منذ عقود عديدة كَثُرَ في خطابنا الإسلامي المعاصر الكلام عن ضرورة التجديد ووجوبه. ولهذا الحديث دلالة لا بد من الوعي بها وإبصار قيمتها ومستلزماتها، إذ إن هذا الحديث عن الحاجة إلى التجديد دليل على أن مألوفنا في التفكير لم يعد يتناسب مع احتياجاتنا اليوم، ولا هو كفيل بالتفاعل باقتدار مع التحديات الراهنة. لكن الملاحظة التي نريد تسجيلها ابتداء هي أنه رغم هذا الإكثار في الحديث عن التجديد، ورغم كثرة الكتب التي تناولته بقصد إنجازه، يمكن أن نقول إن الوعي الإسلامي المعاصر لا يزال في مرتبة القول والمناداة بوجوب التجديد ولم ينتقل بعد إلى مستوى إنجازه وتحقيقه! فما سبب هذا العجز عن الإنجاز؟ وما عوائق تجديد الوعي الإسلامي ونظام خطابه؟ ثمة عائق أزعم أننا لو استطعنا تخطيه أمكننا الخروج من تلك الدائرة المقفلة، دائرة تكرار المناداة بوجوب التجديد، إلى التأسيس لإنجازه. وأقصد به العائق المنهجي، فالمزلق الأكبر لمحاولات تجديد الخطاب الإسلامي أنها اقتصرت على نقد النتاج ولم تتناول نقد الآلة التي تنتج ذلك النتاج. بينما لو أردنا تجديد الخطاب الإسلامي نحتاج ولا بد إلى تجديد في الآلة المنهجية التي يصدر عنها، لا الاقتصار على تحويل أو نقد أو تجديد في نتاجات تلك الآلة. فلو كانت لدينا آلة صناعة الثوب، وكانت تلك الآلة تخرج لنا قطعا من الثوب فيها خرق، فإنه من العبث الجلوس لترقيع تلك القطع المثقوبة، لأنه مهما رقعنا فإن الآلة ستنتج من بعد قطعا ثوبية مخروقة، ولذا فالصائب هو الذهاب إلى مصدر الخلل، أي الآلة لإصلاحها، لا الاقتصار على إصلاح منتوجها. وكذلك الحال في الخطاب الإسلامي المعاصر، فبدل نقد فكرة هنا، وترقيع أخرى هناك، ورفض ثالثة بين هذا وذاك، ينبغي أن نضع أيدينا على الآلة المنهجية التي تنتج تلك الأفكار الجامدة، التي لم تعد تتناسب مع زمننا ولا تشبع احتياجاتنا العقلية والنفسية والمجتمعية، ليتم تجديد الآلة أو إصلاحها أو تغييرها. لذا نؤكد هنا أن الخطاب الإسلامي المعاصر يحتاج إلى نقلة منهجية، ولن يتحقق التجديد ما لم تتحقق تلك النقلة بمدلولها المنهجي، لأنه عندما يطال التجديد منهج التفكير، يلحق ولا بد ما يصدر عنه من منتجات. أما الاقتصار على تجديد أو تبديل ثمار ومنتجات منهج سائد فثمار ومنتجات منهج سائد فإنه ليس بالذي يكفي لإنجاز التجديد الفعلي، لأنه يقتصر على تغيير في نتاج الآلة، لا تبديل الآلة ذاتها. وهذا الاقتران بين تجديد المنهج وإنجاز التحول التجديدي الفعلي ملاحظ سواء تراثنا أو في تراث غيرنا من الشعوب التي عاشت تحولات ثقافية وحضارية كبرى. فالإسلام لم يقتصر عند نزوله على تغيير عادات اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، بل استهدف تغييرا نفسيا وفكريا جذريين، حيث كان منهج التفكير في الجاهلية مشدودا إلى العرف والعصبية القبلية، ملتصقا بسذاجة الوعي الوثني بأحجار يخلع عليها القداسة والإجلال، فجاء الإسلام فغير منهج التفكير وجعل له منطلقا جديدا هو الوحي، فأصبح العقل العربي عندئذ يصدر عن الوحي ويستنبط منه ويقيس عليه، فتبدل واقع النفس والحياة تبديلا كبيرا. حيث كان تغيير منهج التلقي وأساس التفكير منطلقا لإنجاز تغيير يتسم بالجذرية والشمول. وتأسيسا على ما سبق نرى أن الحديث اليوم عن المشروع الثقافي العربي، أو المشروع الثقافي الإسلامي، والإشكالات التي تعوق تجديد مجالاته المعرفية، سيبقى مجرد لَوْكِ كلام ما لم ندرك أن التجديد الثقافي لا يحصل إلا بحصول تجديد في المنهج، ونعمل على توجيه العمل وتسديده في هذا الاتجاه.