في سياق الحديث الدائر حاليا بفرنسا، والذي فتحت النقاش فيه الحكومة الفرنسية حول الهوية الوطنية؛ نشرت يومية لوموند في عددها ليوم الأحد الأخير 29 نونبر في صفحتها نقاشات (لجقفَُّّ) مقالا لكبير حاخامات فرنسا جيل بيرنهايم تقدم من خلاله بمقترح أن تستخلص فرنسا بعض الدروس من اليهود الذين استطاعوا الحفاظ على هويتهم؛ إلى درجة يمكن اعتبارهم نموذجا يحتدى في التشبث والاستمرار على مقومات الهوية والحفاظ عليها كما هي على مر القرون، بل وآلاف السنين في وفاء لرسالتها السماوية العالمية كما يقول. وهو ما برهن على قدرة هائلة على نقل الهوية من الأسلاف إلى الأخلاف، مما يمكن أن يفيد فرنسا في محاولتها الحالية لاسترجاع هويتها الوطنية والحفاظ على أسسها. يؤكد كبير حاخامات فرنسا على أن الهوية سمة مستمرة تربط الماضي بالحاضر وتنطلق بنفس الروح إلى المستقبل. ويقول بأن ما يوثق الصلة بالماضي تعلمه المدرسة: إنه التاريخ، والجغرافيا، واللغة، والملاحم الجمعية. فالمدرسة حسب رأيه هي أساس الارتباط بهوية الأمة؛ فجميع الشعوب اليهودية مهما اختلفت انتماءاتهم الجغرافية، وحتى في حالات الفقر المدقع والتهديد بالإبادة؛ حافظوا على نفس النظام المدرسي ونفس التكوين البيداغوجي للمدرسين كأولى الأولويات. فالمدرسة مكان حاسم لتكوين العقل الجمعي والروح الجماعية. واليهودية ظلت دائما تلقن الصغار والكبار على السواء ضرورة تعلم النصوص بشكل يومي، كما لقنتهم واجب التعلم والتربية والتكوين على أساس هذه النصوص. وهذا هو الذي حافظ لليهود على انتمائهم الهوياتي. فبينما قلصت مناهج التعليم الوطنية عند الآخرين من ساعات هذه النصوص ومن ساعات تعلم اللغة والتمكن منها لحساب مواد أخرى ذات طبيعة تقنية وعلمية بحتة؛ فإن اليهود من جهتهم فرضوا إلى جانب هذه العلوم مزيدا من ساعات تعلم جميع مراحل تاريخهم والتمكن من لغتهم؛ وذلك مع التأكيد على أن واجب تعلم التاريخ واللغة هو بدافع هم تمجيد المصير المشترك، وتعميق رمزية الوعي بالتشبث بهذا التاريخ الذي صنع منهم ما هم عليه الآن. يقول كبير حاخامات فرنسا: من لا يعرف اسم تيودور هرتزل كبير زعماء الصهيونية؟ غير أن هناك اسما آخر لا يقل عنه أهمية في تاريخ التأسيس الصهيوني؛ إنه المعجمي واللغوي إليعازر بن يهودا الذي أحيى اللغة العبرية بعد أن كانت ميتة لا تستعمل إلا في أوساط علماء اللاهوت اليهود ونخبهم ويضيف: يمكن عقد جميع الآمال على عملية الإدماج عن طريق اللغة، إن كل لغة هي التي تمنح الحياة للناطقين بها، ومن هنا خطورة أي نقص في عدم تأمين تمكن تام من اللغة الأم. في الإعلام، في المدرسة الابتدائية، في الإعدادية، في الثانوية وفي الجامعة؛ يجب إعطاء قواعد اللغة والنحو الوقت الكافي لتعلمها، وإحياء حب الكلمات والنصوص، وتعليم الناس كيف يعبرون بدون خطإ. لا يمكن لأمة أن تكون لها هوية وطنية بدون لغة، ولا يمكن لها أن تتقدم إلا بلغتها. هذا درس يقدمه حاخام يهودي فرنسي لبلاده فرنسا. وقمين بنا نحن أن نستخلصه من دروس التاريخ وما أكثرها. فليست هناك أمة أبدعت أو تقدمت في التكنولوجيا المعاصرة إلا بلغتها الأم. استهلاك التكنولوجيا ممكن بكل اللغات، ولكن الإبداع فيها والتقدم والتطور بغير اللغة الأم لم يكن ممكنا في أي تجربة في تاريخ البشرية. أحمد العربي