كان من الطبيعي أن يخرج الجنوبيون في الشمال السوداني إلى الشوارع ابتهاجاً بتوقيع اتفاق السلام بين حكومة الإنقاذ وجون جارانج، في الوقت الذي كان الشماليون حائرون في التعبير عن مشاعرهم؛ أيحتفلون بنهاية الحرب ونزف الدماء أم يحزنون على الخاتمة المرة التي ستحمل جارانج إلى الخرطوم نائباً للرئيس وشريكاً في الحكم وقراراته الرئيسة، فيما هو ملك متوج على الجنوب وله نصف عائدات النفط في البلاد!! ليس ذلك هو كل شيء في سياق توصيف البؤس الذي يحمله اتفاق نايفاشا الذي وقع بأحرفه الأولى في اليوم الأخير من العام المنصرم، ففي نهاية الفترة الانتقالية التي ستستمر 6 سنوات سيكون بوسع الجنوبيين أن يستمروا في الوحدة مع الشمال أو يقرروا الانفصال بناءً على المعطيات التي ستكون قد ظهرت بين أيديهم، الأمر الذي يعني أن قرار الوحدة والانفصال هو بيدهم لا بيد الشمال، وإذا شئنا الدقة فهو بيد جارانج الذي يمكنه رغم وجود معارضة له في الجنوب أن يحدد وجهة الاستفتاء على خيار تقرير المصير، اللهم إلا إذا اعتقد قادة الإنقاذ أن بوسعهم أن يقدموا للرجل ما يغريه باستمرار دولة الوحدة. ويبقى من الضروري الإشارة هنا إلى أن الترتيبات التي ينص عليها الاتفاق توفر للرجل فرصة إعلان الانفصال في أي وقت يشاء ومن دون انتظار نهاية السنوات الست التي تشكل الفترة الانتقالية. ولكن لماذا قبل قادة الإنقاذ بهذا الاتفاق البائس الذي لا يبدو من الصعب القول إنه يشكل انتصاراً مدوياً لمشروع جارانج الذي طالما حدثونا عن كونه جزءً لا يتجزأ من المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة العربية والإفريقية؟ واقع الحال هو أن ما دفعهم لفعل ذلك هو عقدة البقاء في السلطة بأي ثمن كان، وحتى لا يضطروا إلى اقتسامها مع فرقاء الشمال بمن فيهم شركاء أو اخوة الأمس بزعامة شيخ المشروع (مشروع الإنقاذ) الدكتور حسن الترابي. لقد فضلوا ما جرى على توافق مع اخوة الأمس والقوى الشمالية، لسبب بسيط هو أن توافقاً كهذا لم يكن ليتم من دون اقتسام السلطة مع أولئك جميعاً، فكان أن فضلوا اقتسام البلاد بعد تدفق نفطها مع عدو الأمس على أن يقتسموها مع القوى الشمالية ويدخلوا بعد ذلك قاعة المفاوضات مع الجنوب بشمال موحد وقادر على أن يحقق اتفاقاً معقولاً يحفظ على البلاد وحدتها ويمنح الجنوبيين حقهم في العيش الكريم ضمن سودان موحد. لم يحدث شيء من ذلك فكان من الطبيعي أن تكون أوضاعهم هشة إلى حد لا يمنحهم القدرة على مقاومة الضغوط التي مالت طوال الوقت لصالح جارانج، لا سيما في ظل السطوة الأمريكية على الوضع الدولي والعربي، وقد جاءت قضية دارفور لتساهم بدورها في مزيد من التراجع، مع بقائها أداة ابتزاز لقيادة الإنقاذ لأغراض التنازلات المقبلة. والنتيجة هي هذا الاتفاق الذي وقع، فيما سيوقع في احتفال مهيب بعد أيام. قد يقال إن فرصة نجاح لعبة الإنقاذ واستمرار الوحدة الطوعية تبقى واردة، وهو قول لا يبدو واقعياً، ليس لأن مشروع الإنقاذ الأصلي القائم على الإسلام سيكون قد انتهى فحسب، بل لأن جارانج لن يحافظ على الوحدة إلا إذا منحته ما هو أكثر من الانفصال، اللهم إلا إذا اعتقد قادة الإنقاذ أن هداية الله ستنزل عليه وتلهمه استمرار الشراكة معهم!! قد يقال أيضاً إن القوم ربما انتظروا ظرفاً أفضل لتغيير روحية الإجحاف في الاتفاق بعد انفراج الوضع الدولي، وهو قول ربما حمل شيئاً من المنطق، لكنه يبقى في حاجة إلى وحدة شمالية ودعم عربي، فيما لن يغير ذلك من حقيقة أن انتظاره هو ضرب من ضروب المقامرة، وهي مقامرة لا يبدو أن قادة الإنقاذ يرفضونها، ما دام البديل هو التخلي عن السلطة أو جزء كبير منها من أجل المحافظة على عروبة السودان وإسلامه!!