الراغب في الوصول إلى مقصد صلاحه، والانخراط في زمرة المصلحين ونيل مرضاة رب العالمين، يغتنم كل فرصة مناسبة لتجديد العزم وتقوية الإرادة، وإعادة ضبط البوصلة لتبقى في الاتجاه الصحيح، والتزود بالطاقة الدافعة في طريق الخير. ولعل شهر رمضان أحد أهم تلك الفرص التي أكرم الله بها المومنين وعموم الراغبين والتائبين، وجعل منه سبحانه محطة تحول لمن أراد تغيير مسار حياته من التيه والضياع إلى الاستقامة والصلاح ومن الكسل والخمول وتضييع الأوقات إلى الجد والنشاط واستثمار الأوقات في النافع من الأعمال. يقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة رواه الترمذي وصححه الألباني. قال القرطبي رحمه الله في تعليقه على الحديث فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيرا، فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك ، فالجواب أنها إنما تقل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه، أو المصفد بعض الشياطين ... وهم المردة ... أو المقصود تقليل الشرور فيه . وهذا أمر محسوس فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره . إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية لأن لذلك أسبابا غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية فرمضان فرصة ثمينة يجد فيها باغي الخير أعونا من البيئة المحيطة حيث الصيام والقيام وامتلاء بيوت الله بالتائبين والمقبلين على الصلاة وتلاوة القرآن وجودة المقرئين والسخاء والإكرام على موائد الإفطار وصلة الأرحام.. والناس أمام هذا الخير صنفان : صنف يكون حظه من رمضان تغيير الموائد وتنويع المطاعم والمشارب إن وجد إلى ذلك سبيلا، وقضاء معظم يومه في النوم والسلبية، ومعظم ليله في لهو وسهر وهيام. لا يرفع بهذا الشهر رأسا ولا يغير سلوكا ولا يستزيد أجرا ولا ثوابا. وصنف يحسن اقتناص الفرصة فيستقبل رمضان بالعودة إلى الله والتوبة والاستغفار وترك ما نهى الله عنه من الفسق والفجور والعصيان، والاجتهاد في جمع الحسنات، والمساهمة في مختلف أوجه الخير فشهر رمضان عنده شهر المكرومات، شهر التوبة والقرآن، وشهر الذكر والغفران، وشهر الجود وصلة الأرحام، وشهر التراويح والقيام والمرابطة في بيوت الرحمن، وشهر القراءة والعلم، وشهر العمل النافع.. إنه في ميزان المومنين شهر الصيام ليس فقط عن المباح من الطعام والشراب والجماع، وإنما شهر الصيام عن الغيبة والنميمة والكذب والزور، والصيام عن الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، والصيام عن أذى العباد وعن الفساد في البلاد.