حث الإسلام على العلم والبحث والاستفادة من الطبيعة في مصدريه القرآن والسنة ومن ثمة على ألسنة المدارس الفلسفية على اختلافها..على عكس الفلسفة اليونانية والمعتقدات المسيحية. فالفلسفة اليونانية بثنائيتها –dualismus- الخالق : الذي له مجاله وعالمه ووسائله وأدواته – والطبيعة: تلك المادة البشعة العفنة التي لاتستحق سوى الإهانة والإحتقار – مما حمل اليونانيين على احتقارالعمل اليدوي واعتباره وقفا على طبقة العبيد،بينما الفكر هو للسادة- أعاقت العلوم الطبيعية،وينجلي هذا أيضا في حوار "ثيمايوس" لأفلاطون الذي يقدم الحيز الفاصل بين التفكير النقي واليقين الناقص بالطبيعة ! وأما المعتقدات المسيحية فهي تأثرت بتصورات الفلسفة اليونانية ،هذه التصورات التي أصبحت منذ منتصف القرن 12 عشر توصيات استبدادية،تباركها الكنيسة. أما المناطقة فرأوها معوقات مبتكرة أو مواضعات للحيلولة دون ميلاد علم تطبيقي أصيل.غيره أنه مالبث أن ظهر رواد تغيير مسيحيون اضطهدوا من قبل الكنيسة ، هؤلاء رفضوا الثنائية التي بثتها الفلسفة اليونانية والأفلاطونية الجديدة والأرسطوطاليسية والكنيسة..وأبرزهم: (حنا سكوت إريوجينا) وله كتاب "تسخير الطبيعة" الذي احتل المرتبة الأولى في الكتب المحكوم عليها بالزندقة والملاحقة من الرهبان! "" أما علماء المسلمين وفلاسفتهم لم يكونوا مقلدين شأن النصرانيين، بعد الإقبال على ترجمة التراث اليوناني ودراسته ، إذ لم يتقبلوا الأشياء على علاتها بل أخضعوها لموازين القرآن والسنة وأحكام العقل والإجتهاد..فبهذه الطريقة نجت المعرفة لدى المسلمين من سلطان وجبروت الفكر اللاهوتي الطاغوتي. فالحضارة الإسلامية استطاعت أن تضع أسسا ذاتية كانت سببا منذ البداية في عملية الإقلاع الفكري الذي أثبت كفاءته ومقدرته وأصالته منذ أن بدأ وحتى وقت متأخر جدا من القرون الوسطى،وحسب المستشرقة (ريجرد هونكه) هذا هو الأمر الذي "جعل المؤلفات الإسلامية مصدرا غنيا بالمعرفة التي لم يستغن عنها في الأوساط الأكاديمية والمدرسية الغربية أو تعويضه ببدائل حتى مطلع القرن السابع عشر". ولعل الفضل في ذلك راجع حسب هذه المستشرقة،إلى المبدئ والأصول العامة التي أرساها علماء المسلمين،وضربت لذلك أمثلة كثيرة يأتي في مقدمتها المقولة الشهيرة :"الشك هو الشرط السابق للمعرفة". لقد كان من ثمرة حث الإسلام على العلم والإستفادة من الطبيعة إذكاء شعلة البحث والتأمل والنظر وكانت سببا في خلق شخصيات علمية أقبلت على دراسة الطبيعة. وقد قررت المستشرقة الألمانية "ريجرد" رأيا تقدميا حين قالت إن العبادات في الإسلام من صلاة وصيام ...قادت بالضرورة إلى التعرف والإنفتاح على مظاهر الطبيعة وإيلاءها العناية لتحديد المواقيت،وهذا بدوره أدى إلى اختراع الأدوات التي تعين على تحديد الإتجاهات من أجل تحديد القبلة ومنازل الشمس والقمر،وقاد ذلك إلى إنجاز عظيم وهو "الإصطرلاب" والذي يعد بحق أحد المعجزات العلمية. أما التسامح الذي عرف به المسلمون فمكنهم من التعرف على حضارات أخرى والتلاقح معها والإستفادة منها بعيدا عن عقلية التكفير وكان شعارهم الذي رفعوه :" خذ الحكمة من أي وعاء " و" الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها". أما اللغة العربية فلها خواص أشادت بها المستشرقة الألمانية التي ترى أنها تفضل اللغات الأوربية بخاصية الإشتقاق مما يجعلها صالحة لمواكبة التطور العلمي،واللغات الأوربية نفسها اقترضت ألفاظا من العربية، وهي ترى أن صعود المسلمين ثانية رهين بعودتهم إلى دينهم في كتابها :(العقيدة والعلم)! فلاغرابة أن يقال إن المسلمين كانوا سبب النهضة الأوربية..لكن الأوربيين طمسوا حقيقة استفادتهم من المسلمين ! لاشك أن الإسلام حث على العلم وحث على جلب المصالح ودرء المفاسد حتى قال الفقهاء "أينما وجدت المصلحة فثم شرع الله" وهو قول صحيح لأن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد كما قال الشاطبي في الموافقات، بل إن العلوم الشرعية أكثر إنسانية من العلوم الإنسانية ! وذلك يظهر من المقارنة بين منهجتي كل منهما-وأرجو الله سبحانه أن يوفقني لكتابة مقال حول ذلك- لكن مالذي حصل؟ لماذا نرى المسلمين في تدهور وتخلف علمي رغم حث الإسلام على العلم ؟! في حين أن الغربيين تقدموا في ميدان العلوم التطبيقية ! إن بلاد المسلمين منذ القدم شهدت حروبا عدوانية من الغربيين، مادية ومعنوية، بدءا بالحروب الصليبة وحملات الغزو الفكري لغالبية المستشرقين الذين كانت لهم دوافع سياسية ودينية والذين يتلخص منهجهم في التحريف والتزوير والإفتراء فيما يخص التراث الإسلامي،ومرورا بحملات الإستعمار التي شهدها العالم الإسلامي وأفرزت سقوط الخلافة العثمانية وتقسيم الكعكة بين الأوربيين وكذا ما صاحبها من غزو فكري يستهدف العقيدة الإسلامية في النفوس وهنا أذكر تدخل المستعمر في المؤسسات الدينية كالأزهر وتنصيب مبهورين ومستلبين فيها تأثروا بالمنهج المادي ففسروا به دينهم تحث ذريعة الإصلاح الديني،وكذا زرع حركات مشوهة يراد منها تمزيق الإسلام وتشجيع التخريف وتمويله كالبهائية والقاديانية والطرق الصوفية المنحرفة وغلاة الشيعة وجعلها بمثابة متاريس أمام حركة محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية والتي أطلق عليها خصومها "وهابية" وتشجيع مواسم الموتى المسمون في الثقافة الشعبية ب "الأولياء" وانتهاء بغرس الورم الصهيوني في جسد الأمة الإسلامية والمشروع الصهيوني في تعميق انقسامات الأمة والذي عبر عنه "برنارد لويس" في مخططه الشهير الذي يروم إثارة النزعات العرقية والنعرات الإثنية بين الشعوب الإسلامية لترتاح إسرائيل وتطمئن ! هذا فضلا عن المحاربة والإساءة العلنية للإسلام والمسلمين بل وشن حروب مادية عليهم في زمن ما بعد حقوق الإنسان المزعومة ! والغزو الفكري الذي لم يتوقف ومخططات فصل المسلمين عن هويتهم وجعلهم تابعين للغرب ثقافيا وحضاريا بين تيارين : الأنجلوسكسوني في الشرق والفرنكفوني في المغرب العربي ! وتقويض اللغة العربية وإهانتها وإهمالها،ما جعل أي وصف ينتقص من شأنها ينطلي على من شكلهم الغرب بسهولة وجعل منهم عملاء يخدمون مخططاته إن بوعي أو بغير وعي،شعوريا أولا شعوريا ! هذا في الوقت الذي يتهافت فيه الغربيون أنفسهم على تعلم اللغة العربية ! أما "العرب" فأهملوها وأهانوها والأقليات بينهم يتجهون لإحياء لغات ميتة لاقيمة لها على المستوى العلمي والفكري والتاريخي! نضيف لذلك كله سعي المستعمر منذ احتلاله لبقاع العالم الإسلامي سعيه لإقصاء الإسلام عن تسيير الشأن العام وتقويض منظومته السياسية والقانونية وجعله مجرد طقوس واعتقادات على أن يتم استهدافها في ما بعد ! ويوضح هذه الحقيقة –على سبيل المثال- المستشرق الإنجليزي المعروف (جب) في كتابه : "wheither Islam " "إلى أين يتجه الإسلام" حيث قال :" لقد استطاع النشاط التعليمي والثقافي عن طريق المدارس العصرية والصحافة وتعليماتنا الخاصة أن يترك المسلمين – ولو من غير وعي منهم – أثرا جعلهم يبدون في مظهرهم العام لادينيين إلى حد بعيد،ولاريب أن ذلك هو اللب المثمر في كل ماتركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار.فالواقع أن الإسلام كعقيدة وإن لم يفقد إلا قليلا من أهميته وسلطانه ،ولكن الإسلام كقوة مسيطرة على الحياة الإجتماعية قد فقد مكانه"!. لاشك أيضا أن مغادرة الإستعمار للمستعمرات المتفرقة إلى أقطار وجنسيات بعد أن كانت قطرا واحدا موحدا ورابطة واحدة، خلف تبعية سياسية واقتصادية وثقافية وأقصي الدين تماما من الساحة وحتى العقيدة لم يعد لها ذلك السلطان في صفوف كثير من المسلمين في العالم العربي، فأصبح المسلمون العرب في أغلبيتهم مجرد رسوم خالية من القيم الإسلامية والمعاني الربانية،زد على هذا تأزم الخطاب الدعوي وبرجيته وتقويض الخطاب الإسلامي المتزن الذي ينزل عند واقع الناس وهمومهم..وعموما لم تتح للإسلام فرصة للعودة من جديد إلى تسيير الشأن العام منذ سقوط الخلافة العثمانية فهو برئ من التخلف الذي أصاب المسلمين اليوم وإنما سببه يرتبط بما سبق وبآفة التقليد للغرب من قبل المنبهر والمستلب والذي أتيحت له بسبب الظروف التاريخية أن يدير عجلة الشأن العام بعيدا بعيدا عن آمال المجتمع وتطلعاته ..والطامة الكبرى هي أن علاقة الإسلام بالسياسة هي علاقة استتباع ! أجل صارت السياسة تبرر انحرافها عن منهج الله بلغة دينية ! كما تبرر انحرافها عن الديموقراطية بلغة الديموقراطية ! وهذه الممارسة في الحقيقة أراها تتعدى الممارسة العلمانية ! [email protected]