"والله العظيم .. والله العظيم .. والله العظيم، لن نسلم مواطناً للمحاكمة خارج البلاد". تلك كانت كلمات الرئيس السوداني عمر البشير في سياق الرد على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1593، القاضي بإحالة المتهمين بارتكاب جرائم الحرب في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وهو الرد الذي أتبع بالدعوة إلى التعبئة العامة وفتح مراكز التدريب. من المؤكد أن أحداً لم يأخذ ما قاله الرئيس السوداني على محمل الجد، فيما لم يكن بوسع المئات من الطلبة الذين حشدهم الحزب الحاكم أمام القصر الرئاسي أن يقنعوا أحداً بأن الخرطوم في صدد مواجهة المجتمع الدولي بشأن القرار المشار إليه. لقد مضت تلك الأيام التي كان بوسع نظام الإنقاذ أن يحشد فيها مئات الآلاف من الجماهير كي يخطب فيهم الرئيس السوداني وهو يتلاعب بعصاه، وإلى جانبه الشيخ الترابي بابتسامته الساحرة المعروفة، فقد غاب الشيخ خلف القضبان، ومعه غاب تلاميذه الذي آمنوا بمشروعه واستشهد كثير منهم دفاعاً عنه في حرب الجنوب، فيما لم يبق للسلطة غير المنتفعين بها، وهؤلاء في كل التجارب المشابهة كثيرون عند الأخذ قليلون عند العطاء. مقابل حالة التوتر والارتباك في عاصمة الإنقاذ كانت القوى المعارضة، وعلى رأسها تجمع جارانج يسنون أسنانهم من أجل "الزحف نحو الخرطوم"، بحسب تعبير بعضهم، مطالبين بحكومة انتقالية يرأسها جارانج كي تملأ الفراغ الدستوري المرتقب، والخلاصة هي تعاملهم مع الوضع كما لو كان نظام الإنقاذ قد تهاوى بالفعل وغدا السؤال الجوهري هو ذلك المتعلق باليوم التالي بعده. هكذا يتخلى جارانج عن حلفائه الذين وقّع معهم اتفاق السلام واقتسم معهم السلطة والثروة، فيما فضل عليهم حلفاء آخرين لن يوجعوا رأسه بحكايات العروبة والإسلام والشمال والجنوب، بل سيقبلون طواعية بمشروعه للسودان الجديد الذي لا صلة له بالتراث العربي والإسلامي، بقدر ما هو نظام علماني كامل بهوية إفريقية الملامح، أمريكية الولاء. الاحتمالات الأخرى التي رآها زعيم حزب الأمة الصادق المهدي للوضع الجديد كانت أربعة؛ انقلاب عسكري في البلاد، انتفاضة شعبية، تدخل أجنبي يمسك بزمام الأمور في البلاد، أو عقد مؤتمر قومي للتعامل بجدية مع القضايا المطروحة". وفيما فضل المهدي الخيار الأخير، الأمر الذي سانده حزب المؤتمر الشعبي بزعامة الترابي، فإن من الصعب القول أن مسيرة تغييب العقل التي رافقت حركة النظام خلال الأعوام الأخيرة يمكن أن تبشر بمسار من هذا النوع، لاسيما وهو مسار لا يبدو قادراً على الحيلولة دون وضع العديد من قادة الدولة أمام المحكمة الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور، والأسوأ أن أحداً لا يمكنه التكهن بمن سيوضع على أجندة تلك المحاكمات. من المؤكد أننا نتمنى مساراً كهذا ينقذ البلد من الأمركة وربما الصهينة، لكن محدودية احتمال المضي فيه من قبل نظام الإنقاذ تدفعنا إلى ترجيح، وأقله تفضيل خيار الانقلاب العسكري كما ذهبنا في مقال سابق. وفيما يتهيأ أنصار جارانج ومن تحالف معهم من متمردي دارفور والمناطق المهمشة الأخرى للزحف نحو الخرطوم، فإن الأفضل هو الزحف من داخلها وما حولها بانقلاب عسكري يشبه إلى حد كبير انقلاب الإنقاذ عام 1989، مع ضرورة أن تتشكل حكومة الإنقاذ التالية من تحالف قوى الشمال جميعاً برئاسة الصادق المهدي نفسه، ولتبدأ بعد ذلك مسيرة مفاوضات جديدة أكثر عدلاً بشأن السلام في الجنوب ودارفور. لا بد من ذلك، ولو كانت القاهرة بعافيتها لما كان منها غير ترتيب طبخة من هذا النوع، لكن هذه الأخيرة في حالة تراجع تعيش أزمة داخلية عنوانها التمديد والتوريث ورفض الإصلاح، مع أننا نتمنى أن يحدث شيء من ذلك مستندين إلى أن في مصر مؤسسة عسكرية من المؤكد أنها تدرك مخاطر ما يحدث في السودان على الأمن القومي المصري.