صدقا وجدية وتجاوبا حقيقيا مع متطلبات المرحلة. مع كل حراك إصلاحي ديموقراطي هناك مخاطر مزدوجة، من جهة هناك خطر الإجهاض والاحتواء والتكيف من قبل توجهات المقاومة، ومن جهة أخرى هناك خطر التحريف والمغامرة بما يؤسس للمجهول، كيف السبيل للدفع بمسار الإصلاح الديموقراطي التصاعدي والعميق بين هذين المسارين؟ كلنا نعرف أن للديموقراطية خصوما وأعداء كثيرين، وبعضهم هم بالذات من يكثرون من الثرثرة حول الديموقراطية ومن التشدق بها، فإذا ما لاحت لهم الديموقراطية الحقة أو بدأ تطبيقها بالفعل، رأيتهم يصدون عنها ويتآمرون لإجهاضها وتعطيلها. هؤلاء فعلا يخشى جانبهم، ويجب التصدي لهم وإبطال كيدهم. وأظن أنهم هم الذين يخوفوننا من المجهول، لأنهم لا يرضون حكم الشعوب ولا يثقون في اختيارات الشعوب، أي لا يثقون في الديموقراطية الحقيقية. يريدون ديموقراطية على مقاسهم وعلى مزاجهم. أنا أعتقد أن الديموقراطية الحقيقية، والرضى والتسليم بنتائجها، هي الطريق الوحيد الذي يجنبنا ''المجهول''. لماذا الدول الغربية هي الأكثر تمتعا بالاستقرار السياسي في العالم منذ قرنين من الزمن؟ لأنها أخذت بالديموقراطية أسلوبا ونظاما للحكم وارتضت نتائجها أيا كانت، فأخذ كل ذي حق حقه، وكل ذي مكان مكانه، فوقع التوازن وجرى التداول، وأصبحت ماكينة الإصلاح والتغيير والتصحيح تشتغل آليا وتدريجيا، دون ثورات ولا اضطرابات. أطلقت حركة التوحيد والإصلاح بمعية عدد من الهيئات السياسية والمدنية والشبابية، مبادرة نداء الإصلاح الديموقراطي، ما العمل لتعزيز مسار هذه المبادرة وترسيخ مسارها؟ وما هي المحاذير التي ينبغي تجنبها؟ اطلعتُ على فحوى المبادرة الإصلاحية التي أطلقتها حركة التوحيد والإصلاح وشركاؤها. وهي في معظم محتوياتها تدخل فيما يمكن اعتباره الآن دائرة الإجماع الوطني. أعتقد أن تلك المبادرة بحاجة إلى مزيد من التوضيح والتدقيق والتأصيل والتفصيل، ثم بعد ذلك يتم عرضها وشرحها لمجمل الشعب المغربي، وبكل الوسائل الممكنة، وأهمها التواصل المباشر مع كافة فئات الشعب. وحركة التوحيد والإصلاح ذات تجربة رائدة وقدرة كبيرة في هذا الباب. أما المحاذير، فهي عندي مثل حكاية الخوف من المجهول، أنا لا أرى شيئا من ذلك. إذا أسندت الأمور إلى أهلها وسارت في طريقها، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. شكل الخطاب الملكي ل 9 مارس أفقا للتفاعل الإيجابي مع حركة المد الديموقراطي العربية والمغربية، ما هي نظرتكم لما طرحه الخطاب من توجهات للإصلاح الدستوري؟ منذ سماعي لخطاب 9 مارس وأنا أعبر عن ترحيبي وتقديري لما تضمنه هذا الخطاب. ولقد قلت عدة مرات إنه يؤذن بنقلة دستورية نوعية. غير أني دائما أتخوف من أمرين: أولهما أن الشيطان يسكن في التفاصيل، فهل ستتمكن لجنة صياغة التعديلات من إخراج الشيطان من التفاصيل، أم ستقوم بدسه فيها؟ والأمر الثاني هو التطبيق. نحن دائما عندنا في الدستور وفي غيره من القوانين نصوص جيدة، لكنها مهملة أو معطلة أو محرفة... فما قيمة دستور أو قانون لا يحترم، أو يطبق تطبيقا تأويليا انتقائيا؟ نحن بحاجة إلى آليات وضمانات وتدابير، وأيضا إلى مزيد من اليقظة والجهاد والتدافع، لكي يعطي الإصلاح الدستوري مفعوله وثمرته ولا يتم خنقه وإجهاضه. فالإصلاح التشريعي بدون إصلاح تطبيقي، إنما هو حبر على ورق. المحور الثاني: تحديات وقضايا الإصلاح الدستوري كيف يمكن للعلماء في نظركم أن يشاركوا بفعالية وبشكل عملي في ورش الإصلاح الدستوري؟ السؤال أولا هو: ما مكانة العلماء وما دورهم في المجتمع الإسلامي وفي المغرب بصفة خاصة؟ الوضع الطبيعي في الإسلام أن العلماء هم السلطة الأولى إلى جانب مؤسسة الإمامة (أي رئاسة الدولة). ولكني أسألك الآن: ما هي سلطتهم وما هي مرتبتهم في المغرب؟. أنا أرى الآن أنهم خارج الترتيب. ولم يهيئوا أصلا لتكون لهم رتبة أو مكانة في الشأن العام، بل يهيئون للصمت والانكماش والانشغال بخويصة أنفسهم. ولذلك لا أرى أن العلماء سيشاركون بشيء ذي بال في صياغة هذه المرحلة وتوجيه دفتها، لا على الفور ولا على التراخي. كيف تتصورون ''إمارة المؤمنين'' في الدستور القادم بشكل عام وفي علاقتها مع ''مؤسسة الملك'' بشكل خاص؟ تكلمت مرارا بما مفاده أنني لا أميز ولا أَفْصل بين الصفة الدينية والصفة السياسية لرئيس الدولة في الإسلام. فهي عندي صفة واحدة. ولذلك فالملك هو أمير المؤمنين، وأمير المؤمنين هو الملك، لا أقل ولا أكثر. وقد تسببت هذه الثنائية المخترعة الطارئة في الممارسة المغربية الحديثة، في ظهور هذه الإشكالات والنقاشات والتعقيدات التي نحن في غنى عنها. الملك أو أمير المؤمنين، هو رئيس الدولة لا أقل ولا أكثر. وصلاحيات رئيس الدولة - أيًّا كان لقبه - مسألة دستورية، ليست فوق التقنين ولا خارجة عنه. كيف ترون موقع قضايا المرجعية الإسلامية في المراجعة الدستورية القادمة؟ كما أشرت من قبل، فمشكلة المرجعية الإسلامية في المغرب ليست في نظري مشكلة دستورية، بل هي بالدرجة الأولى مشكلة عملية تطبيقية. فلو كان الدستور محترما بكل مواده، وخاصه مواده التصديرية الأساسية، لما كنا بحاجة إلى المطالبة بأي شيء إضافي. فالفصل السادس الذي ينص على أن ''الإسلام دين الدولة''، أعتبره كافيا وبليغا في التعبير عن مكانة الإسلام في الدولة المغربية وكونها من حيث هي دولة يجب أن تدين بالإسلام، أي تلتزم أحكامه ومقتضياته. ولكن الممارسة الفعلية جعلت الدولة المغربية وسياساتها وقوانينها بلا لون ولا طعم ولا مرجعية ولا هوية. من هنا يرى كثير من العلماء ومن الهيئات الإسلامية ضرورة التنصيص على القضية بصراحة وتأكيد أكبر. وأظن أن هذا هو ما سار فيه حزب العدالة والتنمية على سبيل المثال. أصبح موضوع المرجعية من القضايا الشائكة خاصة أن التشريعات الدولية أصبحت أمرا واقعا تفرضه الاتفاقات الدولية، وهناك كثير من الجهات الداخلية (أحزاب وجمعيات ولوبيات ...) التي تنادي بجعل تلك التشريعات أسمى من التشريعات الوطنية، كيف ترون معالجة هذه الإشكالية، خاصة وأن البعض يطرح إمكانية الحل عبر جعل المعاهدات من اختصاص البرلمان االذي يصادق عليها بقانون وآنذاك يتم البث في أوجه التحفظ؟ أولا أنا مع الاجتهاد والتجديد في ما يخص قضايانا اليوم، وأعتقد أن فقهنا القديم ليس كافيا وليس ملزما لنا. هو بدون شك تراث عظيم نرجع إليه وننهل منه، لكنه ليس بمانع لنا من الاجتهاد، ومن الأخذ بكل شيء مفيد في عصرنا وعند غيرنا. أما مرجعية الشريعة الممثلة في الكتاب والسنة الصحيحة، فلا يعلو عليها شيئ عن المسلمين أجمعين. وأنا عندي: حتى الإرادة الشعبية والسيادة الشعبية لا يعلو عليها شيء، لا خارجي ولا محلي. وهذه هي الديموقراطية، وهذا هو حكم الشعب. بعد ذلك وفي هذا الإطار نرحب بالاتفاقيات والمواثيق الدولية ونتعامل معها بأقصى درجات التقدير والإيجابية. ثمة جدل حول طبيعة النظام السياسي المدني في التصور الإسلامية، وما هي العناصر الأساسية التي والسمات التي تؤطر الاجتهاد البشري لإبداع أنظمة حديثة ومعاصرة؟ أنا أكرر دائما أنه ليس هناك ''نظام سياسي إسلامي'' بالمعنى المتداول لمصطلح ''النظام السياسي'' اليوم. بل هذا متروك للشورى والاجتهاد والتجربة. وهذا من حكمة الشريعة ومرونتها وصلاحيتها على مر العصور. فهناك مبادئ للحكم الرشيد في الإسلام؛ مثل الشورى، والعدل، والحرية، والمساواة أمام القضاء والقانون، وحفظ المال العام والتزام الشرع في التصرف فيه، والالتزام بأحكام الشريعة بصفة عامة، والاجتهاد في نطاق أصولها ومبادئها، ومنها العرف والمصلحة... وبعد ذلك ففي الأمر سعة وحرية؛ فالمسلمون عند شروطهم، فهم وما اختاروه، وهم وما توافقوا عليه. وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.