كما أنّه ليس من صالح الوصيّ أن يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض المستبدّ أن تتنوّر الرعية بالعلم. بهذا المثال الحي يشخص الكواكبي العلاقة بين الاستبداد والعلم: إنها علاقة عداء وكراهية. الاستبداد يهوى الجهل ويحرص على استدامته ويكره العلم كراهية الخفافيش للنور، لأنها لن تقدر على صيدها من الهوام إلا في الظلام. يقول الكواكبي : لا يخفى على المستبدّ، مهما كان غبياً، أنْ لا استعباد ولا اعتساف إلا مادامت الرّعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء، فلو كان المستبدُّ طيراً لكان خفّاشاً يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، ولو كان وحشاً لكان ابن آوى يتلقّف دواجن الحواضر في غشاء الليل، ولكنّه هو الإنسان يصيد عالِمَه جاهلُهُ. العلم حسب الكواكبي قبسةٌ من نور الله، والله خلق النّور كشّافاً مبصراً، يولّد في النفوس حرارةً وفي الرؤوس شهامةً، ومن طبيعة النّور تبديد الظّلام، والمتأمل في حالة كلِّ رئيس ومرؤوس يرى كلَّ سلطة الرئاسة تقوى وتضعف بنسبة نقصان علم المرؤوس وزيادته. لكن ما طبيعة العلم الذي يخشاه المستبدون؟ ومن هم العلماء الذين يخافهم المستبد؟ إن الأمر يتعلق بالعلوم الحية، فالمستبدُّ لا يخشى علوم اللغة إذا لم يكن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الألوية، أو سحر بيان يحلُّ عقد الجيوش. وهو لا يخاف من العلوم الدينية المتعلِّقة بالمعاد، المختصة ما بين الإنسان وربه، لاعتقاده أنّها لا ترفع غباوةً ولا تزيل غشاوة، إنما يتلهّى بها المتهوِّسون للعلم، حتى إذا ضاع فيها عمرهم، وامتلأتها أدمغتهم، وأخذ منهم الغرور، فصاروا لا يرون علماً غير علمهم، فحينئذٍ يأمن المستبدُّ منهم كما يُؤمن شرُّ السّكران إذا خمر. وهو لا يخاف من العلوم الصناعية المحضة؛ لأنّ أهلها يكونون مسالمين صغار النّفوس، صغار الهمم، يشتريها المستبدُّ بقليل من المال والإعزاز، ولا يخاف من الماديين، لأنّ أكثرهم مبتلون بإيثار النّفس، ولا من الرياضيين؛ لأنّ غالبهم قصار النظر. المستبد يخشى من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف بالحقوق وكيف تتم المطالبة بها والحصول عليها، ولهذا ترتعد فرائص المستبدُّ من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصّل، والخطابة الأدبية التي تفي بهذا الغرض. وأخوف ما يخاف المستبدّ من أصحاب هذه العلوم، أي العلماء العاملين الراشدين المرشدين، لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسهم محفوظاتٌ كثيرة كأنّها مكتبات مقفلة المندفعين منهم لتعليم النّاس الخطابة أو الكتابة، وهم المعبَّر عنهم في القرآن بالصالحين والمصلحين في نحو قوله تعالى: (أنّ الأرض يرثها عباديَ الصالحون) وفي قوله: (وما كان ربُّك ليهلك القرى بظلمٍ وأهلها مصلحون)، المستبدُّ لا يبغض العلمَ ونتائجه فحسب؛ بل يبغضه أيضاً لذاته، لأن للعلم سلطاناً أقوى من كلِّ سلطان، ولذلك لا يحبُّ المستبدُّ أن يرى وجه عالمٍ عاقل يفوق عليه فكراً، فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار الغبي المتصاغر المتملِّق. وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله: (فاز المتملقون)، وهذه طبيعة كلِّ المتكبرين، بل في غالب الناس، وعليها مبنى ثنائهم على كلِّ من يكون مسكيناً خاملاً لا يُرجى لخيرٍ ولا لشرٍّ. العلاقة بين الاستبداد والعلم والعلماء علاقة تنافر وتنافي وعلاقة حرب متواصلة، فالعلماء العاملون يسعون لتنوير العقول، في حين يجتهد المستبدُّ في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام. لكن من هم العوام وما موقعهم في علاقة التناقض والصراع بين العلم والاستبداد؟ إنهم حسب الكواكبي: أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنَّهم هم الذين متى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا. العوام هم قوة المستبدُّ وقُوْتُهُ. بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريماً؛ وإذا قتل منهم لم يمثِّل يعتبرونه رحيماً؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بُغاة. إن الجهل هو الذي يفسر القابلية للاستبداد التي بدونها لن يكون هناك شأن للمستبد والاستبداد، والشعوب الخاضعة للاستبداد إنما هي الشعوب التي ذبحت نفسها بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة، فإذا ارتفع الجهل وتنوَّر العقل زال الخوف، وأصبح الناس لا ينقادون طبعاً لغير منافعهم، كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه، وعند ذلك لا بدَّ للمستبدِّ من الاعتزال أو الاعتدال. التنوير بالمعرفة والعلم مدخل لإشاعة العدل والأمن والاستقرار السياسي والسعادة للحاكم قبل المحكوم، كما أن الرقي بالعلم يجبر المستبد على الترقّي معها والانقلاب -رغم طبعه- إلى وكيلٍ أمين يهاب الحساب، ورئيسٍ عادل يخشى الانتقام، وينال السعادة بعد أن كان في دور الاستبداد أشقى العباد، لأنه على الدوام ملحوظاً بالبغضاء، محاطاً بالأخطار، غير أمين على رياسته، بل وعلى حياته طرفة عين؛ ولأنه لا يرى قطّ أمامه من يسترشده فيما يجهل؛ لأنَّ الواقف بين يديه مهما كان عاقلاً متيناً، لا بدَّ أن يهابه، فيضطرب باله، ويتشوش فكره، ويختلّ رأيه، فلا يهتدي إلى الصواب، وإن اهتدى فلا يجسر على التصريح به قبل استطلاع رأي المستبدّ، فإن رآه متصلِّباً فيما يراه فلا يسعه إلا تأييده راشداً كان أو غيّاً، وكلُّ مستشار غيره يدَّعي أنَّه غير ه