دائمًا يبقى لشهر رمضان مذاقه الذي يميزه عن باقي الشهور، فيجعل القلوب تشتاق إليه، والنفوس تهفو عليه، والأفئدة تتطلع إليه، فالكل يترقب قدوم رمضان، ويعدُّ الأيام ابتهاجًا بقدومه؛ فماذا في رمضان ليس في غيره من الشهور؟ حتى يظفر بهذا الشغف، وذاك الانتظار!. لا شك أننا لو أردنا أن نعدِّد فضائل رمضان فسوف يطول بنا المقام، وربما نجد أنفسنا في روضة من الفضائل لا حد لها، وهذه الفضائل تكفي لأن يحظى رمضان بتلك المشاعر الإيمانية والروحية لدى كل المسلمين، فهو شهر تتنزل فيه الرحمات، وشهر استجابة الدعاء، وشهر رفع الدرجات ومحو السيئات، وشهر المباهاة، وشهر المواساة، وشهر التراحم. لكن أبرز ما في رمضان أنه شهر القرآن ؟شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ؟ (البقرة: من الآية 185)، وهذه الآية تستدعي منا وقفات تلو الوقفات؛ فما القرآن؟ سؤال يحتاج أن نبحث عن إجابته في نفوسنا، قبل أن نبحث عنها في الكتب، أو نسأل عنها العلماء، وبصيغة أخرى؛ ماذا يعني القرآن الكريم لكل مسلم؟ ما قيمة القرآن عند كل مسلم؟ ما التصور الحقيقي للقرآن؟ هل حروف يردِّدها اللسان؟ أم نغم تتمايل له الآذان؟ أم ختمات نتسابق على إحراز أكبر عدد منها في رمضان؟ من المؤسف أن هذا حال الكثيرين منا في رمضان، وقليلاً ما نلتفت للإجابة الحقيقية لهذا السؤال الذي طرحناه، ما القرآن؟ ما مهمة القرآن في حياتنا؟ القرآن كما يعرِّفه صاحب الظلال- عليه سحائب الرحمة-: هو كتاب الأمة الخالد، ودستورها الراشد، أخرجها من الظلمات إلى النور، فأنشأها هذه النشأة، وبدَّلها من خوفها أمنًا، ومكَّن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة، ولم تكن من قبل شيئًا، إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين (رواه مسلم). وإذا استعرضنا آيات القرآن وهي تتحدث عن القرآن فسنجد تلك المعاني واضحة جلية، ومن ثم أصبح من الواجب على مسلمي العصر، أن يراجعوا أنفسهم في تعاملهم مع القرآن، فالقرآن كتاب هداية للناس، كل الناس ؟هُدًى لِلنَّاسِ؟، هداية للمتقين ؟هُدًى لِلْمُتَّقِينَ؟ (البقرة: من الآية 2)، يهدي للتي هي أقوم ؟إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ؟ (الإسراء: من الآية 9)، روح تحيي القلوب والأجسام، ونور يضيء الطريق للجوارح والأبدان ؟وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)؟ (الشورى)، في ظلال هذه المعاني ينبغي أن تكون الحياة مع القرآن انطلاقًا من شهر رمضان، والحياة مع معانيه؛ أكثر من الانشغال بمبانيه، وتدبر آياته أعمق من ترديد كلماته، والعمل بتعاليمه أكثر شغلاً واهتمامًا من عدد ختماته، فرب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه، وكم من قارئ للقرآن لا يتجاوز حناجره، ولا يرفع عن رأسه قدر أنملة، كم من أمر في القرآن تلوناه ولم نأته، وكم من نهي في القرآن تلوناه ونأتيه، إننا بحاجة لأن نحسن تعاملنا مع القرآن بالقدر الذي يليق بمكانة القرآن، الذي جعل من رعاة البقر والغنم قادة وسادة للأمم، ومن عبدة الأصنام هداة على مر الزمان؛ لنسعد في دنيانا، ونفوز بأعظم حظوظ الآخرة. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: من قرأ القرآن وعمل بما فيه أُلبس والديه تاجًا يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم؛ فما ظنكم بالذي عمل بهذا (رواه أبو داود). ويقول صلى الله عليه وسلم: من قرأ القرآن، واستظهره، فأحلَّ حلاله وحرَّم حرامه؛ أدخله الله به الجنة، وشفَّعه في عشرة من أهل بيته كلهم وجبت لهم النار (رواه الترمذي). وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهلَه الذين كانوا يعملون به في الدنيا تَقدُمُهُ سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما (رواه مسلم). والفرصة لتحقيق هذه المنازل في رمضان سانحة؛ فليكن رمضان بداية الانطلاقة نحو حياة أفضل، عنوانها: يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فاللهم اجعلنا ممن يقيم حروفه وحدوده، ولا تجعلنا ممن يقيم حروفه ويضيع حدوده.