ما يشجعني على الذهاب إلى هذا البيت- بالإضافة إلى كوني لا أملك خيارا آخر- هو أن كارول لا تأتي إليه كل يوم. لأنها مطالبة بالاعتناء بابنها عدة مرات في الأسبوع. أجل كارول لها طفل صغير وجميل اسمه كيفين. عمره خمس سنوات. أشقر مثل أمه، وهادئ. أبوه اسمه برينو. لم أره أبدا. يبدو أن الأمور بينه وبين كارول وصلت إلى نقطة اللاعودة. هما مفترقان عمليا، لكنهما مضطران للتعايش في انتظار أن تنطق المحكمة بالطلاق. باريس مدينة جميلة جدا، لكنها قاسية. عندما يأتي شتنبر تبكي السماء بلا توقف. ونعود نحن الغرباء لنفتش لرؤوسنا عن وسادة. ولوسادتنا عن سرير. ولسريرنا عن بيت. لأن الليل هنا ابن كلب. لا يرحم. إذا لم تحسن التصدي لضرباته قد يرديك قتيلا كما يفعل بالعشرات ممّن لا يمْلكون مأوى قارا. أولئك الذين لا يضيع الفرنسيون أكثر من ثلاثة حروف في تسميتهم: SDF (بلا مأوى قار). عدت إلى باريس بعد أن طردت من رأسي فكرة البحث عن عمل «لكي أخدم بلادي»... لكم تبدو العبارة مضحكة من قمة اليأس! أبلاد هي حقا أم كعكة؟! أيّ بلاد هذه الغنيمة التي تتقاسمها عصابة أشرار؟ وأي شعب هذا القطيع من بنات آوى الذي يفترس بعضه البعض؟! ها نفذت بجلدي، لكن إلى أين أذهب؟ أين أنام والمدينة تتحول في الليل إلى وحش أسود بملايين العيون؟! لحسن الحظ، كنت قد رتبت كل شيء مع كارول صديقتي، قبل الذهاب إلى المغرب. كارول فرنسية في الثلاثين، شقراء وتحبني كثيرا. أنا أكن لها شعورا ملتبسا، لكنني لا أعتقد أنني أحبها. الحب هو أن تدق في صدرك طبول ونواقيس، هكذا اعتبرته دائما. كارول جميلة ووديعة وتستحق كل خير. حلمها أن نسكن معا، كما يفعل العشاق هنا ليمنحوا لعواطفهم شكلا اجتماعيا. حلمي أنا أن أظل حرا طليقا خارج كل الأقفاص، خصوصا الذهبية. لكنني مجبر على التنازل عنه كما تنازلت عن أحلام كثيرة. في هذا العصر إذا كانت لديك أحلام، اصنع منها شريطا ورديا طويلا وضعه في المرحاض لكي تنظف به مؤخرتك كل مرة تقضي حاجتك. أنا أصبحت ابنا لهذا العصر، واقعيا أكثر من سطل قمامة. حتى الشعر الذي كنت أكتب قبل سنوات، شفيت منه تماما والحمد لله، مند اكتشفت أن الحياة مجرد قصيدة عمودية ركيكة. كارول تقطن في بورط ديطالي جنوب شرق باريس. غير بعيد عن الحي الصيني الممتلئ عن آخره بالآسيويين ذوي النظرات الحذرة والعيون الضيقة والكلام الذي يشبه ارتطام أوان تسقط في المطبخ. لكي تصل إلى البيت عليك أن تأخذ المترو رقم 7 في اتجاه بلدية إيفري. عليّ أن أكون حذرا كي لا أذهب في الاتجاه الخطإ، هذه المرة أيضا. لأن الخط رقم7 يتفرع في محطة ميزون بلانش إلى اتجاهين. وكثيرا ما أكون مستغرقا في القراءة أوالتفكير، بأشياء مقلقة في الغالب، فلا أنتبه إلا على صوت سائق المترو وهو يعلن آخر محطة في الرحلة: فيل جويف (المدينة اليهودية). حينها يكون عليّ أن أعود أدراجي إلى ميزون بلانش. عندما آخذ الاتجاه الصحيح، أنزل في محطة بورط ديطالي. أعبر شارع إيطاليا الطويل، وأدور في الزنقة الثانية على اليمين. أتوقف في 15 شارع كايّو (هذه ليست دعوة للزيارة!). مفاتيح البيت في جيبي. أخذتها قبل أن أذهب إلى المغرب. كارول سلمتني إياها كي يكون لديها أمل في عودتي، وأنا قبلت لكي أؤمن سقفا في باريس، إذا ما خابت رحلتي إلى البلاد... وحسنا فعلت! ما يشجعني على الذهاب إلى هذا البيت- بالإضافة إلى كوني لا أملك خيارا آخر- هو أن كارول لا تأتي إليه كل يوم. لأنها مطالبة بالاعتناء بابنها عدة مرات في الأسبوع. أجل كارول لها طفل صغير وجميل اسمه كيفين. عمره خمس سنوات. أشقر مثل أمه، وهادئ. أبوه اسمه برينو. لم أره أبدا. يبدو أن الأمور بينه وبين كارول وصلت إلى نقطة اللاعودة. هما مفترقان عمليا، لكنهما مضطران للتعايش في انتظار أن تنطق المحكمة بالطلاق. الطلاق هنا مسألة معقّدة. قد يستغرق شهورا أو سنوات. ثمة إجراءات شتّى ينبغي الحسم فيها قبل أن يذهب كل واحد إلى حال سبيله: الأطفال، النفقة، الممتلكات، التصريح الضريبي...إلخ. كارول وبرينو ينتظران النطق بالطلاق منذ أكثر من ستة أشهر. في الحقيقة، أنا من ينتظر ذلك، لأنه عندها فقط باستطاعتي أن أتزوجها وأحصل على بطاقة إقامة دائمة ثم على جواز سفر أحمر وأطوي صفحة المغرب إلى الأبد! حطتني طائرة الخطوط الملكية المغربية في مطار أورلي. ركبت الحافلة رقم 183 في اتجاه بورط دوشوازي. في الرابعة بعد الزوال بتوقيت فرنسا، كنت في البيت آخذ حمّاما على إيقاعات إيلين سيغارا. كنت متعبا للغاية. لأنني لم أنم ليلة أمس. رأسي كانت على الوسادة، فيما عقلي يحلق بين غمامات رمادية. لم أكف عن التفكير في المجهول الذي ألقيت فيه بنفسي بعد أن اتخذت قرارا حاسما: الزواج من كارول والاستقرار نهائيا في باريس!