في كل عام ينتظر المسلمون ضيفا كريما يستبشرون قدومه من خلال هلال يرسم مدة إقامته لديهم والمحددة دائماً بشهر واحد فقط.انه شهر رمضان الذي يترقبون عودته من العام الى العام،لينطلقوا من جديد في رحلة التقرب من الرب التي تبدأ بالصوم ولا تنتهي عند الاعمال الروحانية التي تندرج في خانة الايمان والاحسان والعطاءات.اعمال تحولت الى طقوس وتكرست في اليوميات الرمضانية تثبيتا لما لهذا الشهر من فضل وبركة. "" وإذا كان هذا الضيف لم يتغير على مر الازمنة في عطاءاته ولمساته، فإن طغيان "العصرية الحديثة" غيرت طقوسه بحيث بدلت سلوكيات وعادات كانت ارتبطت عند الناس به، وان كان قلة منهم ما زالوا يحاولون حتى اليوم تثبيتها وإحياءها في الشهر الفضيل حفظاً لأرت وتراث ترسخ فيهم اباً عن جد. ولعل في مدينة بيروت اليوم صورة واضحة عن هذا التجاذب الذي يحمل في ما يحمل تناقضاً او تباينا بين ايام رمضان السالفة والحاضرة.ايام سالفة ما زالت تسكن ذاكرة بيروتيين عاشوا بيروت ايام زمان او عايشوها في حكايا اهليهم وقصص كبارهم عن المسحراتي والمقاهي القديمة والحكواتي والتزاور وتلاوة القرآن، واخرى حاضرة تواكب العصرنة والحداثة في طقوس اكثر مدنية اكثر ما تتجلى في الفنادق والمطاعم وسهرات النرجيلة التي تمتد حتى موعد حلول الإمساك. ما بين الامس وبين اليوم ، ذكريات جميلة و صور أجمل لا تزال تسكن وجدان الكثير من أبناء بيروت، بينما تخلّى عنها الآخرون منساقين إلى تطور الحياة التي جرفت في سيولها كل ثمين ترك آثاره و بصماته في تاريخ بيروت والوطن. لبيروت وشهر الصوم قصص حفظها التاريخ وامتدت من الزمن العثماني حتى ايام ليست ببعيدة منا. ففي ظل الحكم العثماني كانت للمدينة حارات وأبواب تقفل عند مغيب الشمس كي لا يدخل أحد إليها باستثناء باب السراي الذي كان يقفل عند العشاء. وكان لهذه الأبواب أنظمة تحكمها ،بحيث كان على رأس كل منها عين من أعيان بيروت مسؤول عن وضع و أمن بابها، كما كان مكلّفاً بالإنفاق على مصباح معلّق إلى جانب الباب الخارجي ينيره عند المغيب. و كان القادم من بعد هذا الوقت يضطر إلى المبيت خارج هذه الأبواب، باستثناء شهر رمضان المبارك حيث لا يبيت خارج المدينة أي قادم فتفتح الأبواب أمام جميع القادمين إكراماً لهذا الشهر. ولاستبانة غرة هلال رمضان كان البيارتة ينتشرون على شواطىء بيروت في يوم ال 29 من شعبان ويقضون ساعات طويلة قبل المغيب انتظاراً و احتفاءاً بقدوم رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن الكريم، و إذا ما بدا لهم توجهوا إلى المحكمة الشرعية للادلاء بشهاداتهم وما ان يعلن المفتي بدء الصيام حتى يسارعون الي تزيين الشوارع كما كانت الزينة تغطي مركز الوالي والسراي الكبير والمؤسسات الرسمية كافة وتستمر حتى اخر ايام الصوم . ومع الوقت تحولت هذه الطقوس الى جزء لا يتجزء من العادات والتقاليد المالوفة لترتبط بتراث بيروت وتاريخها، وان اتخذت اشكالا اكثر تطورا مجاراة للتطور العام مثل الزينة التي باتت اليوم تعتمد على الهندسة الضوئية اللافتة للنظر الضاجة بالألوان الصّاخبة. وكانت بعض هذه الطقوس تسبق حلول الشهر، بحيث كان الاستعداد لاستقبال الشهر يسبقه بشهرين، وكان البيارتة يعمدون الى صيام يومي الاثنين والخميس من شهري رجب وشعبان حتى بلوغ 15 شعبان فيقيمون احتفالا مركزيا في المسجد العمري الكبير يحيون خلاله ليلة النصف من شعبان بمشاركة مفتي المدينة وقاضيها الشرعي ونقيب الاشراف وكبار المأمورين. وفي اخر يوم عطلة اسبوعية في شعبان كانوا يودعون ايام الافطار في نزهة الى الحقول والبساتين ، ولا تزال هذه النزهة متعارف عليها حتى هذه الايام وهي تعرف ب "سيبانة رمضان" وأصلها استبانة. مدفع الإفطار ومن المظاهر التي ارتبطت بشهر رمضان المبارك مدفع الإفطار. وهو تقليد يعود للعام 1811 في زمن والي مصر محمد علي باشا الذي كان جيشه يمتلك مدافع حديثة الصنع فأمر بإحالة المواقع القديمة ألى المستودعات بينما وضع إحداها في القلعة تذكاراً لانتصاراته . وصودف ان اطلق طلقة من المدفع في أحد أيام شهر رمضان فابتهج الناس لهذه البدعة التي مكنت البعيدين من القاهرة من تحديد وقت الإفطار، فسيّروا مظاهرة تأييداً لوالي مصر عندها أمر بإطلاق المدفع مع آذان المغرب و مع الإمساك. و ساد هذا التقليد بلاد الشام و بيروت، واستحدث مدفع خاص للمدينة في عهد ابراهيم باشا وخصص له مدفعجيا يتولّى إثبات الشهر واوقات الافطار والإمساك كما عيدي الفطر والاضحى من أعلى ربوة في بيروت العثمانية قرب منطقة الثكنات و السراي حيث مقر مجلس الانماء والاعمار اليوم فتسمع الطلقات في الخندق الغميق والباشورة و زقاق البلاط و راس بيروت وعدة مناطق أخرى. و حتى قبيل الأحداث اللّبنانيّة عام 1975 كان مدفع الإقطار و مدفع الإمساك يطلق من منطقة تلّة الخيّاط ،وهي المنطقة الأعلى في بيروت ، ثم من تلّة زريق قرب دار الأيتام الإسلاميّة. وبعد انتهاء الحرب الاهلية عادت هذه العادة ابتداءً من العام 1995 بإطلاق مدفع الإفطار والسّحور من منطقة السّفارة الكويتيّة قرب قصرالرئيس رياض الصلح. اليوم وفي عصر التطور بات هذا التقليد شبه مفقود بعدما دخلت وسائل الاعلام وخصوصا التلفاز كل بيت واصبحت معرفة ساعة الافطار عبر القنوات اسرع من دوي مدفع الافطار لتذكيرهم. المسحراتي ولعل من وجدانيّات أهل بيروت القدامى "رجال السّحر" أو ما يطلق عليهم باللّهجة العامّيّة "المسحّراتيّه" الذين كانوا يضفون على شهر الصّوم نكهة روحانيّة خاصّة تطيب معها ليالي الصّوم و ليالي السّحور. والمسحّراتي يكون عادةً من "أهل الحي" فيبدأ قبل الفجر بإيقاظ الصّائمين لتناول طعام السّحور قبل الإمساك منادياً كلَّ فرد من أفراد الحيّ بإسمه مردّداً عبارة "يا نايم وحّد الدّايم" و بعض الموشّحات و الأناشيد الدّينيّة مرتدياًّ لباسه الخاص المؤلّف من الجلباب أو القنباز و فوقه الصّدريّة المزركشة بالخيوط الذهبية والمطرّزة على طريقة الزّخارف العربيّة سالأرابسك7-7-.هو يرث مهنته ابا عن جد ، ويبقى عاطلا من العمل طوال العام ليستانفه عند حلول الصوم.كان له ثلاث جولات، الاولى عند كل فجر لايقاظ الناس قبل الامساك، وثانيها قبل الافطار ، اما الثالثة والاخيرة فكانت في ايام العيد وخلالها يجمع العيديات من الناس. مدنية اليوم أطاحت بالكثير من العادات الجميلة و قلّصت عمل المسحّراتي الذي ما زال موجودا وان نادرا في بعض الاحياء الداخلية ، بسبب كثرة البرامج التّلفزيونيّة والمسلسلات العربيّة و توزّعها على المحطّات والقنوات الفضائيّة المتعدّدة التي تجذب اهتمام الصّائمين لفترات السّحور و تبعدهم عن شوقهم لسماع رنّة طبلة المسحّراتي الذي يضفي على المدينة جوا استثنائيّاً. لمّة العائلة ولرّوح الألفة والمحبّة بين أفراد الأسرة نكهة خاصة في شهر رمضان حيث يجتمع أفراد العائلة في منزل كبير الأسرة ويبدأ الجميع بالتعاون في تحضير مائدة الإفطار الرّمضانيّة المتعددة الأصناف. ومائدة رمضان لا بدّ و أن تتضمّن شوربة العدس و صحن الحمّص بطحينة وعليه الصّنوبر المقلي مع اللّحم والسّمنة الحمويّة، و صحن الفتّوش الذي كان يسمّى "زريقة" بالإضافة إلى طبق الأرزّ مع اللّحم باللّوز و الصّنوبر. ويتصدّر الطّاولة شراب قمر الدّين والجلّاب والسّوس و تمر الهندي... حتّى اليوم ... أو طبق الأرنبيّة الذي كان يتباهى به أهل بيروت ، و تكمل المائدة الرّمضانيّة الحلويات التي اشتهرت بها الأحياء البيروتية كالقطايف بالقشطة، والكنافة، و الكلّاج و العوامات والمعكرون. وتسري في أوساط الأحياء البيروتيّة روح التكافل الإجتماعي من خلال عطف الميسورين على الفقراء و مساعدتهم في سبيل القضاء على الجوع والحرمان من خلال الصّدقات وفعل الخير لتصوغ فكرة العائلة وتطلق إلى أفق أكثر شموليّة للخير وما يدعو إليه هذا الشّهر الكريم من تعهّد للأيتام والفقراء. وبلا شك كانت بيروت تجمع اهلها انذاك على المحبة والتكافل ليس في شهر رمضان فحسب بل في باقي ايام السنة وجميع الاعياد التي يتشارك في إحيائها المسلمون والمسيحيون وما زالوا حتى الان وعلما ان الأوضاع الاقتصاديّة الصّعبة التي يتخبّط فيها المجتمع اللّبناني ، والازمات المجتمعة ساهمت الى حد كبير في تغيّيب المناسبات بين الأهل كالتّزاور والتّهنئة بهذا الشّهر الكريم، لتحلّ مكانها التّهنئة عبر المراسلات الالكترونيّة والرّسائل الهاتفيّة والإنترنت. هذا وقد ساهم عصر العولمة في تغيير الكثير من قيمة وعادات المجتمع البيروتي أيّام زمان الذي كان يعيش رمضان بكلّ جوارحه وأفكاره وعواطفه، حيث كانت السّهرات الرّمضانيّة تدور داخل المنزل فيتمّ تلاوة آيات القرآن الكريم و ذكر الأحاديث النّبويّة الشّريفة ويحرص الكثيرون على ختم القرآن الكريم ، بالإضافة إلى أسوات الدّينيّة التي كانت تقام في المساجد والزّوايا لأداء الصّلوات و منها صلاة التّراويح تقرّباً لله تعالى، وبلغ من اهتمام أهالي بيروت بهذا الشّهر استقدامهم للقرّاء و المنشدين من مصر لإحياء السّهرات الرّمضانيّة الدّينيّة و حاليّاً أضحت هذه السّهرات تعمر داخل الفنادق والمطاعم حيث النّرجيلة والمطربين والمطربات ما طمس معالم المقاهي الشّعبيّة التي كانت تعم بالسّاهرين للاستماع للحكايا الشّعبيّة مثل قصص عنترة والزّير وألف ليلة وليلة وغيرها.. عن المستقبل اللبنانية