بعض ثمرات نظرية التقريب والتغليب حكم العمل بالأغلبية هذه مسألة لها إلى الواقع انتساب قوي، إذ تعتبر قضية محورية داخل الثقافة التنظيمية سواء تعلق الأمر بالجانب الإداري الصرف أو تعلق بالجسم الحركي الذي يتفاعل مع واقعه ويحتاج إلى اتخاذ قرارات لا يكون التداول قبلها قد أفضى إلى القطع، أو تعلق الأمر بجوهر النظام السياسي وهياكله ومؤسساته ووسائل اشتغاله. ولهذا فالتحقيق في هذه المسألة بذات الآلية الأصولية التي اشتغل الدكتور الريسوني عليها، فبين مفهومها وعرض تطبيقاتها وساق أدلتها وقعد ضوابطها يعتبر من ثمرة هذا الموضوع ووزبدته، وكان يحسن أن يضيف الدكتور مسألة أخرى ويناقشها بذات الآلية ولكنه فضل في هذا البحث الاقتصار على جزئية واحدة للدلالة أولا على الطابع العملي لمثل هذا الاشتغال إذ ليس من أصول الفقه الاشتغال فيما ليس وراءه عمل ثم ثانيا كي لا يتحول البحث إلى عرض التفاصيل الجزئية فيختل المقصود الذي هو إيضاح معالم النظرية وأدلتها وضوابطها وتطبيقاتها، فالاقتصار على هذه الجزئية يعتبر بمثابة فتح المجال لهذه النظرية وهذه الأداة لتشتغل في باقي المسائل والمعضلات الواقعية. تناول الريسوني هذه المسألة في سياق أدلتها الشرعية، فبين أنه ليس هناك نص يأمر صراحة باتباع، الأغلبية ولزوم حكمها، كما أنه لانص ينهي عن ذلك ويحذر من ذلك، فالقرآن والسنة ليس فيهما ما يمكن اعتباره نصا في المسألة، لكن يمكن الاسترشاد في الموضوع بما جاء في قصة ملكة سبأ التي حكى القرآن عنها أنها توقفت عن اتخاذ قرار حاسم حتى تعرضه على الملأ: >ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون< وأيضا بما جاء في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من سعيه لالتماس رأي الصحابة وجمهرتهم كما تدل على ذلك غزوة بدر وأحد،والخندق وغيرها.. فهي نصوص وتصرفات تشهد لصوابية الاعتداد برأي الأغلبية إذا كانت في موضعها وفي نطاق حقها واختصاصها. ولقد جرى العلماء على الترجيح بالكثرة في علم الحديث في مجال الرواية والتعديل والتجري وأيضا في الفقه في الاجتهاد وغيرها، مما يؤكد أن اعتراضات بعض الإسلاميين على إعمال مبدأ الترجيح بالأغلبية غير قائم على أساس خاصة وأن أدلتهم التي استندوا إليها موجهة توجيها متعسفا، من ذلك استدلالهم بأن القرآن حينما يعرض الأغلبية إنما يعرضها ويصورها في مظهر الجاهل الضال الفاسق وأن القرآن أيضا يمدح الأقلية من ذلك، قوله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك..) وقوله تعالى: (بل أكثرهم فاسقون..) بل يذهب بهم التعليل إلى اعتبار الإسلام لا يجعل كثرة العدد ميزانا للحق والباطل فالأمير له الحق أن يوافق الأقلية أو الأغلبية في رأيها وكذلك له أن يخالف أعضاء المجلس كلهم ويقضي برأيه كما هو الأمر عند أبي الأعلى المودودي في كتابه نظرية الإسلام وهديه. والواقع أن الذين استشهدوا بهذه النصوص ارتكبوا خطأ فادحا في فصلها عن سياقاتها وموضوعاتها، والمتأمل في الآيات المستدل بها يجد أنها: إما أن تقرر أن أكثر الناس لا يعلمون الحقائق الغيبية فلا عبرة بكثرة المتنكبين عنها وبكثرة المعتقدين خلافها إذ المصدر المعتمد في هذا المجال هو الوحي والخبر الصادق. وإما أن ذم الأغلبية فيها منصرف إلى أقوام خاصة صفتهم العناد والكفر والبغي والاستكبار كاليهود ومشركي قريش و غيرهم من الأقوام الذين عاندوا أنبياءهم واستنكروا الحق أو طائفة المنافقين. وبهذا الاعتبار ليس في الإسلام ذم للأكثرية لذاتها وإنما لما يصاحبها من صفة وفي هذا المأخذ اللطيف كلام نفيس لابن عرفة ساقه الدكتور الريسوني نرى أن نثبته هنا يقول ابن عرفة مفسرا قوله تعالى: (ولو أعجبك كثرة الخبيث): >وكنت بحثت مع ابن عبد السلام وقلت له: هذه الآية تدل على الترجيح بالكثرة في الشهادة فقوله: ولو أعجبك كثرةالخبيث يدل على أن الكثرة لها اعتبار بحيث إنها ما أسقطت هنا إلا للخبث ولم يوافقني عليه ابن عبد السلام بوجه ثم وجدت ابن المنير ذكره بعينه "انتهى كلام ابن عرفة. فالكثرة مطلوبة ومرغوبة ومعتد بها شريطة ألا تخرج من دائرة الصلاح والإيمان والخير والنفع... وحاصل المناقشة في أدلة العمل بالأغلبية والاعتراض عليها بالغ الأهمية، إذ حسم المسألة لصالح الترجيح بالكثرة سيفيد في إعادة النظر في جملة من التصورات التي سمحت بظهور مفاهيم مغلوطة خاصة في تصور النظام السياسي ومفهوم الشورى وصلاحية الأمير... إن حسم المسألة سيشكل ثورة على التصور التنظيمي التقليدي الذي يعطي للقائد والمرشد صلاحيات واسعة تعتبر كارثية النتائج إن أحسن استعمالها فما بال الإساءة في استعمالها وسوء توظيفها..؟!! بعد هذه المناقشة يجلي الدكتور الريسوني أهمية العمل بالأغلبية فيرى: أن العمل بالأغلبية فرع من العمل بمبدأ الإجماع. إن العمل بالأغلبية يجعل الجميع يشترك بجدية وفعالية في التفكير والتدبير إن العمل بالأغلبية يجعل الناس يكونون أكثر انقيادا للتنفيذ حينما يكون لقرار ما تبعات ثقيلة فإن الذين شاركوا فيه يكونون أكثر استعدادا لتنفيذه وتحمل أعبائه أنه يمنع الأمراء والرؤساء من الاستبداد أنه يمنع التأثيرات النفسية والاعتبارات الذاتية من التأثير على القرار. وإذا كانت هذه فوائد العمل بالأغلبية، فإن مجالات اشتغاله واسعة ومتعددة ومتنوعة، ولكل مجال أهله، ولكل مجال أغلبيته في دائرة الرأي والاجتهاد . أما ما تقرر بأدلة الشرع فلا مجال لأغلبية فيه ولا أقلية، إنما الثابت ما قرره الشرع فما عدا ذلك فللترجيح بالأكثرية مدخل فيه سواء تعلق الأمر بالتشريع الاجتهادي العام أو بالتأمير والتقديم أو بتدبير المصالح والشؤون المشتركة. والذي يمكن تسجيله بهذا الصدد أن هذه القضية بعد وضوح أدلتها وأهميتها وفوائدها ومجالاتها قد تحسم جملة من الإشكالات النظرية والعملية وينتج عن التزامها منع كثير من التعسف والشطط والاستبداد والظلم الناتج عن اطراحها وإعمال خلافها، وهو أمر جدير بالبحث والمناقشة والتأمل، وخاصة في بلاد تعتبر الاستبداد هو مناخها النفسي والسياسي والثقافي حيث يسوغ الحاكم لنفسه كل المبررات السياسية والصلاحيات الدستورية لتبرير قراراته، فإذا زيد عليه المبرر الشرعي لاطراح مفهوم العمل بالأغلبية وإنكاره واعتماد مبدأ صحةرأي الأقلية وجواز مخالفة الأغلبية علم كم حجم الاستبداد الذي سيزداد ثقله وكم هو الثمن الذي ستدفعه الأمة. بلال التليدي