ممن نتعلم «فقه الحياة»، وكيف السبيل للوصول إلى هذا الفقه المنشود، الذي من خلاله يستطيع المسلم أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا. هل نتعلم «فقه الحياة» ممن يتمسك بأدلة الشرع فحسب؟ أم نتعلمه ممن يتمسك بأدلة الشرع مع النظر كذلك إلى الواقع؟. هذه الأسئلة وما يتفرع عنها من قضايا، وما يتعلق بها من مسائل وإشكالات، هي موضوع «المائدة الفقهية» الدسمة التي يقدمها العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوميا على قناة «أنا» الفضائية (التردد 12226 أفقي نايل سات) طوال شهر رمضان، وذلك من خلال برنامج «فقه الحياة»، والتي ستعمل «المساء »على نشرها بشراكة مع قناة «أنا» الوسائل تتغير بتغير الزمان والمكان، يعني مثلاً الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب» هنا هدف ثابت وهو طهارة وتنظيف الفم، وذلك يدخل في الإطار العام الذي يهدف إليه الإسلام: «الطهور شطر الإيمان»، أي تنظيف البدن، وتنظيف الطريق، وتنظيف البيت، ولكن هل كل العالم ينبغي أن يستعمل السواك الموجود في جزيرة العرب، ولعل هذا السواك لا يوجد في البلاد الأخرى، ولعل كثيرا من الناس لا يستعملون هذا السواك، ولعله ينزل دما من بعض الناس؟ إذن أنا عندي هدف ثابت هو تنظيف الفم، وعندي وسيلة متغيرة، حتى بعض العلماء قال ممكن أن تستخدم أصبعك أو تستعمل أي عود، ومن ذلك استعمال الفرشاة والمعجون. وهناك ما هو أهم من هذا، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» هنا مقصد ثابت هو: أن نصوم شهر رمضان لا نزيد عليه ولا ننقص منه، لا نصوم يومًا من شعبان، ولا نفطر يومًا من رمضان. وكانت الوسيلة الوحيدة لإثبات دخول الشهر والخروج منه، هي رؤية الهلال، الآن أصبح عندنا وسيلة غير الرؤية بالعين المجردة، أصبح عندنا الرؤية عن طريق المراصد، وأصبح بالإمكان تفادي كثير من الأخطاء، خصوصًا أن بعض المذاهب تثبت الرؤية بشاهد واحد أو شاهدين، ويمكن أن يخطئا، ويثبت هذا الخطأ بما أصبح معروفًا في علم الفلك العصري، فهناك شيء اسمه الاقتران أو الاجتماع، أي أن تكون الشمس والأرض والقمر في خط واحد، ولا يمكن أن يُرى الهلال إلا بعد هذه اللحظة الكونية، التي تحدث في لحظة واحدة، وبعد ذلك بساعات يمكن رؤية الهلال. إذا لم يحدث هذا يكون هناك خطأ، ولكن نحن كثيرًا ما نصوم في بعض السنين ونفطر ولم يحدث اقتران، فنصوم يومًا من شعبان ونفطر يومًا من رمضان، فلماذا لا نقر ما يقره العلم الحديث؟ وهو أنه لا بد أن يثبت دخول الشهر فلكيا، حتى يمكن رؤيته بالعين أو بالمرصد أو بأي شيء. الحقيقة والمجاز - ننتقل الآن إلى التفريق بين الحقيقة والمجاز، وكما تعلمون أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه أنكر ما يعرف بالمجاز؟ > شيخ الإسلام ابن تيمية ينكر تسمية هذا مجازًا، وإن كانت الأشياء التي جاءت لا يمكن أن ينكرها، وإنما لا يسمى هذا مجازًا، وأنا أقول إن عظماء الرجال، لدى الواحد منهم أشياء غريبة، ابن حزم وهو عبقرية عظيمة من العبقريات الإسلامية، في الفقه، والأصول، والفلسفة، والملل والنحل، والأدب، والشعر، رجل موسوعة، ومع هذا ينكر القياس، وينكر تعليل الأحكام، ووردت عنه أشياء مضحكة. فشيخ الإسلام ينكر المجاز، ولكن لا نستطيع أن ننكر حقيقة أن هناك مجازًا، ولا بد أن نعترف بهذا، حينما يقول النبي عليه الصلاة والسلام لزوجاته أمهات المؤمنين: «أطولكن يدًا أسرعكن لحاقًا بي» فبعض نساء النبي فهمن الحديث على ظاهره، أي على الحقيقة، وأخذن يقسن الأيدي، أيها أطول، وبعد ذلك ماتت السيدة زينب رضي الله عنها وعرفن أن طول اليد هنا يعني الجود والعطاء. - بعض الناس ينكر المجاز والتأويل بصفة عامة، ولكن هذا في الحقيقة يضيع الحقائق، حتى نجد ابن حزم رغم نزعته الظاهرية الواضحة يؤول بعض الأحاديث، ففي حديث عن البخاري ومسلم أن النيل والفرات أصلهما من الجنة، وذكر لي الأستاذ مصطفى الزرقا رحمه الله أن أحد كبار القانونيين قرأ البخاري فوجد فيه هذا الحديث، فقال هذه خرافات، فنحن نعرف أصول النيل، ومنابعه في الحبشة ومنطقة البحيرات الكبرى، فما علاقة الجنة بالأمر؟ > ابن حزم، رغم ظاهريته، يقول لا يفهم هذا الحديث إلا كما نقول هذا يوم من أيام الجنة، إذا كان يومًا معتدلًا وهواؤه ونسيمه عليلًا، ولذلك عندما نقول مثلاً إن الحجر الأسود من الجنة، فلا نأخذها بالضرورة على ظاهرها، أي أن الحجر الأسود انتقل من الجنة، فهذا لا يعني ما قيل بالضرورة. وفي المقابل هناك أحيانًا بعض الحقيقة تحمل على المجاز، وهذا مرفوض مثل بعض الناس يقول إن المقصود بالسحور في «تسحروا فإن في السحور بركة» هو الدعاء والاستغفار. - يصرفه من الحقيقة إلى المجاز؟ > نعم، وهذا مرفوض لأن هناك حديثًا آخر مبنيًا على السحور: «تسحروا ولو بجرعة من ماء»، فهذا دل على أن السحور شيء يؤكل ويشرب، كما أن هناك من أول الأحاديث الذي جاءت عن المسيخ الدجال، وقال إن هذا المقصود به هو الحضارة الغربية؛ لأنها عوراء. وأنا ذكرت هذا المعنى لا على أساس تفسير المسيح، ولكن قلت إن هذه الحضارة ينسبونها إلى المسيح بن مريم، وهي أحق بأن تنسب إلى المسيح الدجال؛ لأن المسيخ الدجال أظهر ما وصف به من أنه أعور، وهذه الحضارة حضارة عوراء، لأنها تنظر إلى الحياة بعين واحدة، عين المادة وعين الحسية، وتنكر الغيب وتنكر الروح. كما أن بعضهم قال إن المقصود بنزول المسيح ابن مريم هو انتشار السلام؛ لأن المسيح كان يدعو إلى السلام، مع أن الأحاديث التي جاءت في نزول المسيح قالت «لينزلن المسيح حكمًا عدلاً، وليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية» حتى لا يقبل الجزية، يعني لن يأتي بالسلام كما يقولون. - إذن أنتم تريدون أن نفرق بين الحقيقة والمجاز، ولكن لا نغالي في هذا. > طبعًا، كل شيء له ضوابطه. الغيب والشهادة - وماذا تقصدون فضيلة الشيخ بقولكم التفريق بين الغيب والشهادة؟ > نحن نؤمن بأن هناك عوالم غيبية، وهناك عوالم شهادة، العوالم الغيبية التي جاء بها الكتاب والسنة، مثل: الملائكة، والكرسي، والعرش، والأمور الأخرى من الحياة البرزخية في القبر، ومما بعد البعث من حشر ونشر، وأهوال القيامة، والجنة والنار وما فيهما، ولو ظللنا نقيس هذه الأشياء على عقولنا لاستبعدناها، لكن هذه الأشياء نحن نؤمن بها كما جاءت؛ لأنها داخلة في الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب يجب أن يؤمن به الإنسان ولا يتعب نفسه في البحث عنه؛ لأن هذا مما جاء به الإسلام ليريح الإنسان من بذل مجهودٍ في أشياء ليس وراءها طائل، ويوفر هذا المجهود للبحث في عالم الشهادة، ابحث في قوانين الكون واكتشف فيه ما شئت وسخره لمصلحة الخلق، هذا هو المطلوب من المسلم، لا أن يضيع وقته في الغيبيات التي لا يجدي البحث فيها، وإنما تؤخذ بالتسليم. - طالما أن الأحاديث قد صحت فلا بد أن نسلم؟ > إن صحت الأحاديث ولا شيء فيها، ولا شك فيها، تقبل وآمنا وصدقنا. - بقي مَعلم واحد، ذكرتم أنه التأكد من دلالات ألفاظ الحديث، فما المقصود بذلك؟ > المقصود أن هناك أناسا يفسرون القرآن، ويشرحون الحديث أو يفهمونه على غير ما أريد به، مثلاً بالنسبة إلى القرآن قال العلماء إنه لا بد أن يفسر النص باللغة في وقت ورود النص، لا نفسره بالمصطلحات الحادثة، فنكون قد ضللنا الطريق، بعض الناس يقول إن القرآن يرغب في السياحة، لماذا؟ لأنه وصف المؤمنين ب: التائبين، العابدين، الحامدين، السائحين. فهل هذا يمكن أن يقصد به السياحة بالمفهوم السائد الآن؟ لا بد أن نعرف كلمة معنى «ساح» في ذلك الوقت، وما يقال في القرآن يقال في السنة نفسها، فنأخذ الألفاظ ونرى ماذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ؟ - موضوع لعن المصورين هل يدخل في هذا الأمر؟ > لا ينبغي أن نأخذ أيضًا لفظة «المصورين»، ونقول لإخواننا الذين يصوروننا الآن لقد لعنكم الرسول؛ لأنه قال: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون»، المقصود بالتصوير في ذلك الوقت غير ما نسميه التصوير الفوتوغرافي أو التصوير الجوي، أو التصوير التليفزيوني، لأن التصوير الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم هو مضاهاة خلق الله، لكن هذا التصوير الحديث هو خلق الله نفسه، الذي يصورنا لا يفعل شيئًا، هو يظهر صورتنا ويعكسها، فلم يخلق شيئًا ولم يضاه خلق الله عز وجل. العقل والشرع - البعض أحيانًا وهو يقرأ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يحاول جاهدًا أن يقدم العقل على الشرع، فهل تقديم العقل على الشرع من الممكن أن يقبل في جانب الشهادة؟ > المقصود بتقديم العقل على الشرع، أن الشرع درجة ثانية، والعقل درجة أولى على عكس ما هو مطلوب من المسلم، فالإسلام يؤخذ من الوحي، أي يؤخذ من الشرع، والعقل مهمته أن يفهم هذه النصوص، ويستنبط منها، ليس مهمته أن يكون مقدما على الشرع، لأنه إذا قدمت العقل على الشرع، فأي عقل تقدم، عقل زيد أم عقل عمرو، عقل الفيلسوف أم عقل المتكلم، أم عقل الصوفي، أم عقل الفقيه، أم عقل الملحد، كل واحد له عقل وله فهم، إنما أنا أقدم العقل المنطقي، أي العقل العام الذي يحتكم إلى قواعد كلية، فلو وجدنا أمرًا مستحيلاً في هذه الحالة لا بد أن أؤول الشرع ليتفق مع العقل، والأساس عندنا أنه لا يصطدم نقل صحيح وعقل صريح، فإذا حدث الاصطدام لا بد أن ما ظنناه من الشرع ليس شرعًا، أو أن ما ظنناه من العقل ليس عقلاً. - إذن لا بد أن يكون هناك تابع ومتبوع، والعقل تابع والشرع هو المتبوع. > ولكن علماءنا قالوا إن أساس النقل هو العقل، يعني بماذا ثبت الشرع، ثبت بالعقل، حقيقتان كبيرتان ثبتتا بالعقل: وجود الله عز وجل وثبوت النبوة بصفة عامة، ونبوة محمد بصفة خاصة. ولكن بعد أن يثبت العقل كما قال الإمام الرازي: يعزل نفسه ويتلقى من الشرع، فيقول سمعنا وأطعنا (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ). ولا يمكن أن يتعارض نص صحيح مع مصلحة حقيقية، ولا بد أن تكون المصلحة موهومة، أو يكون النص غير ثابت.