إن تقلب الأيام ودوران الشهور فرص للتأمل ووقفات للنظر، فرص ووقفات تحتاجها الأمم والأفراد لتنظر في أحوالها، وتتفكر في شؤونها، فتسعى إلى إصلاح ما فسد من أوضاعها، وتُجدد ما ضعف من مقوماتها، وتعالجَ ما اختل من شؤونها وموازينها، فرب لحظات تكون فاصلة في تاريخ الفرد والجماعة، ومفتاحاً لمستقبل مشرق وخير عميم، وصدق الله العظيم إذ يقول:(وتلك الأيام نداولها بين الناس). ما هي إذن إلا أيام قلائل، حتى تكتمل دورة الفلك، ويُهِلَّ على الدنيا هلال الضيف الكريم، الذي تهفو إليه نفوس المومنين، وتتطلع شوقا لبلوغه، لتنتظم في مدرسته التي تفتح أبوابها في كل عام، لتستقبل أفواج الصائمين في كل أرجاء المعمور.إن مدرسة رمضان، تأتي لتعيد للقلوب صفاءها وللنفوس إشراقها، وللضمائر نقاءها، يجول رمضان في أرجاء النفس، فيغرس بذور الخير والصلاح، خاصة وأننا في عصر ينشد المتاع من ألف وجه، فلنلو الزمام إلى الباقيات الصالحات، قال تعالى(والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا)، كنا نودع شهر رمضان الماضي، وكأن صفحاته قد طويت قبل أيام. واليوم يستقبله العالم الإسلامي بعد مرور عام بأيامه ولياليه، مضى عام وذهبت لذته، وبقيت تبعاته، نسيت أفراحه وأتراحه، وبقيت حسناته وسيئاته. نعم ستنقضي الدنيا بأفراحها وأحزانها، وتنتهي الأعمار على طولها وقصرها، ويعود الناس إلى ربهم بعد ما أمضوا فترة الامتحان على ظهر الأرض(كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة)، ثم تصبح الدنيا ذكريات، وفينا من ينتظر رمضان بعد يومين أو ثلاث على أمل، ولا يدري هل يباغته قبل ذلك الأجل(وما تدري نفس ما ذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت). إن بلوغ شهر رمضان نعمة عظيمة، ومنة جسيمة على من أقدره الله عليه، فاللهم سلمنا إلى رمضان وسلم لنا رمضان، وتسلمه منا متقبلا يارحمان. فهذا أشرف الشهور قد اقترب، نبشركم كما كان رسول الأمة محمد صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه فيقول:أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تُفْتح فيه أبواب السماء، وتُغْلَق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر،من حرم خيرها فقد حرم، كيف لا يبشَّر المؤمن بشهر يَفتح اللهُ فيه أبواب الجنة؟ كيف لا يبشَر المذنب بشهر يُغلِق الله فيه أبواب النار؟ كيف لا يبشَر العاقل بوقت يُصفِّد الله فيه الشياطين؟ شهر لا تحصى فضائله، ولا يحاط بفوائده، لقد كان رمضان غرة في جبين تاريخ أمتنا كل عام.وربما يتبادر إلى ذهن كل واحد منا سؤال وجيه:كيف يستقبل هذا الوافد القريب؟ ما هي أفضل الحالات التي يجب أن يلقى عليها هذا الوافد الإنسان المسلم؟ إن شهر رمضان، أيها الأحبة، يُستقبل بتهيئة القلوب، وتصفية النفوس، وتطهير الأموال، والتفرغ من زحام الحياة، أعظم مطلب في هذا الشهر:إصلاح القلوب، فالقلب الذي ما زال مقيما على المعصية يفوت خيرا عظيما، فرمضان هو شهر المغفرة وشهر الصدقة وشهرالقرآن، والقلوب هي أوعية القرآن ومستقر الإيمان، فكيف بوعاء لُوِّث بالآثام، كيف يتأثر بالقرآن؟ قال الحسن البصري رحمه الله:لو طُهِّرت قلوبكم ما شبعت من كلام الله. فاغتنم أيها المسلم الكريم فرصة رمضان:قدم بين يدي رمضان توبة صادقة، تُصْلِح القلب، وتجلب الرحمات والخيرات، واعلم أن شهر رمضان هو شهر المغفرة والتجاوز عن الخطيئة.والشحناءُ والقطيعة من موانع المغفرة الشديدة، لذا يستقبل هذا الشهر الكريم، بتهيئة النفوس، وتنقيتها من الضغائن والأحقاد، التي خلخلت العرى، وأنهكت القوى،ومزقت المسلمين شر ممزق. ومن حكم رمضان أن يتفاعل المسلم مع إخوانه في شتى البقاع، ويتجاوب مع نداءات الفقراء والضعفاء، متجاوزا بمشاعره كل الفواصل، متسلقا بمبادئه كل الحواجز، يتألم لآلامهم، يحزن لأحزانهم، يشعر بفقرائهم، مبتدئا بالموالاة والمواساة من بيته وموطنه ولإخوانه من بني جلدته، يستقبل رمضان بنفس معطاءة، ويد بالخير فياضة، ويبسط يده بالصدقة والإنفاق. إن شهر رمضان هو شهر النفحات والرحمات والدعوات.والمالُ الحرام سبب البلاء في الدنيا ويوم الجزاء، لا يستجاب معه الدعاء، ولا تفتح له أبواب السماء، لذا يستقبل رمضان بتطهير الأموال من الحرام، فما أفظعها من حسرة وندامة، أن تلهج الألسن بالدعاء ولا استجابة،وربنا تبارك وتعالى يقول(وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) فانظر أيها المسلم في نفسك جيدا، وابحث في بيتك، وادخل يدك في جيبك، وتطهر من كل مال حرام ليس من مالك،حتى تقف بين يدي الله بقلب خاشع ومال طاهر، ودعاء صادق يصعد في الفضاء، وتفتح له أبواب السماء. إن الذين يستقبلون رمضان على أنه مدرسة لتقوية الإيمان، وتهذيبِ الخلق، وتقويةِ الإرادة هم الذين يستفيدون منه، فيجدون في نهاره لذة الصابرين، ويجدون في مسائه وفي ليله لذة المناجاة في ساعاتها الغالية، هم الذين تفتح لهم أبواب الجنان في رمضان، وتغلق عنهم أبواب النيران، وتتلقاهم الملائكة ليلة القدر بالبشر والسلام. هؤلاء هم الذين ينسلخ عنهم رمضان مغفورا لهم، مكفرةً عنهم سيئاتهم، مجلوةً قلوبهم، مجدَّدةً بقوة الإيمان عزائمهم، قد مسح الصيام عن جبينهم وعثاء الحياة، وأزال عن أجسامهم غبار المادة، وأبعد عن بطونهم ضرر التخمة، ومحا عن إرادتهم الوهن والتردد، ودفع عن أنفسهم الحيرة والفتور، وغذى إيمانَهم بالقوة والنور. أخرج الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة،يقول الصيام:أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن:منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال:فيُشَفّعان). إن أسلافنا رحمهم الله جنوا ثمار هذا الوافد الجديد علينا، حيث كان نهارهم نشاطا وإنتاجا وإتقانا، وكان ليلهم تزاورا وتهجدا وقرآنا، وكان شهرهم كله تعلما وتعبدا وإحسانا، ألسنتهم صائمة، فلا تلغوا برفث أو جهل، وعيونهم صائمة، فلا تنظر إلى حرام أو فحش، وقلوبهم صائمة،فلا تعزم على خطيئة أو إثم، وأيديهم صائمة، فلا تمتد بسوء أو أذى. أما المسلمون اليوم، فمنهم من اقتدى بأولئك السلف الصالح، فاتخذوا رمضان موسما لطاعة الله ومضاعفة الخيرات، صاموا نهاره، فأحسنوا الصيام، وقاموا ليله فأحسنوا القيام، ومنهم من لم ينتفع برمضان، فلم يستفد مما فيه من صيام وقيام، جعله الله تعالى للقلب والروح، فجعلوه للبطن والمعدة، جعله الله للحلم والصبر، فجعلوه للغضب والبطش، جعله الله للسكينة والوقار، فجعلوه شهر السباب والشجار.جعله الله تعالى ليغيروا فيه من صفات أنفسهم، فما غيروا إلا مواعيد أكلهم وشربهم وشهواتهم،جعله الله تعالى تهذيبا للغني الطاعم، ومواساة للبائس المحروم، فجعلوه معرضا لفنون الأطعمة والأشربة، يزداد الغني فيه تخمة والفقيُر حسرة. وختاما أسوق لكم بشرى رسول البشرية جمعاء محمد صلى الله عليه وسلم، للذي صام يوما في سبيل الله، والذي قال فيه:من صام يوما في سبيل الله بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفا، فما بالكم بصوم شهر رمضان كله، فحري بالمؤمن أن يستعد لهذا الوافد الجديد بما يستحقه من التوبة والإنابة، لعل الله أن يبلغه إياه، ويتقبل منه ليكون من الفائزين بالجائزة يوم توزع الجوائز.