1- في كل مرة أذهب إلى الأردن،وأنزل بعمان،أفكر بزيارة العقبة. أبقى أسبوعا أو أسبوعين، بين زيارة الأصدقاء، والتجول في الأسواق، والجلوس في المقاهي لشرب الشيشة، ثم أبدأ بالتفكير في العودة إلى بلدي، فلكل مسافر عودة،هذا هو المبدأ. لكن قبل ذلك تطرق ذهني العقبة، وأقول مع رأسي أحتاج لزيارة هذه المدينة، ومنطقتها. أنا أعرف نفسي جيدا إذا ألحت عليّ رغبة ما،يا لطيف! فهي تسكنني،أتوسوس بها،وكلما حاولت التلهي عنها إلا وازدادت إحكاما. أعرف أنها أنانية،بل وعبودية،وهذا يقلقني،يجعلني أحس بضعف في شخصيتي، أسخط كيف تتملكني، أقرر نبذها والتعالي عنها، فما أراها إلا مقبلة عليّ جحافل. 2- في إحدى زياراتي للأردن استولت عليّ رغبة زيارة المفرق. كنت سمعت عن هذه المدينة المرة الأولى من صديق سوري، أو ربما قرأت عنها قصيدة أو لوحة وصفية. أتذكر كيف وصفها كاتبها كأنها قطعة من الجنة أو ُسرّة العالم،(Le nombril du monde) كما يقول الفرنسيون،وألحت علي الفكرة، أعلنتها لمن حولي، كررتها فلم أجد حماسا يذكر. كانت المشكلة في من سيرافقني لزيارتها، وإلاّ فأي سيارة أجرة في محطة العبدلي ستقوم بالواجب، وأنا لا أحب،أو بالأحرى أستحسن الزيارات برفقة أهل البلد،تشعرك بالأنس، ثم إنك لا تضيع في ما لا جدوى منه، تذهب إلى القصد مباشرة، وتغنم الكثير إن وُجِد في وقت وجيز. 3- وكذلك كان. فمن كثرة إلحاحي على الطلب في زيارة لاحقة شعرت أن السيدة أم عادل تتجاوب مع رغبتي، وإذ بها تعرب عن استعدادها لمرافقتي إلى مطلبي. سمعتها تعلن ذلك ببساطة وبدون حرج، فشعرت بالحرج والامتنان في آن. خاصة ونحن في مجتمع التقاليدُ فيه صارمة، أنتم تعرفون، لكنها خمنت قبلي في مجرى مخي قاطعة القلق باليقين، وقائلة، وهي السيدة الشاطرة التي تعمل بالتجارة،أن لها مصلحة هناك، وستخدم نفسها بهذا «المشوار» قبل كل شيء،وتلفتتْ حولها تنظر إلى أصدقائنا المشتركين الذين تعرفت عليها معهم،كأنما ليؤكدوا صحة ما تقول، فهزوا رؤوسهم جميعا،إلا واحداً نظر إلينا معا بخبث ظاهر،ولم نعبأ! 4- في زيارتي الجديدة إلى الأردن، بعد أن زرت الأصدقاء جميعا تقريبا، وتجولت في «وسط البلد» الذي أحب أكثر من مرة، وذهبت إلى الأماكن ذاتها التي أعرف ولا أملّ منها، ودخنت كمية لا تطاق من النرجيلة،أنفخها في الهواء نفخا، ونجوت لا أذكر كم مرة من موت محقق بسبب السيارات التي تتسابق في الشوارع الطرقات،تحسبها ثيرانا هائجة مكلفة بدهس البشر تخفيفا من الديموغرافيا،وبعد أن كنت قد تناولت الأطباق المشرقية الشهية في الدعوات الأردنية الكريمة،عادت تحضرني تلك الرغبة الملحاح، فتسيطر العقبة على وعيي وأكاد أنسى أنني ملزم الغداة للذهاب إلى مطار الملكة علياء وإلا طار الحجز ووداعا للبطاقة! 5- هذه المرة،كان الدكتور أيمن هو من سمعني،ونحن شلة مجتمعة ليلة سفري،أناغي برغبة زيارة العقبة. تعرفت عليه في زيارة سابقة،وهو قليل الجلوس مع الجماعة لكثرة شغله في عيادة طب وجراحة الأسنان، لكنه ودود،لطيف المعشر، وتقرّب إليّ ظانا أني تونسي من بلد زوجته،رغم أني كررت عليه مرارا بأني لست من تونس،حتى ولو أن بلاد العرب كلها أوطاني. سمعته يعرض عليّ، وأمام استغراب الجميع،أن ينقلني إلى مدينة حلمي، من الغد إن شئت، فهو،أيضا، يريد تغيير الجو، ومن هناك حيث السوق الحرة يمكن أن يقتني بعض ما يحتاج إليه البيت والأولاد، وليحسم أضاف، أما مسألة الحجز والبطاقة فأنا أتكفل بها. 6- حين انتبهت أن رغبتي باتت على وشك التحقق انتابني بعض القلق،فأنا لا أخفي بيني ونفسي شَبَه سلوكي أحيانا بسلوك الأطفال،أومن أن تقدمنا في العمر لا يعني ضرورة انفصالنا عن خصائص مراحله السابقة،وإلا لم خَفَتَ فجأة حماسي،أرغب مباشرة في الانتقال إلى مطلب آخر. ثم هناك شيء مختلف، أظنه صعد من لاوعيي للمرة الأولى، جعلني أتساءل لِمَ صرت طول الوقت،عدا ما سقت سابقا، أسيرَ هذه الرغبة، هل الموقع الجغرافي للمكان؟ أم بسبب البحر الأحمر الذي يركن إليه خليجها؟ أم لأنها أبعد نقطة في الأردن، جنوبا وعمقا، وأنا أحب الذهاب إلى البعيد، الذي نسمع عنه، ونخال أحيانا أنه من المستحيل الوصول إليه؟! 7- ربما لهذه الأسباب جميعا،أو ما هو أغرب،كأن أعدل تماما عن الرغبة وقد أيقنت أنها ملك اليد لأنصرف إلى سواها،قد تكون بدورها مرغوبة أكثر،وكبتتُها بعد أن سمعت مرات من ينهي الجلسة يدعوني للتوجه إلى العبدلي فجرا، فهناك شركات تنظم زيارة يومية لمدينة البتراء التاريخية،وتعود بك إلى عمان في اليوم نفسه. والرحلة مريحة،وببضعة دنانير فقط، وكذا،وكيت. أجل، البتراء كانت دائما بغيتي، وسقف حلمي في الزيارة الأردنية،وفي أوروبا لا يسالونني إلا عنها إذا ُذكر الأردن،فأصير أنسج عنها الحكايات،وأبالغ في الوصف، والتفخيم، بناء على ُفتات معلومات وصور سياحية، وأزيد نافخا، البترا؛ طبعا!، طبعا! 8- لم تكن أم عادل لتبخل علي بالرفقة. بل سمعتها تعلن في غير جلسة بأنها على استعداد لتأخذني إلى هناك، وستكون مناسبة لأولادها كي يجددوا زيارتهم لتراث أجدادهم، وليرسخ في ذهنهم أن الحضارات ليست هي طوب العمارات التي ينحشر فيها الخلق هذه الأيام، وأن الإنسان ينبغي أن يكون جديرا بالانتساب إلى تاريخه وزمنه،لا ككل هؤلاء،تقول بتأفف، همُّهُم فقط أن يملؤوا بطونهم صباح مساء بكل أصناف المعجنات،وبطونهم مندلقة تحت صدورهم، وتستدرك معتذرة للسامعين، ولي خاصة مؤكدة أننا لا بد من أن نذهب إلى البتراء في المرة القادمة، أنت توافقني، فشهر رمضان الذي جئت فيه لا يساعد على السياحة، أبدا! 9- حين غادرنا عمّان صباح اليوم التالي، وقرأت في إشارات الطريق أسماء المدن القادمة أمامنا بعد المطار لاحظ الدكتور أيمن أني أتزحزح كثيرا فوق مقعدي،سألني هل هناك ما يقلقني،فصمتت أولا،ثم عدت أتكلم بسذاجة مصطنعة متسائلا وأنا أوزع نظري بينه وعلامات الطريق، وأقول أخيرا: وإذن هذا الطريق الذي يقود إلى العقبة هو نفسه الذي يؤدي إلى البتراء،والعكس صحيح. ثم أزيد باستغفال واضح من غير شك:ممتاز!والله شيءعظيم! لم يجب في الحين على دهشتي المصطنعة. تركني ساهما في تأمل مشاهد الطريق إلى أن اقتربنا من منعطف، وهنا كلمني بتخابث: ما رأيك أن نزور البترا والعقبة في وقت واحد؟! 10- صرت كلما اقتربنا من العقبة أحس كأن أعصابي كلها وتر واحدٌ مشدود،وفي الآن أتلهف إلى الوصول وأنا أتخيلها، والبحر الذي تنام عند خليجه بألف صورة،ما استجمعته عن مدن سابقة،وما أسبغه على ما لم أعرف وأزر بعد من مدن. وكان هذا جزء من هوس يصيبني دائما،وأعزوه إلى طبيعتي التي تنزع إلى إسقاط أوهام وتصورات على الكائنات والأشياء بأكثر مما فيها أو تحتمل، ولم أعد أقلق من هذا، أقول إن الكائن هو ما هو عليه،لا ما يريد أو يتصوره الآخرون عنه. القمر لا هو جميل ولا هو للحب، إنه كوكب منير فقط نراه بمراحل تشكل،والعقبة هي المكان الذي هي عليه ولا شأن لها،هي وساكنتها بهواجسي وتوتري، بتاتا. 11- بهذا الشعور دخلت المدينة،وتحت تأثيره تجولت في شوارعها الفسيحة،وتنقلت في أسواقها العامرة. فعلا أدهشتني العقبة من أول نظرة، بهرتني، أولا، بنظافتها، وتنسيقها البديع لدرجة فكرت أني في بلدة أندلسية،لا في أرض عربية حتى رحت أضرب الأرض بقدمي ضربا فلا يصعد من تحتي غبار. الأرصفة مغسولة،والأشجار مشذبة،ولا ضجيج للبشر، كما لا زعيق للسيارات. عندما قصدنا الأسواق لاحظنا البضائع وافرة،حسنة العرض،والتجار لائقون،وحين طرقنا مقهى للاستراحة لم يزعجنا ذباب ولا متسولون، ولا غطسنا في ضباب الدخان. قلت للدكتور أيمن يحتاج محافظ هذه المدينة إلى تهنئة، وسكانها إلى تحية وامتنان . 12- ُُُُجلنا في الخليج،حيث رأيناه هو والميناء من أعلى،فبدا بديعا بزرقة البحر الفاتنة، وشاليهات السياحة الممتدة على ضفته الشرقية،وسرنا طويلا، مديدا على طريق سيّار يحاذيه حتى ليغريك بمواصلته إلى نهايته،لكن إلى أين؟وكيف؟ ثم عاد إليّ وسواسي من جديد:هذه إذن هي العقبة كلها،جلها،وهذا خليجها،ثم ماذا بعد؟ ولم يترك لي رفيقي فرصة أطول لأتَهَوْجَس،إذ أدار مقود السيارة أراه يقفل عائدا في اتجاه المدينة وقد زاد السرعة،قال إن الطريق إلى عمان طويل،ومن الأفضل أن نغادر قبل نزول الظلام،وزاد قائلا باللياقة الأردنية: يا سيدي، عسى أن تكون قد أعجبتك العقبة، ومرحبا بك فيها متى تشاء. 13- ونحن عند نهاية خط السير المحاذي للميناء، والطريق لسان أملس نازل بنا إلى نهايته في مركز المدينة،انتصبت قبالتي،كأنما فجأة،سلسلة من البنايات العالية والمتدرجة، عمارات بيضاء متكاثفة،وهندستها تلوح بديعة المعمار. طلبت من رفيقي على عجل أن يتوقف فاستجاب دهِشا. نزلت من السيارة ورحت أحدق في البنايات،هناك،لا هي قريبة ولا بعيدة، تفصلنا عنها قطعة أرضية خالية من أي بناء،واسعة ومسفلتة. استغربت لهذا الانفصال الذي يجعل من الأرض هناك كأنها مدينة أخرى بينما هي تشبه كثيرا حيث نحن، بل قطعة من هنا. التفتت إلى رفيق رحلتي لينجدني: ماذا هناك؟ لماذا لم نذهب إلى هناك؟ تردد قبل أن يجيب: تلك إسرائيل! قلت: نعم؟! إنها مدينة إيلات! إيلات؟! بلى،إيلات. وإذن، فهي على مرمى حجر! ولا أذكر كم بقيت واقفا،لا أتقدم خطوة،هو قد صمت، وأنا أردد كالمهلوس: على مرمى،على مرمى، ليست إلا ..على مرمى حجر!!