الشعب يريد، الشعب يعبر، الشعب يقرر، والشعب ينفذ. تلك هي مراحل نهوض عملاق الشعب العظيم عبر التاريخ. نهوض لا تقف دون بلوغ مراميه أية قوة على الإطلاق. ولعل ما وقع ويقع في مختلف أرجاء العالم العربي اليوم تسطر أحداثه، بدون شك، هذه المراحل بجلاء. لكن هل نحن في حقل ''هزات ارتدادية'' لما وقع هنا أو هناك عبر قنوات شبكة العوامل المشتركة؟ أم هل نحن على مشارف ''عصر جديد'' بلغت فيه عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية محددة نضجها وأعطت نتائج تختلف حسب درجة ذلك النضج هنا وهناك؟ أم هل نحن أمام عملية تغيير سياسي تتمسك جهات خارجية بخيوطها الأساسية وتكون تحركات الشعوب مجرد ''قوة مدنية سلمية'' في فرض تغييرات على السلطة؟ أم هل نحن بكل بساطة أمام حركة تطور طبيعي لعلاقة الدولة بالمجتمع تعثرت في المنطقة العربية وأخذت في استرجاع المبادرة للحاق بعجلة التطور من جديد من خلال عملية تكيف عنيف؟ يتحدث الكثيرون عن انتقال ''عدوى النهوض'' بين الشعوب العربية، ويتحدثون عن دور هذا العامل أو ذاك في ضبط إيقاع حركة ذلك النهوض. ويبحثون في المشترك بين أوضاع الشعوب لوضع تكهنات ترصد حركة النهوض الشعبي في هذه الدولة أو تلك. ويواجه آخرون ذلك بنفي صفة العدوى عن التطورات، ويبحثون عن الفوارق التي تجعل هذه الدولة أو تلك بعيدة عن مرمى الأحداث أو تجعل للتغيير سقفا سياسيا متدنيا. هذا التجاذب الفكري والسياسي يتم في ظل ميزتين أساسيتين للتطورات التي تعرفها المنطقة العربية اليوم.الأولى، أن تلك التطورات لم تكن متوقعة وقد فاجأت الجميع في سرعتها وعمق تأثيرها بما في ذلك الأنظمة المعنية بها نفسها. و الثانية، وكنتيجة للسمة الأولى، هي غياب نظرية علمية متماسكة تفسر ما وقع وتستطيع أن تتنبأ بما سيقع مما يجعل الجميع يتابعون التطورات دون توقعات متماسكة. وهتين السمتين جعلت للأحداث صدمة فرضت نوعا من الشلل على الوظيفة التنظيرية ونوعا من الاستسلام للقراءات الإعلامية المختلفة. في ظل ذلك الشلل لا أحد يستطيع أن يزعم إلى أين تسير الأمور في الدولة الواحدة ولا يستطيع أحد بالأحرى أن يزعم ماذا ستكون عليه خريطة الأحداث بالمنطقة في المستقبل القريب. ففي الوقت الذي تغيب فيه النظرية العلمية القادرة على التفسير والمبنية على قواعد وحجج واضحة، تسيطر الرواية الإعلامية التي تمتلك قوة فرض الرأي الإعلامي الواحد الذي يرى أن الشعوب العربية تعيش حالة مخاض ثائر وأن الذي وقع في تونس ثورة شعبية والذي وقع في مصر ثورة شعبية والذي يقع هنا وهناك بوادر ثورات شعبية. هل نحن أمام مفهوم جديد للثورة؟ ''ثورة ذكية'' لا تحتاج لإسقاط النظام السياسي، في ظل شبكة الاتصال والإعلام وفي ظل علاقات دولية معينة، إلى طليعة ثورية ولا إلى عنف شعبي دموي يواجه عنف النظام القائم في محاولة السيطرة على مراكز السلطة المادية والمعنوية (السلاح والإعلام والمؤسسات ...). وأن كل ما تحتاجه ''الثورة المعاصرة'' هو تواصل مكثف بين الشباب عبر الانترنيت وخروج مكثف ومصر وسلمي ومستمر لهؤلاء الشباب إلى الساحات العمومية ذات الرمزية التاريخية، وتغطيات إعلامية عبر القنوات يتابع من خلالها باقي الشعب ملاحم الشباب. هل ما يقع في مصر وتونس إسقاط للنظام السياسي أم مجرد عملية إكراه لتلك الأنظمة على تجديد نفسها؟ حيث نرى في الحالتين مخاضين، مخاض شعبي في الشارع له مطالب وله ممثلون، ومخاض داخل مؤسسات النظام يتفاوض مع ''ممثلي الشعب'' ويستجيب لتلك المطالب و''ينظم'' انتقال السلطة وينظم التنازلات دون أن يسمح بانفراط عقد النظام وانهياره الكامل؟ هل نحن أمام انقلابات عسكرية بإخراج مدني، تفسره مواقف الجيشين المصري والتونسي، حيث تحرك الجيش التونسي مباشرة بعد تحقق المراد برحيل زين العابدين في تونس ودخل في مواجهات استعادة السلطة مع عناصر الأمن دون السماح بانهيار كامل للمؤسسات الممثلة للنظام السياسي. هل نفس السيناريو هو المتوقع في مصر بعد توفر شروطه حيث لم يفهم أحد على الإطلاق موقف الجيش ''الحيادي''، باستثناء قادته طبعا؟ هل يمكن الحديث عن أجندات أجنبية تلعب فيها الجيوش دورا رائدا من خلال ''الانقلاب المدني''؟ وهل يمكن تدعيم هذه النظرية من خلال سلوك الإدارة الأمريكية واتصالاتها المختلفة والتي انكشف تأثيرها في ضبط إيقاع تجاوب السلطة في مصر مع مطالب الشعب في الشارع؟ بين الذي وقع ويقع بالفعل وبين القراءات التي يسوقها الإعلام تطرح العشرات من الأسئلة. و غياب نظرية علمية لتفسير ما يقع قد يجعل القراءات الإعلامية الجاهزة تدفع الشباب إلى ركوب بحر المغامرات انطلاقا من الصورة الاستسهالية للتغيير. والتي تلخصه في مجرد خروج عفوي ل''شباب الفايسبوك'' للمطالبة بالديمقراطية والتحاق الطبقة السياسية بهم وسقوط الدكتاتوريات تحت تأثير الشعارات في الشارع. ما الذي يحدث بالضبط في المنطقة العربية ونخشى أن يحدث في المغرب؟ هل نحن أمام قضاء وقدر لا مفر منه؟ ما هي السنن الاجتماعية التي تحكم هذا الحراك السياسي والشعبي في المنطقة؟ هل للأمر علاقة ما بتنزيل نظرية الفوضى الخلاقة الأمريكية بإخراج محلي؟ هل نحن أمام إكراهات أجندة نظام عالمي جديد؟ لماذا تخيفنا بعض نقاشات الشباب على الفايسبوك؟ هل مجرد الحديث عن دور المغرب يهدد النظام القائم فيه؟ هل البلاغات الحزبية التي تتهم أصحاب الرأي القائل بكون المغرب معني أيضا بما يقع، بالمؤامرة ومحاولة التموقع لتحقيق مصالح شخصية تقدم الجواب وتطرح الحل؟ لا شك أن أكبر خطأ يمكن الوقوع فيه هو اعتماد ''مقاربة المنع''. المنع من النقاش الحر ومن التضامن الشعبي مع باقي الشعوب ومن الاحتجاج ضد الانتهاكات والاختلالات... إن أكبر منع معتمد حتى الآن هو غياب نقاش عمومي يستوعب نقاشات الشباب ويلبي حاجتهم إلى التعبير وإبداء الرأي. لعل هاجس السلطة اليوم هو: ما هي الضمانات على عدم وقوع ''انزلاق''؟ إن أكبر ضمانة هي ما يعبر عنه غالبية الشباب، فجولة في الشبكة العنكبوتية تكشف أن الغالبية القصوى للشباب في المغرب لا يتجاوز نقاشهم الحديث عن الفساد والمفسدين ووضع ضمانات حقيقية لعدم التلاعب في الانتخابات. والإجراءات التي تطرحها نقاشات الشباب لا تتجاوز في أقصاها تعديل الدستور وحل حزب السلطة وتغيير الحكومة وفتح ملفات الفساد. ما الذي يجعل هذا النقاش يحمل تهديدا؟ هل هو التوقيت؟ إن أكبر خطأ يمكن الوقوع فيه هو عدم التواصل والانغلاق على المقاربة الأمنية وإشهار ''سلاح المنع''. المنع من النقاش والمنع من التضامن والمنع من الاحتجاج على الفساد والاختلالات...