لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر -المستشرق الألماني يوهان فك- أثارت مراسلة الأستاذ النقيب عبد الرحمان بنعمرو لكل من المجلس العلمي الأعلى والرابطة المحمدية للعلماء حفيظة بعض المنتسبين إلى اليسار بدعوى أن ذلك سيفتح المجال لولاية الفقيه عوض ولاية الأمة وأن هذا الموقف مخالف لتوجهات اليسار ودولة الحداثة . وللمراسلة قيمتها العلمية والقانونية التي سنتناولها في عنوانين أساسييين : الأول يتعلق بعلاقة العربية بالنص القرآني والثاني بدور العلماء كمؤسسة رسمية في الذوذ عنها. 1 العربية لغة النص القرآني : إضافة إلى كون المراسلة صادرة عن أحد أعمدة القانون المغربي وأحد رموز الساحتين السياسية والحقوقية الوطنيتين ، فإن صدورها في حد ذاته بعد العديد من القضايا والمرافعات أمام محاكم المملكة ومراسلة العديد من الجهات القضائية والحكومية يثبت أن الدفاع عن العربية ليس خاصا بانتماء سياسي أو إيديولوجي معين وأن رهان بعض المنتسبين إلى اليسار، والذين فقدوا بوصلة الانتماء، على الفصل بين العربية والنص القرآني رهان خاسر . لذلك تجدهم يراهنون على إعادة النظر في وضع العربية داخل الدستور والواقع المغربيين باعتباره نتاجا لحسابات سياسية ضيقة حكمت اختيارات الدولة في مرحلة تاريخية معينة، كما راهنوا سابقا على إعادة النظر في ثوابت الأمة الأخلاقية والسياسية. ويعتبرون أن دفاع فضلاء اليسار المغربي عن العربية وهوية الشعب القومية سيؤدي إلى مزيد من الرجعية وسيطرة قوى الظلام وغير ذلك من شعارات زمن الهوان لدى بعض المتبجحين بمقولات اليسار وقادة التضليل والجهل بالحقائق وبالقانون كما سماهم الأستاذ النقيب. والحقيقة التي لا محيد عنها هي أنه لا يمكن القفز عن هذا الارتباط الأزلي بين النص القرآني والوعاء اللساني العربي. وكل من يطالع كتابات المتخصصين قدامى ومحدثين سيجد نفسه أمام تفسيرات لغوية وعقدية لهذا الترابط. فالعربية في التناول القديم لا تقف عند حدود اعتبارها لغة تواصل وتبليغ عادي تماثل اللغات الطبيعية المتعددة، بل تحمل من الصفات والمميزات ما جعلها محملة بكلام رباني مفارق وخاتم لكل الرسالات . فنزول القرآن الكريم بالعربية دليل أهميتها وأفضليتها وباعث نهضتها، وصاحب الفضل الأكبر والأثر الأظهر في نشرها وخلودها. كما أن نزول القرآن بلغة العرب لم يكن أمرا عفويا أو مصادفة تاريخية أو حتى تحقيقا لقيود الانتماء العرقي، بل الأمر يحمل دلالات متعددة أهمها خصائص العربية التي تمكنها من استيعاب الرسالة السماوية، وكذا تفضيل هذه اللغة عن باقي الألسن، لأنها تحمل وظيفة التبليغ عن رب العالمين. كل هذا دفع الدارسين القدامى إلى محاولة التنظير لعروبة النص والذوذ عنها حتى يتم الربط الجدلي بين الحقيقتين : الحقيقة الإلهية ممثلة في النص القرآني، والحقيقة العربية كما تبرزها لغته. ومن ثم كان المدخل الطبيعي للنص هو لغة العرب ومعهودهم اللسني كما يعبر الشاطبي إمام المقاصد عن ذلك:فإن قلنا إن القرآن نزل بلسان العرب و إنه عربي و إنه لا عجمة فيه فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة، وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره وبالعام يراد به الخاص...وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها. وهذا القول لا يقصد منه تقديم تأويل عدائي للعلاقة بين الدين والدولة أو تخويف الناس من الدعاوى المتنامية إلى حماية العربية، مادام الفهم الحقيقي للبناء الدستوري للدولة القائم على إمارة المؤمنين والانتماء العربي الأصيل للعائلة الملكية يؤسس لعلاقة متميزة قوامها الحفاظ على ثوابت الأمة وعلى رأسها العربية لسان القرآن. 2 العربية ومؤسسة العلماء: إذا كان الأستاذ بنعمرو قد نظر إلى دور العلماء في الذوذ عن العربية من وجهة قانونية سياسية صرفة فإن من حقنا القول بأن المراسلة تضع مؤسسة العلماء أمام واجبهم التاريخي والشرعي . إذ تمتلئ كتب التراث والفكر العربيين بأقوال وأحاديث العلماء ورجال الدين عن العربية وارتباطها بالوجود الحضاري للأمة . وقد يضيق المجال بسردها كلها لكن نكتفي بالتمثيل بقولة ابن تيميّة رحمه الله : فإنّ اللسان العربي شعار الإسلام وأهله ، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميّزون . وقول علال الفاسي : إن لغة التعليم في المغرب يجب أن تكون واحدة ، يجب أن تكون هي اللغة العربية ، فإذا أخذت لغتنا مركزها من كل المدارس لم يعد علينا بأس بعد ذلك إذا أضفنا لها لغة أو لغات حية تفتح لنا آفاق الاتصال بالعالم الغربي الذي نتطلع إلى الاقتباس من تجاربه وفلسفاته. وتعبير المختار السوسي في مقدمة إحدى رسائله العلمية : الحمد لله اختار رسوله من أفضل أرومة، وجعل كتابه الذي أوحاه إليه خير كتاب أنزل للناس، فكانت تلك اللغة التي اختيرت لذلك الكتاب العجيب خير لغة التوت بها الألسن، ولفظت بها الشفاه، ولذلك قدرت أن تعبر من مقاصد الوحي العالي عما عجزت دونه أرقى اللغى اليوم. هذه المواقف وغيرها كثير يفرض على علماء المغرب في شخص المؤسستين الرئيستين إصدار مواقف حقيقية في وجه كل مس بلغة القرآن . فكما دافعت هذه المؤسسات عن النص القرآني في وجه أعدائه الذين يريدون إحراقه أو المس بقدسيته ، وكما تعمل هذه المؤسسات على النهوض بأحوال التفقه في القرآن وطباعته وتسهيل ولوج العامة إلى فهمه ، يلزمها الوقوف في وجه كل مس بلغته وآلته اللسنية . وإذا كان البعض يحاول تحييد هذه المؤسسات عن الشأن العام باعتبارها مؤسسات للتداول في مواضيع لا تخرج عن جدران المساجد والزوايا بغية تحييد الدين كلية عن الواقع وجعله متاحا للتفسير الفردي المشاع فإن التاريخ القريب والحديث والوضع السياسي الدستوري المتميز للمغرب ينبغي أن يكون أكثر حثا للعلماء ومؤسساتهم المحلية والوطنية على النهوض بالعربية وحمايتها والدفاع عنها . ونحن هنا لا ننكر بعض الجهود المحلية والجزئية للخطباء والعلماء لكن ظهور ذلك في شكل مؤسساتي سيكون أكثر تأثيرا وفعالية.. في الانتظار..