يرى الدكتور محمد مدني، أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري بجامعة محمد الخامس أكدال، أن الصراع بين حزب الاستقلال وحزب الأصالة والمعاصرة حقيقي وجوهري وليس عابرا، نظرا لاختلاف الرهانات بين الحزبين. ويفسر مدني الحراك الحزبي الحالي بكون صانع القرار السياسي في المغرب مازال يبحث عن توازن جديد اختل في انتخابات ,2007 بعدما تصدر العدالة والتنمية المشهد السياسي، وتأكد ذلك باحتلاله المرتبة الأولى في .2009 ويؤكد مدني أن الدعوى إلى تشكيل قطب ليبرالي ليس جديدا، بل الجديد في سياق البحث عن التوازن المفقود هو استراتيجية العزل المنتهجة ضد العدالة والتنمية. ويبرز مدني أن المشهد الحزبي لم يستقر بعد، ولا يمكن التنبؤ بما ستؤول إليه الأوضاع، لأن هناك استراتيجيات متناقضة، وهناك مقاومات لابد من التريث قبل الحكم على نتائجها. وفيما يلي نص الحوار: شهدت العلاقة بين حزبي الاستقلال والأصالة والمعاصرة توترا ملحوظا، هل هذا الصراع حقيقي أم عابر، أي هل لهذا التوتر خلفياته ترتبط بالبحث عن موقع سياسي؟ في تصوري، إن الصراع بين الاستقلال والأصالة والمعاصرة، وبين أطراف حزبية متعددة، هو صراع يعكس تناقضات فعلية، لا ينبغي تبخيسها واعتبارها مجرد خدع من طرف فاعلين، هي صراعات حقيقية تعود إلى تشكيلتين حزبيتين مختلفتين، ولو تاريخيا على الأقل، ومن ثم اختلاف رهانات كل طرف، فحزب الاستقلال رهاناته مرتبطة بالوطنية والتعادلية وغيرها، ورهانات الأصالة والمعاصرة تنافس الاستقلال في الوطنية، أو وطننة الوطنية، والعمل على أن تكون رهانا محتكر من قبل الدولة فقط. فعلى الأقل على المستوى الزمني هناك رهانات مختلفة. كذلك الرهانات الاجتماعية والسياسية متناقضة بين الحزبين، غير أن هذا التناقض لا يعني أنها صراعات ستؤدي إلى إنهاء طرف من قبل الطرف الآخر. منذ مجيء الأصالة والمعاصرة إلى الساحة السياسية ظل حزب الاستقلال يكتفي بالنقد من بعيد، ولنقل اكتفى بردود الفعل تجاه مواقف وسلوكات الأصالة والمعاصرة. فهل الموقف الذي عبر عنه عباس الفاسي أخيرا يشير إلى تحول في مواقف الاستقلال من ردود الفعل إلى الهجوم؟ لفهم هذه النقطة وغيرها يجب أن نفهم التحالفات الحزبية ودينامياتها، وبدون فهم تلك الدينامية لا يمكن أن نفهم ما يجري داخل حزب الاستقلال أو الأصالة والمعاصرة وحتى داخل العدالة والتنمية أو الاتحاد الاشتراكي. إذ إن التحالفات الحزبية ليست مسألة تتم خارج الحزب، بل هي تجري داخل الحزب وخارجه، فالتحالفات لها تأثير على علاقة الحزب بالدولة، ولها تأثير على ما يجري داخل كل حزب، من حيث إن التحالفات تُغلب طرفا على طرف، ولذلك فمن الطبيعي أن نجد أصواتا داخل حزب الاستقلال تدعو إلى التحالف مع الأصالة والمعاصرة وأخرى تستنكره، لأن هذا التحالف يؤثر على ميزان القوى داخل الحزب، لهذا نجد أصواتا ترتفع بين الفينة والأخرى في حدود سقف مقبول تريد أن تغير مجرى التحالفات، وهذه ظاهرة طبيعية، وسنعيشها إلى فترة معينة، فهي ماتزال في مخاض لم يتوقف بعد، وهي غير مرتبطة بحزب الاستقلال وحده، بل بالأحزاب الأخرى أيضا. لكن الموقف الذي عبر عنه عباس الفاسي يشير إلى أن الاستقلال تزحزح باتجاه الموقع الذي حدده له الأصالة والمعاصرة وهو أن يكون ضمن القطب المحافظ؟ أعتقد أنه من غير الجدي تتبع الخطابات حول التقاطبات التي يشتهيها البعض، هناك خطط وتقاطبات يحلم بها البعض، ويرسم خطة ويسعى إلى تنفيذها قبل ,2012 هذا مجرد خطاب، ولكن الحياة الحزبية غالبا لا تسير وفق المخططات، في غالب الأحيان نتاج المسار السياسي يكون نتيجة لمخططات متضاربة ومتناقضة. ومن ثم غير متحكم فيها، فالخطاب يقدم خططا، وهذا صحيح، ويسعى إلى أن تكون وفق ما يتصور عمليا، لكن هناك واقع سياسي وحزبي يجب الانتباه إلى ممارساته. فمنذ مجيء حركة كل الديمقراطيين، أعلن عن مخطط وسيناريو معين، وتصور واضعوه أن المشهد السياسي سيطبقه وينخرط فيه، هذا تصور لا يمكن تصديقه، لأنه ينفي عن المشهد السياسي طبيعته المتناقضة ودينامياته المتعارضة، التي تفرز في الأخير مشهدا معينا، ينبغي أن نكون ساذجين حتى نصدق الخطاب وكأنه هو الحقيقة. لكن ما قام به الأحرار والاتحاد الدستوري يقدم وكأنه نجاح وتقدم في تحقيق الخطة المعلن عنها؟ - التغطية على الديناميات السياسية تعطينا نوعا من الانسجام في الحركات، لكن النظر إلى الواقع يعطينا شيئا آخر، لأنه يمكن أن نقرأ حركية الأحرار وإنشاء قطب ليبرالي بدون الأصالة والمعاصرة، يمكن أن تقرأ بأنها مراجعة للمخطط الأصلي، وهذا يعبر عن حدود ذلك المخطط، إذن خطوة الأحرار والاتحاد الدستوري ليست بالضرورة حجة للقول إنها مرحلة من مراحل تنفيذ هذا المخطط. مقاطعا، يعني تتفق هنا مع الرأي الذي يقول إن الأصالة والمعاصرة بصدد التراجع عن مخططه فيما يخص التحالفات، وإنه يعيش أزمة داخلية منعته من تقديم تصور للجهوية إلى حدود الآن، إضافة إلى غياب رؤية سياسية للمشهد دفعته إلى تأجيل مؤتمره الوطني؟ ينبغي الانتباه إلى التحركات، قد يتراجع حزب معين عن أهداف دون أن يعبر أصحابها عن ذلك صراحة، الواقع الحزبي قد يؤدي إلى مراجعة جزئية أو شاملة دون أن يعبر عن هذه المراجعات، ونحن اليوم في مرحلة غير واضحة تماما، هل هي مراجعة جزئية أم شاملة، فالحديث عن 2017 وحتى عن 2012 هي أمور من السابق لأوانه الحديث عنها، بل حتى ما يمكن أن يكون في 2012 لم يتضح بعد، لأنه سيكون نتيجة لممارسات متناقضة ومشاريع متعارضة، لأن هناك مكونات حزبية غير متجانسة. بالإضافة إلى ذلك، إن ما يُقدم وكأنه قطب ليبرالي حديث لا ينبغي التعامل معه وكأنه شيء جديد وغير مسبوق في التاريخ السياسي المغربي، فالمشروع الليبرالي سبق أن تم الرجوع إليه مع ميلاد الاتحاد الدستوري في بداية الثمانينيات، للدفاع عن الليبرالية، وعن برنامج التقويم الهيكلي، بل في فترة كانت الليبرالية في تقدم، وكانت رياح تهب باتجاهها، أما اليوم فالليبرالية في حالة سكون، والرجوع إليها ليس بعنصر جديد. الجديد هذه المرة هو العمل على عزل فاعل داخل الحقل السياسي، وعملية العزل هاته تتم عمليا. إن مسألة التحالفات الحزبية مسألة حيوية في المغرب، ولا يجب أن نتجاوزها. والخطاب المصرح به اليوم هو أن هناك مكونات يجب أن تكون ضد الآخر، بمعنى التأكيد على أن التحالفات مفتوحة مع وجود استثناء، هو العدالة والتنمية. السؤال الحقيقي هو: هل سينفذ هذا الخطاب بحذافيره أم لا؟. هذا يتعلق بقدرة مقاومة حزب العدالة والتنمية نفسه لهذا السيناريو، وكذلك ردود فعل الأحزاب الأخرى. أما الحديث عن القطب الليبرالي فليس بجديد. إرادة العزل هاته، هل ترتبط بالنتائج المتقدمة التي حصل عليها الحزب في الانتخابات الجماعية، وما يشكله هذا التفوق من تهديد لمصالح معينة في سياق الجهوية المتقدمة مستقبلا؟ يبدو لي شخصيا أن الأمور بدأت قبل انتخابات 2007 بشكل ملموس، وبالضبط مع استطلاع الرأي الذي أنجزته مؤسسة أمريكية، وكانت له تداعيات وطنية ودولية. لقد اتضح بالنسبة لصاحب القرار السياسي أن هناك فاعلا قويا في الساحة السياسية، وكشف الاستطلاع عن اختلال في موازين القوى الحزبية، ولذلك فالبحث عن كيفية إعادة التوازن لابد أن يأخذ بعين الاعتبار هذا المعطى. خاصة بعد تأكد تراجع موقع الأحزاب التاريخية في الانتخابات. تلك إذن عملية ترتيب جارية منذ ذلك الحين وإلى اليوم، وبالرغم من ظهور الأصالة والمعاصرة كعنصر أساسي لإعادة تشكيل التوازن فإن هذا غير نهائي إلى حدود الآن، بمعنى قد يكون الأصالة والمعاصرة فاعلا من بين آخرين، لكن ليس ضابط إيقاع، ولذلك فهذه دينامية مازالت مستمرة. لكن هذه الدينامية غير مرتبطة بالمقرر السياسي وحده، بل تجري داخل الأحزاب السياسية وبحثها عن مخرج من الوضع الراهن، بأقل الخسائر، حتى تكسب موقعا أكثر حيوية في التوازن الجديد الذي هو طور البناء، ولاشك أن حزب العدالة والتنمية يريد أن يخرج بأقل الخسائر في هذا التوازن أيضا. أعتقد أن الأمور في وسط الطريق، ومن الصعب التنبؤ بما ستكون عليه. مثلا هل سيقود التجمع الوطني للأحرار التشكيلة المقبلة أم هو مجرد أرنب سباق، التحليل المتأني يتطلب التريث، على الرغم من وجود مؤشرات تسعف في رسم سيناريوهات. فهي دينامية لا ترتبط بقرار مسبق بل بما يجري في الميدان بشكل عملي، لأن هناك استراتيجيات متناقضة. ما هدف استراتيجية العزل في النهاية؟ وما هي الرهانات المرتبطة بها؟ تتمثل أهداف استراتيجية العزل في البحث عن توازن جديد. ذلك أن سياسة الانفتاح التي بدأت مع بداية التسعينات بنيت في الأصل على توازن ثلاثي الأبعاد، فيه الأحزاب التاريخية التي انضوت في الكتلة من جهة، والإسلاميون كتلة ثانية، والأحزاب اليمينية تشكل كتلة ثالثة. في انتخابات 2007 وقع خلل، أثر على سلوك جميع الأحزاب بدون استثناء. واستراتيجية عزل العدالة والتنمية نابعة من كونه يتوفر على تمثيلية مهمة، وله وجود في المجتمع المدني، وقوة انتخابية في المدن، وتعامل برغماتي مع التحالفات، هذه التمثيلية في النسق السياسي مزعجة، بل هي مزعجة أكثر من إيديولوجيته، فحزب ضعيف بمرجعية إسلامية لا يثير أي إشكال، ولكن حزب له تمثيلية ويدخل المعترك في مجال كان محتكرا من قبل الدولة يطرح إشكاليات. لهذا أقول إن المخططات التي توضع قد لا تؤدي إلى الأهداف التي كان يتوخاها واضعوها. فالمخططات التي وضعت لسياسة الانفتاح كان هدفها أن تقوي الأحزاب اليمينية، لكن اتضح أن هذه الليبرالية التي استمرت لفترة طويلة دون انقطاع، استفاد منها حزب العدالة والتنمية. وهذا يطرح إشكالا على صانع القرار السياسي، إما أن يعيد النظر في سياسة الانفتاح ككل، وهذا له ثمن باهض على الصعيد الدولي وعلى صعيد الوطني، أو أن يحاصر هذا الحزب المزعج الذي يستفيد بدون أن يقدم ثمنا مناسبا لذلك. بالإضافة إلى ما يمكن أن نعتبره تأثير تجارب خارجية، الذي يرى البعض أنه يمكن محاصرة الحزب دون أن يكون ثمن ذلك باهظا. تقصد ما يدعو إليه البعض من الاقتداء بالنموذج التونسي أو المصري. هذا غير مؤثر، لكن يتم التلويح به لحل إشكال التوازن الحزبي، وقد يكون ذلك بمثابة تهديد في الظروف الحالية، ونحن نعلم أنه في الحياة السياسية هناك دائما مفاوضات، منها ما هو علني ومنها ما هو غير علني، والمفاوضات نفسها تحمل تهديدات. يرى البعض أن الاتحاد الاشتراكي يعيش ارتباكا، فهو غير قادر على قيادة اليسار ولم يحسم بعد، ولا هو قادر على الذهاب باتجاه العدالة والتنمية، ولا باتجاه الأصالة والمعاصرة؟ الاتحاد الاشتراكي يعيش مرحلة أو حالة لا يمكن فهمها بدون العودة إلى مسار الحزب في السنوات الأخيرة، وبدون النظر في التحولات التي عرفتها قاعدته الاجتماعية، فهو حزب عرف تحولات داخلية وأخرى مجتمعية أثرت عليه، كما تأثر بمشاركته في الحكومة. إن مشاكل الاتحاد الاشتراكي الرئيسية والعميقة بدأت قبل دخوله إلى حكومة التناوب. فهو كان يجر مشاكل ثقيلة، منها تقلص قاعدته الاجتماعية وهي مشكلة سابقة على التناوب، وفقدانه للشبيبة وهي سابقة على التناوب، وابتعاده عن فئات شعبية ارتبطت به أخيرا، هذه الإشكالات أجلت حلها المشاركة في الحكومة إلى حين، وبقيت واستمرت وأضيفت إليها خدشاته خلال مساره الحكومي، ويبدو الآن أنه ليس هناك حل جلي وواضح. إن تطور الاتحاد الاشتراكي اليوم مرتبط بعلاقته بالدولة وبالفاعلين الآخرين، والمشكل الذي يعيشه الاتحاد كما تعيشه أحزاب أخرى، هو أنه يريد الإصلاح في ظل واقع أزمة يرجح أنها ستدوم، وكما كان يقال سابقا، يُراد إصلاح الحزب وهو تحت وابل من النار. وهذه إشكالية ليست خاصة بالاتحاد الاشتراكي، بل يعني الأحزاب التي تريد إصلاح نفسها في ظل أزمة اجتماعية قد لا يكون الإصلاح في ظلها لحسابها. بل هناك من يقول إن الأزمة الاجتماعية هي في صالح المعارضة الحالية، بل ثمة رأي ثالث يقول إن الأزمة الاقتصادية ستضعف الأحزاب والمؤسسات بشكل عام. في الاتحاد هناك تصريحات متناقضة بين من يدفع باتجاه الأصالة والمعاصرة، وأصوات أخرى تقول بضرورة تقوية العلاقة مع العدالة والتنمية، على ماذا يعبر هذا التباين؟ غالبا ما نتعامل مع الحزب وكأنه وحدة متجانسة، الواقع أن الحزب هو توازن سياسي بين عدة توجهات من عدة مجموعات، تتكون من أشخاص وزمر وحساسيات. والحزب مُطالب بتدبير هذه الاختلافات في محيط يؤثر عليها. فالدولة تؤثر فيها بل تبحث عن كيفية الاستفادة منها، والأحزاب تريد أن تؤثر في تلك الخلافات لصالحها. إن العدالة والتنمية مثلا عندما يدعو إلى التحالف مع الاتحاد الاشتراكي فهو يؤثر ويغلب اتجاها على اتجاه، سواء قصد ذلك أم لم يقصده. والمجتمع له مطالبه أيضا، إذ الجمعيات تريد أن يخرج الاتحاد من الحكومة مثلا. إن النتيجة النهائية ستكون معبرة عن هذه الصيرورة والحركية. إذن علينا أن ننتظر ما ستؤول إليه التفاعلات. في سؤال أخير، هذه الديناميات التي يشهدها المشهد الحزبي المغربي، والتي يرجح أنها ستشتد مع قرب ,2012 هل ترى أنه سيحمه سيناريو معين ظاهر سترسو عليه الأحزاب في النهاية؟ أنا أخشى من التنبؤات وبما ستكون عليه الأمور، لكن يبدو لي أن النتيجة النهائية قد تفاجئ المتنبئين، ستكون طبعا في إطار المجتمع المغربي، لكن قد لا تروق البعض كثيرا، أؤكد أنه ليس هناك مخطط مسبق مطلوب من الجميع أن ينفذه كما يشتهي البعض في أفق ,,,.2012