تعتبر الزكاة من أهم النظم المالية وأبرز المؤسسات التشريعية الإسلامية ،فمن خلالها يتجسد جانب من جوانب الاقتصاد الإسلامي ،ذلك الاقتصاد الأصيل في ذاته والمستقل في تعاليمه والقائم على مبدأ الوسطية والواقعية ،فهو يروم تحقيق مصالح العباد والاستجابة لحاجياتهم مهما استجدت الوقائع واختلفت الأزمنة .والزكاة فضلا عن كونها ركنا من أركان الإسلام الخمسة ،فهي تمثل دليلا وشرطا على سلامة العقيدة، وترجمة عملية على صدق الإيمان ،بالإضافة إلى ذلك فهي تعتبر مؤسسة للتكافل الاجتماعي، وأداة أساسية لتحقيق التنمية في بعدها الاجتماعي والاقتصادي . الزكاة مدرسة للتربية والتكافل تتضمن الزكاة أسرارا كثيرة وحكما بليغة ،فهي تشريع إلهي، ومنهج تربوي، ومدرسة لتطهير النفس وتزكيتها ،وصقل للروح وتهذيبها، وتحرير للنفس من ذل التعلق بالمال والارتباط الشديد به، وفي نفس الآن تدريب على البذل والعطاء والانفاق في سبيل الله، مما يؤدي الى تثبيت معاني المحبة والأخوة بين المسلمين،فالعبرة بالسلوك العملي والانفاق المادي والتضامن الحسي والذي يترجم عمليا من خلال إعطاء الزكاة طاعة لله وشكرا لنعمه .فالإسلام بتشريعه للزكاة يهدف إلى تربية المسلم تربية إسلامية وفق منظور واقعي ينطلق من مراعاة الفطرة البشرية ،والحرص على ضبط الغرائز وتهذيب السلوكيات وتقويمها بما يتلاءم ومسؤولية الإنسان الاستخلافية ، وثقل الأمانة التي حملها بعدما أشفقت السماوات والأرض والجبال من حملها ، إقرارا بصعوبتها ، واعترافا بمكانتها وتقديرا لأهميتها . وقد أجمل القران الكريم مقاصد الزكاة على المستوى الخلقي والتربوي من خلال قوله عز وجل :''خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها .'' (التوبة 103) ،فهي طهارة لنفس المزكي من صفة البخل ودنس الشح المهلك ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:''ثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه. '' كما أن في إخراجها شكر للنعمة وسبيل إلى إدخال السرور على المؤمن..فقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال فقال:'' إدخال السرور على المؤمن.'' قيل وما إدخال السرور على المؤمن؟ قال: ''سد جوعته وفك كربته وقضاء دينه.''. ( السلسلة الصحيحة للألباني). كما تمثل الزكاة أيضا مؤسسة للتكافل الاجتماعي والذي يعد من أهم الأسس التي يقوم عليها المجتمع، فهو ينشد تقوية الأواصر الروحية وتلبية الحاجيات الأساسية للإنسان. و كفالة مستوى لائق من المعيشة وتحقيق ضمان اجتماعي خصوصا لتلك الفئات المعوزة ، وبالتالي التقليل من حدة الفوارق الطبقية في المجتمع. ، ففي إخراجها سد خلة المحتاجين وحفظ كرامتهم، وصون عفتهم ، وتخفيف من معاناتهم النفسية وحماية لهم من رق العوز وقسوة العيش، وفي نفس الوقت مد لجسور التواصل و تثبيت لدعائم المودة بين الأفراد. ومن أهم التجليات العملية لمقاصد الزكاة التكافلية والاجتماعية ، ما يرتبط بمصارفها ومجالات إنفاقها ، فكما هو معلوم يتم تخصيص جزء من أموال الزكاة لضمان وسد الحاجات الضرورية ذات الطابع الاستهلاكي لفئة من المجتمع، والتي هي عاجزة عن الكسب وغير قادرة عن العمل، إما بسبب إعاقة جسمية أو ذهنية أو بسبب مرض أو شيخوخة أو يتم أو لأسباب أخرى، قد يبتلى بها المرء ولا يقدر التغلب عليها فتتعذر عليه بذلك سبل العيش الكريم ، فهذا عمر بن الخطاب يؤكد على سعاة الزكاة ويطلب منهم استيفاء الفقراء مايكفيهم من مال الزكاة حيث قال: ''اذا أعطيتم فاغنوا ''. وقال الخليفة علي بن ابي طالب كرم الله وجهه:'' إن الله فرض على الاغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم''. أي بقدر ما يحقق لهم حد الكفاية بما فيه توفير مستلزمات الحياة الكريمة، والتي تشمل الجوانب المادية والمعنوية على حد سواء. . بالإضافة إلى ذلك تعتبر الزكاة موردا دائما لبيت مال المسلمين، وأداة شرعية للتأمين ضد مختلف الكوارث ووسيلة فعالة للتقليل من الآفات الاجتماعية. ففي تشريع الزكاة اهتمام بذوي الحاجات الطارئة من الغارمين الذين اضطروا للاستدانة ، ولم يتمكنوا من الوفاء لأسباب تتجاوز إمكانياتهم ، وكذا للاجئين والمشردين الذين أرغمتهم قسوة العيش وتقلبات الدهر للاستسلام للذل والبؤس. فمثل هذه الحالات وما شابهها ، لها الحق في الاستفادة من أموال الزكاة ، يقول تعالى:''إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم و في الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم.'' ( سورة التوبة ، الاية60) . إن الإسلام يكره الفقر والحاجة ويريد أن يعفي الناس من ضروريات الحياة المادية ليتفرغوا لما هو أعظم ولما هو أليق بالإنسانية والكرامة التي خص الله بها بني ادم. قال تعالى :'' ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا.'' (سورة الإسراء ،الآية .) من أجل ذلك خ وعلى حد تعبير سيد قطب خ فما هو بإنسان وما هو بكريم على الله ذلك الذي تشغله ضرورات الطعام والشراب على التطلع إلى مثل ما يناله الطير والحيوان، فضلا عما يجب للإنسان الذي كرمه الله... إن الإنسان خليفة الله في أرضه، قد استخلفه لينمي الحياة فيها، ويرقيها، ثم ليجعلها ناضرة بهيجة ، ثم ليستمتع بجمالها ونضرتها، ثم ليشكر الله على أنعمه التي أتاه. والإنسان لن يبلغ من هذا كله شيئا إذا كانت حياته تنقضي في سبيل اللقمة ولو كانت كافية، فكيف إذا قضى الحياة فلم يجد الكفاية؟''.(العدالة الاجتماعية ص:511). الزكاة لبنة أساسية لتحقيق التنمية تعتبر الزكاة جزءا من النظام الاقتصادي الإسلامي ،فهي حجر الزاوية في بناء هذا النظام وترشيده لخدمة المقاصد الاجتماعية والتنموية بما يتناسب مع مصالح الأمة ، كما تمثل أداة محفزة على الإنتاج ومحاربة الاكتناز ،وذلك من خلال عدم اقتصارها على سد احتياجات الفقراء وتلبية مطالبهم على المستوى المعيشي فحسب ،وإنما تتجاوز ذلك لتصبح أداة رئيسة لتشجيع الاستثمار، وإيجاد فرص العمل للعاطلين ،إضافة الى توسيع القاعدة الإنتاجية بالنسبة لذوي المهن والحرف خصوصا أولئك الذين يفتقرون إلى أموال كافية، تخول لهم امتلاك أدوات العمل و الإنتاج كل حسب تخصصه وكفاءته ومهارته المهنية .فقد اتفق فقهاء الإسلام من السلف والخلف على ان الزكاة ينبغي أن يخصص جزء منها لفائدة العاجزين عن العمل لمرض أو عاهة ،أو كبر في السن وذلك مساعدة لهم على تلبية حاجياتهم الاستهلاكية، وأن يخصص الجزء الاخر منها للجانب الاستثماري والرفع من قيمة رأس المال البشري ،بحيث يصبح قادرا على استثمار الثروات الطبيعية وأداء الخدمات الضرورية للتنمية .يقول الامام شمس الدين الرملي :'' أما من يحسن حرفة لائقة تكفيه ،فيعطى ثمن آلة حرفته وان كثرت ،ومن يحسن تجارة يعطى رأس مال يكفيه ربحه منه غالبا باعتبار عادة بلده ...ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والنواحي .''( نهاية المحتاج،6/159). ومن الأسرار الاقتصادية التي تتضمنها فريضة الزكاة تقليلها من انسياب الأموال بشدة إلى مجرى الادخار ، وتحويل جزء منها الى دائرة الانفاق الاستهلاكي، حيث إن الفقراء والمساكين وهم من :'' أوائل المستحقين للزكاة ،عندما يعطون نصيبهم من الزكاة فإنهم سوف ينفقونها في قضاء حاجاتهم الاستهلاكية سواء كانت سلعا أم خدمات، وبذلك يدعمون تيار الاستهلاك. والمعروف اقتصاديا أن زيادة الاستهلاك تؤدي الى الاستثمار.'' (ابراهيم فؤاد، الاثار الاقتصادية للزكاة) وعليه فان الارتباط الحاصل بين الانفاق والاستثمار هو الذي يدعم حركة التنمية، ويضمن جديتها واستمرارها، ذلك لان التقليل من الإنفاق سيؤثر لامحالة على السوق ،ويؤدي الى حالة من الركود الاقتصادي، الشيء الذي يجعل المستثمرين من الاغنياء غير قادرين على المجازفة باموالهم في استثمارات غير مجدية بناء على دراسة أحوال السوق. لهذا فإن الاسلام بتشريعه للزكاة يحرص على تحقيق انتاجية، وفي نفس الوقت يهتم بدعم الانفاق الاستهلاكي الذي يعتبر ضروريا في المجتمع. بالإضافة إلى ذلك تشكل الزكاة لبنة أساسية لبناء صرح الاقتصاد الاسلامي ، وتفعيل الأدوات التمويلية التي تعتمدها المصارف الإسلامية في إطار اجتناب المعاملات الربوية، ثم المساهمة في تحقيق التنمية ، وبالتالي وضع المال في مساره الإسلامي الصحيح. فانطلاقا من المراحل التي مر بها التشريع الإسلامي في زمن الرسالة نجد أن فرضية الزكاة تم تقديمها على تحريم الربا ، والحكمة من ذلك تتجلى في بيان دور الزكاة و مقاصدها التي تروم معالجة الاسباب الكامنة وراء التعامل بالربا بشكل تدريجي ،فالربا كما هو معلوم ينشأ في جهتين: حاجة المقترض إلى المال ، وشح وأنانية المقرض الذي يهدف إلى استغلال المدين وفرض الزيادة الربوية عليه . وكما سبقت الإشارة إلى ذلك فإن من مقاصد تشريع الزكاة توفير حد الكفاية اللازم حتى يستغني به الشخص عن الحاجة والعوز، وبالنسبة للمزكي فهي تعالج في نفسه الشح والبخل وتهذب فيه غريزة التملك حتى يتعود على البذل والعطاء والانفاق من أجل ذلك فإن ''محاولة إزالة الربا دون تفعيل مؤسسة الزكاة تؤدي إلى خلل جوهري في مسيرة التمويل الإسلامي ،سواء على مستوى الفهم والتنظيم أو على مستوى الممارسة مما يجعل الحيل الربوية تظهر كأنها ضرورة لا يمكن الفكاك منها ، مع أنها في واقع الأمر لا تزيد المشكلة إلا سوءا.''(سامي السويلم، أولويات الاقتصاد الإسلامي). وخلاصة القول ، إن الزكاة بوصفها تشريعا ربانيا ، ونضاما فريدا يجمع بين وظائف تربوية ومقاصد اجتماعية وحقائق اقتصادية،فإن ذلك يقتضي التعمق أكثر على مستوى البحث والدراسة لاكتشاف المزيد من أسرارها التشريعية ، والوقوف على مختلف جوانبها الاعجازية . وذلك بتضافر الجهود بين الفقهاء ورجال الاقتصاد بما يسمح باستخلاص نتائج من شأنها تفعيل هذه المؤسسة الاقتصادية التنموية ،مجابهة للتحديات الراهنة وفق أسلوب مرن تتجلى من خلاله واقعية التشريع الإسلامي ومبادئه العادلة ،أخذا بعين الاعتبار الظروف وملابساتها ، والأوضاع ومقتضياتها.