يتجدّد النقاش، مع التوتر الأخير بين حزب العدالة والتنمية ووزارة الداخلية المغربية (1)، حول مسار الحزب الإسلامي وخياره السياسي وأفقه الإصلاحي، ويُطرح السؤال الأصل: هل كان الخطأ في الموقف وبعض المواقف أم في المسار وطبيعة الخيار؟ قد يخالف البعض هذا الرأي –ومِنْ حَقِّه- فيرى أن السؤال مُغلق ومُوجَّه نحو الخطإ بالضرورة في حَدَّي السؤال أعلاه معا أو في أحدهما على الأقل، والحالُ أن الصواب ممكن ومحتمل في الموقف والمسار كليهما وليس في أحدهما فقط كما يقرِّر السؤال منذ البدء. أترك البحث يجيب تدريجيا على هذا الاعتراض، وأبادر إلى القول بأن خطأ حزب العدالة والتنمية كان في المنطلق منذ البدء، في المسار والخيار والإطار، في قبول شروط مجحفة للعبة محبوكة، في غض الطرف عن إطار سياسي مغلق تَحرُم وتَتَمنَّع فيه -دستوريا وسياسيا- الدواليب المغلقة للنظام على الحزب الإسلامي، أما المواقف فيمكن أن يخطئ فيها الحزب ويصيب وهو الشيء الطبيعي في دنيا السياسة. إن حزب العدالة والتنمية لم يخطئ في موقفه الأخير ودعوته لكشف الجهات التي خطَّطت واستفادت من أحداث 16 ماي 2003 الإرهابية، ولم يُخطئ أيضا الأمين العام للحزب حين قال بأن صديق الملك ومؤسس حزب الأصالة والمعاصرة "فؤاد عالي الهمة" هو الصدر الأعظم في الفضاء العام، ولم يخطئ رئيس الفريق البرلماني "مصطفى الرميد" هو الآخر عندما قال بأن البرلمان مؤسسة صورية تُنتَزع منها الصلاحيات وتُهرَّب منها السلطة مُهدِّدا بالاستقالة، ولم يُخطئ الحزب حين نَدَّد بتدخلات وزارة الداخلية للتضييق على الحزب وتقليص نفوذه وصياغة التحالفات لصالح "الأصالة والمعاصرة" والأحزاب المقربة من السلطة... لم يخطئ الحزب، في تقديري، في كثير من المواقف السياسية والحراك الميداني بل أخطأ في الخيار والمسار وارتضى سقفا سياسيا هابطا لا يتيح الممارسة الرشيدة للعمل السياسي. 1- المشاركة الانتخابية والتحفظ الرسمي المستمر حين حسم إسلاميو حركة الإصلاح والتجديد (2)، بداية تسعينيات القرن الماضي، أمرَهم وقرَّرُوا المشاركة في اللعبة السياسية بصيغتها المؤسسية (3) وشروطها الرسمية، بدا لهم لحظتها أن أفق الإصلاح من الداخل له ما يدعمه من مؤشرات سياسية ودستورية تترى، وله ما يسنده من تأسيس شرعي وحركي معتبر، خاصة مع تصاعد خيار المشاركة إسلاميا بعد فشل الخيار الثوري في كثير من البلاد العربية والإسلامية. لا جدال في أن الخيار الانتخابي، في النُظم السياسية الديمقراطية أو شبه الديمقراطية، هو المدخل الأصل للعمل السياسي سعيا نحو الإصلاح والتغيير، لكنَّ الانتصار له في ظل النظم الشمولية والمستبدة يُعتبر مغامرة غير محسوبة النتائج وورطة سياسية مرجوحة، خاصة إذا توالت السنون ولم تظهر ثمرات الإصلاح المأمول، بل واستمر توجس النظام من أصحاب "الخلفية الإسلامية" وتواصل "القبول الرسمي غير المكتمل" للفاعل الإسلامي ضمن الأحزاب السياسية. عطفا على ذلك يُلاحِظ المُتتبِّع لتجربة حزب العدالة والتنمية المغربي(4) أنه قَبِل منذ البدء بشروط مُجحفة ومقاس رسمي لنوعية "المشاركة الإسلامية"، واستسلم ل"مواطنة الدرجة الثانية" التي فرضها عليه صُنَّاع القرار السياسي، وسط تحفظ مستمر من القبول الكامل بالحزب. تلك الشروط والصيغة أصبحت لازمة في العلاقة بين الطرفين، وأثَّرت سلبا على حجم وأداء الحزب، وهذا التوجس والتحفظ الرسمي من قبول الحزب ضمن الخارطة السياسية، باعتباره فاعلا "مكتمل الأهلية" لممارسة العمل السياسي، برزت للعيان في أكثر من مناسبة. وفيما يلي بعض الوقائع التي تُثبت ذلك: أولا: عندما أرادت حركة الإصلاح والتجديد تأسيس حزب "التجديد الوطني" في ماي 1992 وتقدمت بأوراقها القانونية لدى وزارة الداخلية، رفض النظام الحاكم أن يكون لطرف من الإسلاميين حزب خاص، واقترح على إخوان بنكيران إطارا سياسيا آخر هو حزب الخطيب -الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية-، ليكون هو المدخل نحو صناديق الانتخابات والبوابة إلى "مؤسسات الدولة". وإذا كان مرفوضا أن تخالف الدولة، ما دامت تدَّعي القانون والديمقراطية، مقتضيات الحرية وتتعسف على حق مواطنين في تأسيس حزب خاص بهم وَفْقًا لرؤيتهم الحركية وفلسفتهم السياسية، فمستغرب أن يتنازل حزب عن حقوقه الكاملة في المواطنة ويرتضي "اكتراء" كيان سياسي قائم لخوض غمار العمل الحزبي والمنافسة السياسية. أَيْ نعم، الاندماج في حزب سياسي قائم هو إحدى صيغ العمل السياسي الممكنة، لكن الأصل هو تأسيس حزب خاص وفق فلسفة ورؤية وأهداف وهياكل خاصة، كما أن الأصل هو الدفاع عن "الحق" والتمسك به قبل البحث عن بدائل أخرى. ثانيا: لم يقف الأمر عند تحديد الإطار السياسي بل تجاوزه إلى التدخل في تحديد نسبة المشاركة الانتخابية وجغرافية الترشيح المسموح بها للحزب. فمعلوم أن حزب العدالة والتنمية لم يُغطِّ في كل الانتخابات التي خاضها جميع الدوائر، ومعلوم أيضا أن قادة الحزب اعترفوا (5) بأنهم تعرَّضوا لضغوط شديدة في الانتخابات الجماعية لسنة 2003 وفرضت عليهم وزارة الداخلية نسبة ودوائر المشاركة (6). وإذا كان العدالة والتنمية يعترف بتدخل وزارة الداخلية في انتخابات 2003 فإن تقليص مشاركته في باقي الانتخابات، التشريعية منها أساسا، يمكن أن يُعزى إلى "رقابة ذاتية" –يُسَوِّقُ لها الحزب باسم التدرُّج وعدم الاكتساح- ناتجة عن "المواطنة السياسية المنقوصة"، وهو ما لا يَصُبُّ في النهاية لصالح "بشائر" المشاركة و"حسناتها"، هذا إن لم يكن للجهات الرسمية أياد مباشرة أو إشارات خفية لتثبيت هذه "المشاركة المنقوصة"، وهو الأمر غير المستبعد بما له من سوابق وشواهد. ثالثا: اشتكى حزب العدالة والتنمية مرارا من تدخل وزارة الداخلية في جميع مراحل الانتخابات للحيلولة دون حصوله على نتائج متقدمة يمكنها أن تربك حسابات صناع الخريطة السياسية (7)، وهي الشكاوى التي أثارات نقاشات داخل الحزب وخارجه، ووصفها البعض ب"شكوى العاجز"، في حين دعا آخرون، في ضوئها، قادة الحزب الإسلامي إلى تبني مواقف أكثر صرامة من الشجب والتنديد والتأسُّف على السلوك غير الديمقراطي لبعض رجال وأعوان السلطة! رابعا: في ثلاثة انتخابات تشريعية خاضها، تَمتَّع حزب العدالة والتنمية، في اثنتين منها، بفرصة ممكنة وحظ وافر للمشاركة في الحكومة، فقد احتل المرتبة الثالثة في انتخابات 2002 ب42 مقعدا وكان يمكنه المشاركة في حكومة إدريس جطو، وحلَّ في المرتبة الثانية في انتخابات 2007 ب 48 مقعدا ومع ذلك لم يشارك في حكومة عباس الفاسي، ولم يتمكن بذلك من المشاركة في الحكومتين معا ولو بحقيبة واحدة. وليس الامتناع راجعا إلى رفض الحزب المشاركة في الحكومة باعتبارها اختيارا سياسيا، فقد صرَّح قادته أكثر من مرة أنهم على استعداد للمشاركة في الحكومة (8)، ولا لأن التحالفات الحكومية كانت تضم أحزابا منسجمة إيديولوجيا أو سياسيا أو برنامجيا، فقد ضمت حكومة عباس الفاسي، مثلا، أحزاب الكتلة وحزب التجمع الوطني للأحرار والأصالة والمعاصرة والحركة الشعبية التي عوضت الأخير، ولكن مشاركة العدالة والتنمية في الحكومة متعذرة لأنها كانت وما تزال خطا أحمر. خامسا: وقد وصل حد هذه العلاقة غير الطبيعية وما يشبه الوصاية المستهجنة للجهات الرسمية على حزب العدالة والتنمية، وعلى حضنه الدعوي حركة التوحيد والإصلاح، أن تدخلت وزارة الداخلية في يونيو 2003 لفرض إقالة رئيس الحركة الدكتور أحمد الريسوني، وفي نفس السنة للضغط من أجل التخلي عن رئيس الفريق البرلماني للحزب الأستاذ مصطفى الرميد. الأول على خلفية تصريحه حول أهلية "أمير المؤمنين للفتوى"، والثاني في سياق هجمة الداخلية على الحزب بعد أحداث 16 ماي، وإمكانية اتهام "الرميد" بالتعاطف مع العنف ورفع الحصانة عنه، على خلفية مواقفه القوية من بعض القضايا، وهو ما انتهى باستبدال محامي الحزب بالسيد "عبد الله بها" رئيسا لكتلة الحزب النيابية. إن هذا التدخل في الشؤون الداخلية للحزب والحركة، إلى حد تغيير القيادة العليا ومسؤولي الأجهزة المركزية، يؤشر أوَّلا إلى الطبيعة التحكمية للنظام المغربي في الفاعلين الرسميين، وثانيا إلى حجم الضعف والتنازل الذي بلغه حزب العدالة والتنمية في علاقته بالدولة وممثليها، وثالثا إلى الآثار المترتبة عن الشروط المجحفة التي قبل أن يشتغل في ظلها "العدالة والتنمية". سادسا: صاحَب كلَّ تلك الأحداث والوقائع الكبرى حملة رسمية سياسية وإعلامية تَنتَهِجُ التَّشكيك والتَّشويه والتَّصعيد ضدَّ الحزب الإسلامي، وهي الحملةُ التي لا تنتهي إلا لتبدأ، إذ يتأكَّد من فصولها وحيثياتها ومراميها أنها رسمية تديرها أطراف من داخل الدولة ومستمرة عن سبق إصرار وليست مرحلية غير مقصودة. فالعدالة والتنمية هو "المسؤول المعنوي عن أحداث 16 ماي الإرهابية"، وهو صاحب خطاب ثنائي ووجه مزدوج يظهر التسامح الديمقراطي ويخفي التشدد الديني، وهو على علاقة مشبوهة بحزب الله وحماس وإيران والشيعة وحركات المقاومة، وولاؤه للمؤسسة الملكية مشكوك فيه رغم كل الأدبيات والمواقف الرسمية، وموقفه من العنف سيظل يثير الارتياب لأنه منحدر من حركة تَبنَّت العنف السياسي، وربطه المتكرر للفن والثقافة بالقيم والأخلاق ورفضه استدعاء بعض "أهل الفن" يضيف إلى الشكوك السياسية والدينية والحركية ظنونا ثقافية... تلك بعض المقولات والتهم الجاهزة التي تُرفَع في وجه حزب العدالة والتنمية في حملة متواصلة تُرهقه من جهة، وتتركه في موقع دفاع من جهة ثانية، وتؤكد أن "دور الكومبارس" هو ما تريده الجهات الرسمية للحزب من جهة ثالثة. والغريب أن نجد بعد كل ذلك مِن قادة الحزب، كما فعل رئيس المجلس الوطني والأمين العام السابق "سعد الدين العثماني" في ندوة مركز الجزيرة للدراسات عن "الإسلام السياسي.. خيارات وسياسات" في فبراير 2010، من يُعمِّي على التحفظ الرسمي المستمر في القبول الكامل ل"العدالة والتنمية" بل ويتحدث عن النموذج المغربي المتميز عن باقي النظم العربية برغبته المنعقدة في إدماج الإسلاميين في العمل السياسي! 2- خيار المشاركة والإطار المغلق إذا تجاوزنا الحديث عن التفاصيل التي تُبرز الشروط المجحفة، التي يشتغل في ظلها حزب العدالة والتنمية وتؤكد حقيقة استمرار تحفظ الجهات النافذة في الدولة على إدماج كاملٍ للحزب، ووقفنا عند الإطار العام للعمل السياسي في المغرب، سنلحظ أنه إطار مغلق يُفقد خيار المشاركة أي معنى سياسي، لانعدام إمكانية ممارسة السلطة وتطبيق البرنامج، وبالتالي يصبح هذا الخيار الذي مضى فيه الحزب فاقدا للأساس السياسي المقنع ومرجوحا في ميزان الربح والخسارة الحركية. وسيتضح أن خيار المشاركة في النظم المغلقة، دون قطع أشواط في مطالب الإصلاح الدستوري والسياسي من خارج بنية النظام ومؤسساته الرسمية، من شأنه أن يُعرقل مشروع التغيير الإسلامي ويُدخله في دوامة تغيير الجزء وإصلاحه من أجل استمرار الإطار وثباته(9). أولا: طبيعة النظام الحاكم وتبعية الفاعل السياسي إن طبيعة النظام الحاكم في المغرب "الملكية التنفيذية" يَرهن المؤسسات الرسمية، تحت كلكل من الإكراهات الدستورية والسياسية والتاريخية والدينية، بالتبعية للتوَجُّهات العامة التي يَراها القصر، ولا يُتيح لها مطلقا ممارسة عملها السياسي وفق منظورها واختياراتها. باختصار، الملك في المغرب يسود ويحكم، أي إنَّه القائد الفعلي للعمل الحكومي والمُوجِّه الحقيقي للمؤسسة التشريعية، وهو السياسي الأول وحتى الاقتصادي الأول، والملكية المغربية ليست كنظيراتها في أوروبا، بل لها خصوصياتها الدينية والسياسية التي تتيح لها السيادة التامة والحكم المطلق، فالعرش ليس أريكة فارغة والوزراء والنواب أعوان الملك وليسوا سلطة مستقلة. وإلى ذلك فشخص الملك مقدس وخطابه لا يناقش وخطته هي برنامج العمل، لأن المكانة الرمزية والاعتبارية ل"أمير المؤمنين" تعلو كل سياسة. يقول الدكتور عبد اللطيف حسني: "وبصرف النظر عن الثوابت والمقومات التي تعتبرها الملكية شأنا مقدسا، وموضع إجماع وطني، فإنها تضيف لها الاختيارات الكبرى للأمة والتي هي محل توافق وطني، وهو الأمر الذي يؤدي وبالملموس إلى هيمنة الملكية، وتركيز السلطة الحقيقية بيد الملك، مما يجعل من باقي المنشآت السياسية المنصوص عليها في الدستور المغربي مجرد ظلال شاحبة للملكية"(10). وبالنتيجة لا تؤدي الانتخابات المغربية معناها السياسي لأنها تنتج مؤسسات تبعية فاقدة للصلاحيات، فلا البرلمان قادر على التشريع والمراقبة ولا الحكومة قادرة على قيادة العمل السياسي دون مظلة الملك. فالحكومة وفق المواد 24 و25 و26 و28 و60... مَلَكية التعيين والإقالة والرئاسة والمسؤولية والتوجيه، بل إنها أقرب ما تكون إلى لجنة استشارية وتقنية، خاصة مع اتجاه الملكية في عهد العاهل محمد السادس إلى مزيد من "التنفيذية" حتى في أدق تفاصيل المشاريع الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما أتى على البقية المتبقية من "شكلية" الحكومة. والبرلمان بدوره يفتقد لمقومات المؤسسة التشريعية كما هي متعارف عليها في العالم، إذ المعروف أن الملك هو المُشرِّع الأول في المغرب وفق نص الدستور دائما (الفصول: 28، 29، 69، 72، ..). وعليه تظل الوظيفة التشريعية "تنفيذية" للخيارات والمشاريع التشريعية الكبرى التي تُحددها الملكية. كما أن الوظيفة الرقابية تبقى شبه غائبة لارتباطها بواقع البلقنة البرلمانية والأغلبيات السياسية التي تُصاغ على المقاسات المطلوبة، ناهيك عن النصوص الدستورية التي تُقيِّد إلى حَدٍّ بعيد وشبه مستحيل قدرة مجلسي النواب والمستشارين في الرقابة على الحكومة(11). لا أظن أن عاقلا، في ظل مسلمات المشهد السياسي المغربي هذه، من شأنه أن يزايد على أن وظائف الأحزاب السياسية، إسلامية كانت أو غيرها، لا تعدو أن تكون هامشية وثانوية وتكميلية ووظيفية، وبالتالي يَفتقد معها خيار المشاركة الكثير من جاذبيته وجدواه لأن المنافسة السياسية لا رهان لها. ومع ذلك تحفَّظ حزب العدالة والتنمية أكثر من مرة على تعديل الدستور لصالح منح السلط معناها الحقيقي وصلاحياتها الضرورية، بل واعتبر أميناه العامّان، السابق والحالي، الفصل 19 من الدستور(12) صمام أمان وعامل استقرار سياسي يلزم الحفاظ عليه وتحييده عن كل تعديل مقبل! في ظل هذه الطبيعة التحكُّمية والشمولية لنظام الحكم يَفقد خيار المشاركة المبرر والأساس، إذ يتعذر معه الوصول إلى حقيقة السلطة لأنها غير موجودة في المؤسسات الشكلية التي يجري عليها التنافس الحزبي، ويمتنع في ظله تطبيق البرنامج وسريان الإصلاح من الداخل، وتصبح مقولة "الكرسي المملوء" تسطيحا ومثالية وسذاجة سياسية في إدراك مداخل الإصلاح والتغيير. ثانيا: مشروع التغيير الإسلامي.. إلى أين؟ بما أن الإطار السياسي المغلق والنظام الحاكم الجامد لا يتيح في الفضاء الرسمي الإمكانات اللازمة لممارسة العمل السياسي المؤثر، بما هو إصلاح للأوضاع وتطبيق للبرنامج وتحكيم للقانون وترشيد للميزانيات وإقامة للعدل وانتصار للشعب، فإنه، من باب أولى، لن يسمح لحزب إسلامي تطبيق مشروعه الإسلامي. يقول حزب العدالة والتنمية المغربي بأنه "حزب إسلامي" ويتخذ الإسلام مرجعية عليا له، وهو ما يُلزمه الدعوة إلى المطالب الإسلامية والشريعة الإسلامية والدولة الإسلامية، وهو، وإن كان "يُمرحل" أهدافه ويمنح خطابه "المرونة" اللازمة حتى لا يصطدم مع خيارات الدولة التي ترفع مشروعا مغايرا، فإن التعارض والتصادم أوضح من أن يخفى. يَتبنى النظام الحاكم، بأعلى سلطاته، المشروع الديمقراطي الحداثي ويُمَكِّن له بكل الوسائل السياسية والإعلامية والثقافية والقانونية، فيكْبُر المشروع وينمو تحت عباءة "إمارة المؤمنين". ورغم أن الباحثين يقولون بأن الدولة المغربية تستمد "شرعيتها" من مرجعيتين دينية وديمقراطية، حيث الملك –رأس النظام- هو أمير المؤمنين ورئيس الدولة، والإسلام والديمقراطية إطارا ممارسة الحكم، والدولة المدنية الحديثة وتقاليد "الأحكام السلطانية" هما رمزا إدارة السلطة، ولا يبدو مطلقا أن الدولة على استعداد للتخلي عن أحدهما، فإن النظام المغربي يمضي-وقد قطع أشواطا مهمة- في التأسيس لبيئة مجتمعية مُطبِّعة مع مشروعه الحداثي، قابلة لكثير من تجلياته المعارضة لطبيعة ومطالب ومقاصد وشريعة المشروع الإسلامي. ومن ثَمَّ يجد حزب العدالة والتنمية نفسه، نظرا لمرجعيته الإسلامية، في موقفِ حرج شديد أو مزلق سياسي بالغ؛ فإما أن يلتزم الصمت إزاء مشروع تمييع المجتمع وضرب قيمه وقتل أخلاقه وتجاوز ثقافته، وهي الأشياء التي يجد أحيانا أن منظميها والمشرفين عليها يتمركزون في النواة الصلبة لصناعة القرار السياسي، أو أنه سيدخل في دوامة تدافع جزئي مع مهرجان "فني" وصورة مائعة وقانون مشبوه ومجلس جماعي مختلس، وهو ما سيدفعه إلى الوقوع في مزلق "الإصلاح الجزئي" والصمت عن الإطار الكلي الذي تقع تحت عينه وسمعه وبصره كل ما يراه من انحرافات واختلالات. خلاصة القول: إن الاختلافات الفرعية والجزئية، في مجتمع وبين مؤسسات دولة، أمر محتمل ووارد، وهنا يكون من المقبول والمنطقي الحديث عن الإصلاح من الداخل ومدافعة الانحراف، لكن حين يصبح التعارض جذريا بين المشروع الإسلامي وغيره من المشاريع، بغض النظر عن التسمية، وتصاغ الأطر والقواعد والمؤسسات والمساحات والقوانين والنتائج على أعين أصحاب المشروع الآخر، فإن الحديث عن خدمة المشروع الإسلامي من قلب النظام وداخل الدولة ليس حديثا جادا، وترجيح هذا الموقف ليس دقيقا، وانتهاج هذا الخيار ليس مدروسا. ولا أظننا نغالي إذا قلنا إن الحضور الإسلامي وسط جوقة المشروع الحداثي لا يعدو أن يكون ديكورا وتجميلا وتوابل تضيف نكهة -بمقاس مضبوط- على "الطبخة الديمقراطية"، وتصبح "النية الصادقة" هنا تحايلا على الذات وسطحية في الفهم، وتنقلب الواقعية إلى استسلام ورضا، وينكفئ الإصلاح على الجزء المتغير لصالح استمرار الكل الثابت، ويصبح الكرسي المملوء هو عينه الكرسي الفارغ حين يكتشف أصحابه ألا سلطة يمنحها تُمكِّنهم من خدمة المشروع الإسلامي ولو في حدوده الدنيا وبأهدافه المرحلية المقبولة. ثالثا: مطلب الإصلاح الجدي.. الملكية البرلمانية نموذجا ممارسةُ مطلب الإصلاح الجدِّي لأُسُس وأطُر العمل السياسي ليست حكرا على فضاءٍ وآلياتٍ تُتيحها المؤسسات الرسمية، خاصة إذا كانت قواعد اللعبة لا تتيح المساحات الكافية للضغط وانتزاع المكاسب من الداخل. إذ لا شك أن مطالب الإصلاح التي تتجاوز السقف السياسي الرسمي في ظل النظم المغلقة والجامدة لا يمكن رفعها وفرضها بالتزام القواعد الدستورية المستقرة والتقوقع في البُنَى السياسية الموجودة، بل إن فاعليتها تكون أكبر وأثرها أقوى حينما تُخاض معركتها من داخل المجتمع المدني والسياسي غير الرسمي، وباعتماد آليات التدافع المدني السلمي غير العنيف. وبما أننا أوضحنا سلفا أن الممارسة السياسية الراشدة لا تستقيم في ظل الملكية التنفيذية المتحكمة فإن إسلاميي الانتخابات بالمغرب(13) كان بإمكانهم، خدمةً للمشروع الإسلامي وتوسيعا لمساحة ومدى العمل السياسي، أن يطرحوا مجموعة من المبادرات الجادة من خارج النسق السياسي الرسمي، ويفرضوا نقاشا جديا حول "الملكية البرلمانية" مثلا، باعتبارها مطلبا مرحليا، ويقترحوا هذا النظام السياسي الديمقراطي حتى تكون للمنافسة الحزبية حقيقة ولصناديق الاقتراع صدقية، ثم يأتي في هذا السياق الانخراط الجاد في الانتخابات والتبني المنطقي لخيار المشاركة. في الملكية البرلمانية يسود الملك ولا يحكم، فتَقُودُ الأغلبيةُ التي تُخرجها صناديق الاقتراع، لتُطبِّق الحكومةُ البرنامجَ الانتخابي الذي صوَّتَ عليها الناس، ويراقبُ البرلمانُ المشرِّعُ والإعلامُ السلطةُ، ويَفصلُ القضاءُ المستقلُ، والموعدُ الانتخابات المقبلة حيث تنعكس المساءلة من خلال الانتخابات الحرة والنزيهة مُجدَّدا. كان بإمكان الإسلاميين الطامحين للمشاركة الانتخابية، وغيرهم من قوى اليسار والشخصيات المستقلة الحقوقية والإعلامية والمدنية، أن يَتجمَّعوا حول هذا المطلب، ويُدافعوا عنه، ويُقنعوا به، ويَحشدوا له الرأي العام، ويُؤسِّسوا له سياسيا وشرعيا وفكريا وحركيا، غير أن إسلاميي المشاركة تسرَّعوا بقبول شروط لعبة مجحفة ضمن إطار سياسي لا يتيح إمكانية الإصلاح والتغيير، فما كانت النتائج (14) إلا حصيلة متوقعة لنظام حكم قُوبلت مركزته الشديدة للسلطة بإضفاء مزيد من الشرعية "الإسلامية" على حكمه وسلوكه. إذا كان حزب العدالة والتنمية، ومن ورائه حركة التوحيد والإصلاح، يُسَلِّم، نظرا للعديد من الاعتبارات السياسية والشرعية الخاصة به(15)، ب"إمارة المؤمنين" شرعيةً وسلطةً وممارسةً، فإن هذا لا يعفيه من تفكيك الارتباط النظري، في أدبياته على الأقل، بين "الإمارة الدينية" وتدبير "الحكم السياسي"، وكان بإمكانه، مع هذا الجهد الفكري، وبشيء من الشجاعة السياسية أن يطرح نقاشا جدِّيا مع نظام الحكم حول تَبنِّي الملكية البرلمانية –هذا النظام المقبول دوليا- مقابل انخراط الإسلاميين في العمل السياسي الرسمي والاشتغال في الشأن العام من موقع مؤسسات الدولة. وهو ما كان، بلا شك، سيفتح نظام حكم مغلق، ويُدشِّن لمرحلة سياسية جديدة، ويعطي معنى مغايرا لمفهوم ونتائج خيار المشاركة. لا شك أن لحزب العدالة والتنمية نية ورغبة ورؤية لخدمة البلد، لكن قبول العمل السياسي من الداخل في ظل شروط مجحفة، وفي ضوء تحفظ رسمي مستمر من القبول الكامل بالحزب، وضمن إطار سياسي مغلق تهيمن فيه الملكية التنفيذية على مقاليد الدولة والمجتمع، يُحَتِّمُ على الحزب البحثَ عن خيارات أخرى ممكنة من أجل الإصلاح والتغيير، ولعل أرشدها وأرجحها في اللحظة الراهنة هو ما بات يعرف في مراكز الأبحاث والدراسات بالخيار الثالث المتجاوز لعثرات الثورة ومزالق الإصلاح. [email protected] *كاتب صحفي- المغرب *** هوامش: 1- أصدرت وزارة الداخلية المغربية بلاغا شديد اللهجة يندد بالكلمة التي ألقاها الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران، في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر "جمعية مستشاري العدالة والتنمية" صبيحة السبت 25 شتنبر 2010، والتي استغرب فيها عدم الإعلان لحد الآن عمن كان وراء أحداث 16 مايو 2003 الإرهابية، حيث اتهم البلاغ الأمين العام ب"التشويش على الجهود التي يبذلها المغرب في الحرب على الإرهاب". 2- تأسست حركة الإصلاح والتجديد سنة 1981 تحت مسمى "الجماعة الإسلامية" المنبثقة عن حركة الشبيبة الإسلامية، وغيَّرت اسمها عام 1992 إلى حركة الإصلاح والتجديد، وهي حركة إسلامية معروفة اندمجت مع رابطة المستقبل الإسلامي في 31 غشت 1996 ليشكلا معا حركة التوحيد والإصلاح، هذه الأخيرة التي تشكل الذراع الدعوية لحزب العدالة والتنمية السياسي. 3- كما هو معروف في العلوم السياسية فالعمل السياسي ليس محصورا في العمل من داخل المؤسسات الرسمية للدولة عبر بوابة الانتخابات، بل يوجد خيار آخر وهو العمل داخل المجتمع من خارج النسق الرسمي. ولذلك تصنف الكثير من الأحزاب في خانة الأحزاب الثورية لرفضها قواعد وشروط العمل السياسي الرسمي. 4- بعد سنتين من انخراط أطر وأعضاء حركة الإصلاح والتجديد بحزب الدكتور عبد الكريم الخطيب "الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية"، الذي تأسس سنة 1959، قرر المجلس الوطني أواخر 1998، حمل إسم جديد هو حزب "العدالة والتنمية"، ليشارك بعدها في كل الانتخابات الجماعية والتشريعية التي نظمها المغرب. 5- طالع أحدث اعتراف للأمين العام للحزب، يوم الأحد 3 أكتوبر 2010، في المؤتمر الجهوي لمنتصف الولاية الانتدابية 2008/2010 بجهة الدارالبيضاء "تم التضييق علينا في الانتخابات وتم منع تغطية جميع الدوائر". يومية "أخبار اليوم" عدد 257. 6- جاء هذا الضغط وسط حديث عن "المسؤولية المعنوية" لحزب العدالة والتنمية عن الأحداث الإرهابية يوم 16 ماي 2003. 7- تتبعنا جميعا شكاويه وتنديداته في وسائل الإعلام بعيد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة في 2007، واتهامه جهات من داخل الدولة بتزوير النتائج وتدخلها في تحالفات مجالس المدن لصالح حزب الأصالة والمعاصرة. 8- تكرَّر تأكيد رغبة "العدالة والتنمية" في المشاركة الحكومية سواء إبان الاستشارات السياسية لتشكيل الحكومة من قبل الوزير الأول السابق إدريس جطو في 2002 حيث كان الحزب ثالثا، أو الوزير الأول الحالي عباس الفاسي 2007 حيث حل الحزب ثانيا. 9- هو تكتيك سياسي تعتمده النظم الشمولية، فتغير الأجزاء بالشكل الذي يحافظ على الجوهر. ومن المقولات التي تعكس هذا التكتيك وتؤثث المشهد السياسي المغربي "في المغرب يتغير كل شيء من أجل ألا يتغير أي شيء". 10- عبد اللطيف حسني، بحث بعنوان "الملكية المغربية في الخطاب والممارسة 2007-2008"، كتاب "حالة المغرب 2007-2008". كراسات استراتيجية (4) ضمن منشورات وجهة نظر. ص 5. 11- يمنح الفصلان 75 و76 من الدستور مجلس النواب حقي "سحب الثقة" و"ملتمس الرقابة"، لكن شريطة الحصول على الأغلبية المطلقة. ويعطي الفصل 77 مجلس المستشارين حقي "ملتمس توجيه تنبيه للحكومة" و"ملتمس رقابة ضدها"، لكن بعد توقيع ثلث أعضاء المجلس ولا تتم الموافقة على الملتمس إلا بالأغلبية المطلقة. كل ذلك مقابل نص دستوري يعطي للملك حق حل مجلسي البرلمان أو أحدهما بظهير شريف (الفصل 69). 12- ينص الفصل 19، الذي يعتبره المختصون دستور الدستور ودستورا وسط الدستور، على ما يلي "الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة". 13- بعدما كانت حركة التوحيد والإصلاح، عن طريق حزب العدالة والتنمية، هي الوحيدة ضمن تيارات الحركة الإسلامية التي اختارت المشاركة الانتخابية بشروطها الحالية، التحق بها كل من حزب "البديل الحضاري" و"الحركة من أجل الأمة" اللذان رجَّحا خيار المشاركة في انتخابات 2007، لكن "الحركة" حُرمت الترخيص ومُنعت من حقها في المشاركة الانتخابية قبل تَعرُّض "البديل" للحل مع ما عُرف بملف المعتقلين السياسيين الستة ضمن خلية بليرج. وفي المقابل تستمر جماعة العدل والإحسان في مقاطعة الانتخابات لأنها تفتقد الشروط التي تراها ضرورية لإمكانية ممارسة السلطة، وتدعو إلى فتح نقاش وطني حول مرتكزات النظام السياسي وصلاحيات السلط. 14- ما زال القبول الرسمي بحزب العدالة والتنمية لم يكتمل بعد، وتعرّض قادة الحركة من أجل الأمة والبديل الحضاري للاعتقال والسجن بمدد وأحكام قاسية، وحُلَّ تنظيمهما، ولم يُقدِّم خيار المشاركة للمشروع الإسلامي ما هو منتظر منه في وقت يتسيد فيه المشروع الحداثي على مقاليد الدولة ويُهيمن على أدوات التأثير في المجتمع. 15- لا يناقش هذا البحث تلك الاعتبارات لأنه مبحث آخر.