تم في فرنسا منذ يوم الاثنين 2 نونبر 2009 إطلاق نقاش كبير وموسع حول الهوية الوطنية الفرنسية. وتقف وراء هذه المبادرة وزارة الهجرة الفرنسية التي جاء في بلاغها الذي أعلنت من خلاله عن إطلاق هذا النقاش بأنه سيتواصل إلى غاية متم شهر يناير المقبل، وأنه: سيثمر بناء رؤية مشتركة بشكل أفضل حول الهوية الوطنية حاليا. وسيتوج النقاش الذي تشارك فيه جميع القوى الحية بفرنسا (برلمانيون ومنتخبون محليون ومهنيون وجمعيات) بعقد اجتماعات على الصعيد الوطني. وسيتم تقديم ملخص لهذا النقاش من قبل وزير الهجرة خلال لقاء من المتوقع تنظيمه يوم 4 فبراير المقبل. من حق فرنسا كما من حق أي دولة وأمة الحفاظ على هويتها وتحديد ضوابطها ومحدداتها، ثوابتها ومتغيراتها، في إطار من التوافق الوطني المجتمعي، وبمشاركة جميع مكونات المجتمع. فالهوية هي المحدد لاستمرار الكيان الوطني. ولكن، لماذا تصر فرنسا عن طريق مختلف البرامج والمشاريع الثقافية والتَّثَاقُفِيَّةعلى اختراق هويات مستعمراتها القديمة، والعمل على مسخها بمحاولة جعل الهوية هويات والحضارات حضارة واحدة تمتح كلها من قيم فرنسا ومن البنية القيمية للحضارة الغربية (اليهودية- المسيحية)؟ وهو مشروع قديم لم تنجح فرنسا في فرضه علينا عندما كانت تحكمنا بالحديد والنار: فقد صرح أول مقيم عام لها في المغرب بقوله: جئنا لنُحَضِّر الأهالي "Nous sommes là pour civiliser les indigènes " وكأن المغرب ليس بلدا ذا حضارة لها آلاف السنين؛ إلا إذا كان ما يقصد بالحضارة حضارة واحدة ذات مرجعية قيمية واحدة هي مرجعية فرنسا لاغير. ولكن يبدو أن ما فشل فيه ليوطي بالحديد والنار نجحت فيه فرنسا بعد أن أصبحت تحكمنا بالثقافة والفن والمساعدات المقدمة لوسائل إعلام محظوظة، وأفلام تُدعم بسخاء مقابل تشويه الهوية الوطنية فقط، بادعاء أن الهوية هويات وأن الهوية تتبدل مع تبدل الأزمنة وأن المرجعية الوحيدة هي الاتفاقات الدولية، وأن على المغرب أن يرفع تحفظاته. وأن اللغات بريئة، فقط اللغة الوطنية هي المذنبة بالرجعية والتخلف. أين هي هذه الهوية الكونية عندما تخشى فرنسا على هويتها الوطنية وتفتح من أجل حمايتها نقاشا وطنيا يشارك فيه الجميع؟ أين دعاة التخلي عن اللغة والعقيدة، وترسيم الدارجة لغة وطنية إلى جانب الفرنسية بما أنها أصبحت عمليا هي اللغة الرسمية، والاندماج في الحضارة الكونية. لماذا لا يحتجون على هذا الانغلاق الفرنسي الذي يدافع عن هويته؟ يروي الدكتور المهدي المنجرة في مقدمة كتابه تصفية الاستعمار الثقافي، رهان القرن الواحد والعشرين أن شيخا تقدم في أواخر سنوات الاستعمار إلى المقيم العام الفرنسي وقال له ما معناه: يمكنكم يا سيدي أن تنسحبوا من بلادنا دون أن تفقدوا شيئا مما جئتم من أجله، فقد تمكنتم من إعداد فرنسيين آخرين من بني جلدتنا ومكنتموهم من مفاصل الدولة، وسيحافظون لكم على كل مصالحكم دون الحاجة إلى وجودكم هنا مع ما يكلفكم ذلك من أموال وجيوش.