النقاش الدائر اليوم حول الحريات الفردية، وتحديدا حول الجرأة في السينما وشرب الخمر، وحقوق الشواذ، يحتاج أن ينظر إليه لا باعتباره مظهرا من مظاهر الصراع بين مشروعين مجتمعيين يقود أحدهما الإسلاميون ويتولى الدفاع عن الآخر دعاة الحريات الفردية كما يحاول البعض أن يصور ذلك، ولكن باعتباره يطرح إشكالا حقيقيا بالنظر إلى الشرعية الدينية والدستورية للدولة المغربية. فمن جهة الشرعية الدينية للدولة، والتي يمثلها نظام إمارة المؤمنين، هناك وضوح يجعل حراك الناشطين الحقوقيين على هذا المستوى في مستوى من التصادم مع ما سبق أن أعلنه الملك محمد السادس من كونه بصفته أميرا للمؤمنين لا يمكن أن يحل حراما ولا أن يحرم حلالا، وهذا ما عبر عنه الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى محمد يسف؛ حين اعتبر أن الذين يطالبون بإلغاء تحريم الخمر يدخلون منعرجا خطيرا، في إشارة منه إلى المس بالشرعية الدينية للدولة المغربية، وهذا ما يعيه جيدا أحمد عصيد- أحد المتحمسين للدعوة إلى إلغاء القوانين التي حظر بيع الخمر أو تقديمها للمسلمين، إذ لم يتردد في مقال نشره أول أمس بالجريدة الأولى بالقول: بإن مكمن الخلل في الموضوع كله هو اعتماد السلطة مبدأ الخلط بين الدين والسياسة والتماس شرعيتها في الدين، في الوقت الذي لا شرعية لأية سلطة إلا بالعدل والمساواة في ظل الديمقراطية، فواضح من خلال هذا الاستدلال أن أحمد عصيد يرى أن معركة الحريات الفردية تبدأ أولا مع الشرعية الدينية للنظام السياسي ما دامت تشكل عنده مكمن الخلل في الموضوع كله، لأنه دون القطع مع الشرعية الدينية للنظام السياسي في المغرب، فإن أي معركة للحريات الفردية ستكون بالضرورة خاسرة. أما من جهة الشرعية الدستورية، فالحراك الحقوقي على هذا المستوى يطرح مشكلة التصادم المباشر مع مقتضيات الدستور، سواء في تصديره الذي يعتبر المملكة المغربية دولة إسلامية أو في الفصل الرابع الذي يعتبر فيه القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، ويجب على الجميع الامتثال له، أو في فصله السادس الذي يعتبرالإسلام دين الدولة أو في فصله التاسع عشر الذي يعتبر الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات.... وهذا ما تعي حدوده بشكل جيد بعض الجمعيات الحقوقية حين تطالب بأن تكون القوانين الوضعية هي التي يجب أن تضبط العلاقة بين المواطنين وبينهم وبين السلطة في ظل مجتمع ديمقراطي، وحين تطالب أيضا بمواءمة هذه القوانين خ ذات الأصول الإسلامية بصفتها لا وضعية- مع الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان كما عبر عن البلاغ الصادر عن المكتب المركزي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان مؤخرا. أما من جهة الشرعية القانونية، فهذا الحراك الحقوقي يجد نفسه مسيجا بإطار قانوني يحد من أفقه، مما يجعله في موقع المعاكسة لمقتضياته، خاصة ما يتعلق بمجموعة القانون الجنائي في كثير من مقتضياته، سواء ما تعلق بمنع بيع الخمر وتقديمه مجانا للمسلمين أو التنصير أو الشذوذ الجنسي، الإطار العلني في رمضان، وهذا ما وعته بشكل جيد جمعية بيت الحكمة، فكشفت عن مطالبها بشكل واضح ودعت إلى إلغاء هذه القوانين، فاعتبرت رئيسة هذه الجمعية خديجة الرويسي تعليقا على ما أثارته تفاعلات قضية حركة مالي التي أقدمت على الإطار بشكل علني في مدينة المحمدية، اعتبرت أن الفصل 222 من القانون الجنائي جائر ومخالف لحقوق الإنسان وروح الدين الإسلامي! ثم أصدرت الجمعية بيانا على خلفية ما أثارته فتوى الريسوني بحرمة التسوق من المتاجر التي تبيع الخمر، اعتبرت فيه أن استهلاك الخمور بالمغرب يدخل في باب الحريات الفردية الأساسية أن القانون الذي يعتبر بأن الخمر لا يباع إلا للأجانب، أو الذي يعاقب بموجبه مواطنون مغاربة على شرب الخمر أو اقتنائها هي قوانين مخالفة لنص الدستور، مطالبة بإلغائها وملاءمة القوانين الجنائية مع مضمون الوثيقة الدستورية ومع ما تم التعهد به دوليا من طرف الدولة المغربية. واضح إذن، أن هذا الحراك الذي تدفع به أقلية من بعض جمعيات المجتمع المدني، يوجد في مأزق ثلاثي الأبعاد، فهو من جهة محدود الأفق بحكم تناقضه مع متطلبات الشرعية الدينية للدولة المغربية، مما يفرض على هذا المستوى أن تقدم هذه الجمعيات اجتهادات من داخل الشرع تثبت فيها مشروعية مطالبها، وهو ما تحاول بيت الحكمة مقاربته دون جدوى، إذ تضطر إلى استعمال مفهوم روح الإسلام لإعطاء نوع من الشرعية الدينية لمطالبها، لكنها تضطر للاصطدام المباشر مع هذه الشرعية، مما يجعل رئيسة الجمعية في مناقضة صريحة حتى لمواقف الحزب الذي تنتمي إليه، بل ويجعلها تصف قيادة الحزب بالمحافظة. وهو من جهة أخرى، في تناقض مع مقتضيات الدستور، مما يجعلها تحاول تصريف ذلك بتباين بين، فبينما تحاول جمعية بيت الحكمة التأكيد على أن مطالبها دستورية وأن القوانين التي تحرم الخمر أو تجرم الإفطار العلني هي مخالفة للوثيقة الدستورية، توجه الجمعية المغربية نقدها المباشر إلى الازدواجية المرجعية في الدستور، وتطالب بحل هذا الإشكال عبر المطالبة بسمو المواثيق الدولية على ما عداها من القوانين الوطنية بما يسمح بتغيير القوانين ذات المرجعية الإسلامية، أما المأزق الثالث فتحاول هذه الجمعيات أن تصرفه عبر رفع المطالبة بمواءمتها القوانين التي تنظر تمس بالحريات الفردية، حسب زعمها، مع مقتضيات المرجعية الحقوقية الكونية. وهكذا يتضح أن معركة الحريات الفردية التي تحاول بعض الجهات تحريكها في الحقيقة معركة مع الشرعية الدينية والدستورية والقانونية للدولة، وأن الادعاء بأن الإسلاميين هم وحدهم من يقف في وجه الحريات الفردية لا تعدو أن تكون جزءا من التوظيف السياسي لمفهوم الحريات الفردية، تحركه بعض الأطراف لحسابات سياسوية ضيقة لا تراعي الثوابت الاستراتيجية للمغرب.