ومن العلامات الدالة على الاستبداد أن الحكومات والدول المستبدة بدل أن تجتهد في نشر التنوير الفكري الذي يؤدي يالشعوب إلى معرفة حقوقها والمطالبة بها وتنظيم نفسها من أجل الرقابة والمساءلة لحكامها مما يؤدي إلى الاستقرار السياسي هو المغالاة في شأن حكامها تغاليها، وفي فخامة القصور، وعظمة الحفلات، ومراسيم التشريفات، وعلائم الأبَّهة، ونحو ذلك من التمويهات من أجل استرهاب الرعايا عوضاً عن العقل والمفاداة، وهذه التمويهات يلجأ إليها المستبدُّ كما يلجأ قليل العزِّ للتكبُّر، وقليل العلم للتصوُّف، وقليل الصِّدق لليمين، وقليل المال لزينة اللباس. ومن العلامات الدالة على عراقة أمة في الاستعباد أو الحرية هو لغتها ؛ هل هي قليلة ألفاظ التعظيم كالعربية مثلاً؟ أم هي غنية في عبارات الخضوع كالفارسية، وكتلك اللغة التي ليس فيها بين المتخاطبين أنا وأنت، بل سيدي وعبدكم. غير أن تأكيد الكواكبي على أهمية علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصّل، والخطابة الأدبية ودورها في التنوير الذي هو شرط التخلص من الاستبداد، وإخراجه للعلوم الدينية التي تكتفي فقط بعلوم المعاد لا يعني أنه ينطلق من مرجعية علمانية كما قد يتوهم، بل العكس صحيح.فالعلم كما عرفه الكواكبي العلم التنويرى هو العلم الذي دعا إليه الإسلام وحض عليه. فالإسلام يقول الكواكبي أولَّ دين حضَّ على العلم، وكفى شاهداً أنَّ أول كلمة أُنزلت من القرآن هي الأمر بالقراءة أمراً مكرراً، وأوَّل مِنَّةٍ أجلَّها الله وامتنَّ بها على الإنسان هي أنَّه علَّمه بالقلم. علَّمه به ما لم يعلم. وقد فهم السَّلف الأول من مغزى هذا الأمر وهذا الامتنان وجوب تعلُّم القراءة والكتابة على كلِّ مسلم، وبذلك عمَّت القراءة والكتابة في المسلمين أو كادت تعمُّ، وبذلك صار العلم في الأمة حراً مباحاً للكلِّ لا يختصُّ به رجال الدّين أو الأشراف كما كان في الأمم السابقة، وبذلك انتشر العلم في سائر الأمم أخذاً على المسلمين! ولكنْ؛ قاتل الله الاستبداد الذي استهان بالعلم حتى جعله كالسلعة يُعطى ويُمنح للأميين، ولا يجرؤ أحد على الاعتراض، أجل؛ قاتل الله الاستبداد الذي رجع بالأمة إلى الأمية، فالتقى آخرها بأولِّها، ولا حول ولا قوة إلا بالله. بل يعتبر الكواكبي أن من أعظم العلم أيضا العلم بحقيقة كلمة لاإلاه إلا الله ولذلك كان المستبدون بالعلوم الدينية التنويرية التي تحرر الناس من العبودية لغير الله ومن الخوف إلا منه ف المستبدون يخافون من العلم حتى من علم الناس معنى كلمة (لا إله إلا الله)، ولماذا كانت أفضل الذكر، ولماذا بُني عليها الإسلام. بُني الإسلام، بل وكافة الأديان على (لا إله إلا الله)، ومعنى ذلك أنّه لا يُعبد حقاً سوى الصانع الأعظم، ومعنى العبادة الخضوع ومنها لفظة العبد، فيكون معنى لا إله إلا الله: لا يستحق الخضوع شيءٌ غير الله. وما أفضل تكرار هذا المعنى على الذاكرة آناء الليل وأطراف النهار تحذُّراً من الوقوع في ورطة شيء من الخضوع لغير الله وحده. فهل خوالحالة هذه- يناسب غرض المستبدين أن يعلم عبيدهم أنْ لا سيادة ولا عبودية في الإسلام ولا ولاية فيه ولا خضوع، إنما المؤمنون بعضهم أولياء بعض؟ كلا؛ لا يلائم ذلك غرضهم، وربما عدّوا كلمة (لا إله إلا الله) شتماً لهم! ولهذا كان المستبدون - ولا زالوا- من أنصار الشِّرك وأعداء العلم. على أن العلاقة التنافرية بين العلم والاستبداد لا تقتصر على الاستبداد السياسي أي على الاستبداد الأكبر بل على كل أنواع الاستبداد أي كل أنواع الاستبداد الأصغر وصغار المستبدين من خدمة الأديان المتكبرين وأرباب الأسر الجاهلين ورؤساء الجمعيات ، وفي ذلك يقول الكواكبي في إشارة إلى الطبيعة الثقافية والبنيوية للاستبداد والتي يمكن أن تخترق المجتمع أفقيا وعموديا إنَّ العلم لا يناسب صغار المستبدين أيضاً كخَدَمَة الأديان المتكبِّرين وكالآباء الجُهَلاء، والأزواج الحمقى، وكرؤساء كلِّ الجمعيات الضعيفة. والحاصل: أنَّه ما انتشر نور العلم في أمةٍ قطّ إلا وتكسَّرت فيها قيود الأسر، وساء مصير المستبدّين من رؤساء سياسة أو رؤساء دين.