يأتي رمضان، ثم يقفل عائدا، تاركا قلوبا محزونة لفراقه، وعيونا دامعة... بعدما يملأ بعبقه ونورانيته حياة المسلمين... يقفل عائدا بعدما هذب الكثير من النفوس وأزال عنها غشاوتها وردها إلى الله ردا جميلا... يقفل عائدا وقد وثق الروابط، وألف بين القلوب وقرب المسافات، فكم من بيت جميل زاده رمضان جمالا، وكم من بيت كان يعيش لحظات هروب وغفلة استغل أهله حلول رمضان ليغدو بيتا هادئا ملتزما تجمع بين أفراده المحبة وروح التعاون والسكينة والوداعة... وكيف لا ورمضان شهر خصه الله تعالى بخصائص جمة، جعلت من قبلنا يذرفون الدموع لوداعه، ويستعدون أشهرا لاستقباله، فهو شهر الرحمة والخير والإيمان والغفران، نستطلع في ما يلي آراء بعض الأزواج والزوجات حول مدى استفادتهم من نفحات هذا الشهر، وكيف استغلوا نورانيته في التقريب بين قلوبهم. يا ليت الدهر كله رمضان تمنيت لو أن الدهر كله رمضان، بهذه الكلمات، تستفتح (ا ا) حديثها وهي مزهوة بنسمات هذا الشهر التي أحالت بيتها إلى جنة. تقول (ا ا) رمضان هذه السنة، من أجمل أشهر رمضان التي قضيتها في حياتي، سواء من حيث الأجواء في البيت أو أجواء التعبد، فالنسبة للأجواء في البيت تضيف (ا ا)، لم أشعر أنني مثقلة بأعباء المنزل، رغم أنني موظفة، لأن زوجي كان يقوم بمساعدتي، أما بالنسبة للأجواء التعبدية، فقد حرصت أنا وزجي قبل بداية شهر رمضان على وضع خطة من أجل حسن استغلال أوقات هذا الشهر الثمينة، فاقتصرنا في مشاهدتنا لبرامج التلفزة على مشاهدة الأخبار وبعض البرامج الدينية، وطيلة رمضان، لم نشغل أنفسنا لا بمشاهدة المسلسلات ولا الأفلام ولا غيرها من البرامج الأخرى، مما وفر لنا الكثير من الوقت للصلاة وقراءة القرآن، الذي حرصنا على ختمه أنا وزوجي أكثر من مرة ولله الحمد، إضافة إلى القيام ببعض الأشغال التي تتعلق بالعمل وتسترسل (ا ا) في ذكر جوانب أخرى من الأجواء الربانية التي فتح الله بها عليها وعلى زوجها خلال هذا الشهر فتقول: لقد حرص زوجي أكثر مني على أن يكون رمضان لهذا العام متميزا، فكان يدعوني إلى كثرة الصدقة، والحمد لله تبرعنا قدر المستطاع بمبلغ من المال لإتمام بناء مسجد الحي، باعتبارها صدقة جارية، إضافة إلى خفض الجناح والرفق من جهته، ورغم انشغالاته بعمله الذي يستغرق أغلب وقته، ويثنيه عن مشاركة زوجته وابنه في الأنشطة الدعوية والثقافية خلال رمضان، إلا أن ع ل (موظف) أكد حرصه وزوجته على الاستيقاظ للسحور وصلاة الفجر، وقراءة ما تيسر من القرآن، واستغلال بعض الفرص لدعوة من يحضر معهم الإفطار، آملا أن يعينه الله على الاحتفاظ بتلك المكتسبات التي طبعت سلوكه وسلوك زوجته خلال هذا الشهر شهر يعطيك بقدر ما تمنحه من وقتك يؤكد (لحبيب ج) موظف أن الشهر الفضيل، يعطيك بقدر ما تمكنه أنت من وقتك. فيقول الحمد لله، لقد حاولت وزوجتي أن يكون هذا الشهر أحسن من سابقيه على مستوى العبادات والمعاملات على حد سواء، وكانت لدروس العلماء التي تبثها بعض الفضائيات العربية كبير الأثر في التأثير على طريقة تعامل الكثيرين مع الشهر الفضيل، وبالضبط هذا العام. وحتى الوقت الحاضر لم ألاحظ تغيرا كبيرا على سلوكي، بل أعتقد جازما أن ملاحظة أي تغير ستكون بعد نهاية الشهر المبارك، إذ أن الثبات من عدمه على قراءة القرآن، وعلى قيام الليل، وعلى صيام النافلة، وعلى العديد من الشعائر التعبدية الأخرى، هو الذي سيحكم وسيحدد أي تغير من الله به علي في شهر رمضان العظيم. ويضيف لحبيب: الأمر سيان بالنسبة لزوجتي، غير أني لاحظت أنها عملت بجد خلال هذا الشهر، وأبدت اهتماما كبيرا بشؤون المنزل رغم مشاغلها الكثيرة، وبدوري أبديت حماسا كبيرا في مساعدتها في الأمور المنزلية بشكل لم أعهده من قبل، وإن لم أجد وقتا لذلك، لا أرهق كاهلها بكثرة الطلبات، فوجبة إفطارنا تكون متنوعة لكنها بسيطة، كما أنني في كثير من الأحيان، كنت أطلب منها أن تحضر وجبة واحدة بكمية كبيرة تكفي ليومين أو ثلاث، حتى تجد وقتا للراحة والعبادة، على اعتبار أن رمضان لم يشرع للاستجابة لشهوة البطن وإنما للعبادة، من جهة أخرى، لاحظت نقصا كبيرا في الشوائب التي كانت تعكر صفو علاقتنا، والأكيد أن هذا من بركات رمضان المعظم. غير أني أعود فأؤكد أن الثبات بعد رمضان على الشعائر التعبدية التي تقرب من الله تبارك وتعالى، هو الذي سيحكم هل تغير في الإنسان شيء في هذا الشهر أم لا. رمضان حارب في نفسي الكبر ترى (ح ش) أنه إن كان لرمضان هذا العام من حسنات عليها، وما أكثرها، فهي أنها تعلمت خصلة مهمة في إطار علاقتها بزوجها، وتبين ذلك قائلة: قبل رمضان كانت تقع بيني وبين زوجي الكثير من المشاكل التي ربما لو لم تحل في وقتها لآلت بنا إلى أزمات، لكن زوجي كان دائما يبادر إلى إصلاح الوضع، فيبادر بالكلام معي وصلحي ولو كنت المخطئة، ومع بداية رمضان، نشب بيننا خلاف، فبادرت إلى طلب العفو، رغم أن ذلك ليس من شيمي، والحمد لله صمنا أول يوم من رمضان في جو من الحب والإيمان، ثم حرصت على أن أكون المبادرة بالإصلاح تقريبا كلما وقع مشكل بيني وبين زوجي طيلة رمضان، حتى أفوز بالأجر، وبهذا خلصني رمضان من الكبر الذي كاد في كثير من الأحيان أن يدمر أسرتي. رمضان كسر عادات زوجي من جهتها ترى (فاطمة د) أنه من الأشياء الجميلة التي أثلجت صدرها خلال هذا الشهر الفضيل، هو حرص زوجها على أداء صلاة الفجر في وقتها، وانقطاعه عن مشاهدة الأفلام التي كان شبه مدمن عليها خلال أيامه العادية، وكذا إقباله على قراءة القرآن وغيرها من العبادات، أما بخصوص علاقته معها فتضيف: لقد قلت نسبة المشاجرات التي كانت تحدث بيننا، حرصا من كلانا على أن نستجيب للحديث الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل...، لكن ما يخيف حقا هو إذا كان رمضان بما حباه الله به من فضائل وما رصده للعاملين فيه من أجر، يجعل الإنسان يقبل على كل الأعمال التي من شأنها أن ترفع درجاته عند الله، وتجعله ممن صام رمضان إيمانا واحتسابا، فماذا بعد رمضان؟ ماذا عن بقية شهور السنة؟ فأرجو من الله أن يثبتني وزوجي على صراطه المستقيم سأجعل العام كله رمضان استعد (أحمد) وزوجته قبل قدوم شهر الصيام، بصيام بعض الأيام من رجب وشعبان، وحرصا على الصلاة في وقتها، خاصة صلاة الصبح، باتفاق بينهما، كما حرصا على أن يكون شهر رمضان، شهر التغلب على النفس وما تشتهيه من ملذات وأنواع الطعام، ليعطيا بذلك فرصة لانتصار جانب الروح على الشهوة، وعن الأجواء التي خيمت على أسرته خلال هذا الشهر الفضيل يقول أحمد: خلال أيام وليالي هذا الشهر المبارك، خيمت على الأسرة نفحات روحية، فتساءلنا لماذا لا تكون سائر أيامنا كرمضان، فأحسسنا بأن شيئا يعتري أو ينقص عبادتنا في غير رمضان، وهو الصيام، ويضيف أحمد متحمسا: لقد ازدادت أهمية الوقت عندنا، فحرصنا على عدم إنفاقه في غير العبادة ويسترسل أما خارج البيت فإن الجو مساعد لنا ولغيرنا، فالكل حريص على أن يصوم إيمانا واحتسابا ليحظى بالأجر، كما أن العلاقات تزداد في هذا الشهر توطيدا والأسر تماسكا، ولهذا شعرت بمزيد من الرعاية لزوجتي وأولادي، وينتابني شعور بأنني سأعيش وأسرتي إن شاء الله العام كله رمضان، وأتمنى أن يكتب لي ولأسرتي وللمسلمين البقاء لرمضان آخر. شهر التخلية والتحلية وعن هذا التحول الذي تشهده العلاقات بين الأزواج في ظل هذا الشهر الفضيل، تقول الدكتورة سعاد رحائم، إن رمضان مدرسة تربوية تتربى في أحضانها المجتمعات الإسلامية، وفروع هذه المدرسة تدخل كل بيت مسلم بمجموعة من الأدبيات والبرامج التربوية والمدارج السلوكية التي تزرع ملامح التقوى الكبرى في نفوس الأزواج والأبناء، مصداقا لقوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). فهو بذلك شهر التخلية والتحلية، حيث يتخلى كثير من الأزواج عن طبائعهم السيئة، ويتحلون بأحسنها، فتتحسن علاقاتهم الأسرية بأفعال الخيرات المتجلية في الطهارة الجسدية والصحية والسلوكية والنفسية، فأدركت الكثير من الأسر خيرية هذا الشهر العظيم، والتزمت التقوى والسلوك القويم، وعم الهدوء والفضل والرحمة والصدق والتكافل الاجتماعي الكثير من العلاقات الاجتماعية، وخاصة الأسرية منها. وتضيف عضوة المجلس العلمي بالجديدة، أن رمضان محطة هجرة زمنية مهمة في حياة المسلم، وتوجه كامل إلى خالق الأكوان الذي جعل من اصطفائه لهذا الشهر اصطفاء لكل ضمير حي، ولكل زوج مسلم وزوجة مسلمة لأجل مراجعة الذات، وبالتالي السمو بها إلى أعلى الدرجات. لأجل ذلك تؤكد الدكتورة سعاد أنه ينبغي أن نتوجه إلى الله بقلوب مهاجرة ومنيبة إليه، وراغبة في الهداية والعفو، كما قال نبي الله إبراهيم عليه السلام (إني مهاجر إلى ربي سيهدين) وقال نبي الله لوط عليه السلام (إني مهاجر إلى ربي)، وكما قال نبي الله موسى أيضا (إني ذاهب إلى ربي سيهدين)، كما تشير إلى أنه فرصة لكل مؤمن ومؤمنة، وخاصة الأزواج، في التوجه إلى الله بخالص التوبة وعمق الهداية، باعتباره مدرسة تربوية تجسد أسمى معاني الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة التي تمكن من تمتين العلاقات الأسرية برفعة هذه العلائق الإيمانية، لذلك ينبغي تقول رئيسة مجموعة البحث في المرأة والتنمية التابعة لكلية الآداب بالجديدة أن نتخلى عن سيئ خصالنا ونتحلى بأحسنها، لأن السلوك الرفيع هو نتاج لعملية تربوية بالغة الانضباط، وهو دربة نحو أعمال البر والخير، ولعل تحقيق هذه المعاني بين أفراد الأسرة الواحدة وخاصة الزوج والزوجة هو الانطلاقة الرئيسة لتصحيح المفاسد الاجتماعية واستبدالها بمكارم الأخلاق وسمو الأفعال. فالسلوك الرشيد تضيف المتحدثة نفسها هو المسلك الصحيح الذي من خلاله يصحح الصائم علاقته مع ربه ومن ثم علاقته مع ذويه، فليدم كل فرد على هذه الخصال في بقية الشهور، وليجاهد نفسه على اعتلاء مدارجها. وتضيف الأستاذة بكلية الآداب، أنه بالصوم يتعلم المرء كل معاني الحياة الطيبة الآمنة ومن أبرزها الصمود والثبات في المواقف وقوة التحمل والصبر في الشدائد، وهو صعود وارتقاء بالأعمال الصالحة إلى الله تعالى، وهو صفاء للروح والنفس وترفعها عن كل الملذات والشهوات، وهو صفح وعفو لقوله تعالى (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم)، وهو شهر الصلح وإزالة التنافر والتباغض بين أفرادالمجتمع وخاصة بين أفراد الأسرة الواحدة. وهو شهر الصبر، والتصبر تكلف كما قال صلى الله عليه وسلم: ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر. فلتنهض همة كل زوج وزوجة تنصح الدكتورة سعاد للحفاظ على مكتسبات الخير والفضيلة التي حازوها في شهر رمضان بقية العمر حتى تنعم بيوتنا وأسرنا بالسعادة الحقيقية المفعمة بمعاني التقوى والإيمان الحقيقي منبع كل خير وفضيلة. أذن رمضان بالرحيل إذن، فنحافظ على ما غرسه في قلوبنا من معان سمت بنا طيلة شهر.