تستحق الصفقة التي أبرمت بين حركة حماس ودولة العدو، وأفرج من خلالها عن عشرين أسيرة، مقابل شريط مصور لمدة دقيقة واحدة للجندي الأسير شاليط، تستحق الكثير من التوقف لجهة دلالاتها السياسية والنضالية.. ما ينبغي أن يقال ابتداء هو أن مجرد احتفاظ كتائب القسام بالجندي الأسير طوال ما يزيد عن ثلاث سنوات هو إنجاز كبير بحد ذاته. إنجاز ينطوي على الكثير من الإذلال للعدو الذي لم يعتد هذا النمط من التحدي، بخاصة في ساحة الداخل، مع العلم أننا نتحدث عن مساحة ضيقة فيها الكثير من العملاء والأعداء، كما أن سماءها تزدحم بأحدث أجهزة التجسس في العالم.. لن نتوقف كثيرا عند النفاق الدولي حيال الجندي الأسير، مقابل تجاهل حوالي عشرة آلاف أسير فلسطيني، ليس لأننا تعرضنا له مرارا وتكرارا فحسب، بل لأنه بات أمرا معروفا في السياسة الدولية التي تمنح الدولة العبرية مكانة خاصة، فيما تمنح اليهود مكانة أعلى بكثير من البشر الآخرين، بمن فيهم الغربيون أنفسهم. سيتساءل البعض لماذا الإفراج عن أسيرات فقط، وهل لذلك دلالة على طبيعة النظرة للمرأة وضآلة حضورها في حركة النضال الفلسطيني، وهنا نرد بالقول إن المرأة الفلسطينية، والمتدينة منها على وجه الخصوص لم تكن غائبة عن ساحة الجهاد ضد العدو، ويكفي أن نعرف أنها هي من يتحمل تبعات الجهاد أكثر من الرجل، فهي التي تتولى مهمة الحفاظ على أبناء الشهيد وأبناء الأسير، وهي الأم وهي الأخت وهي الزوجة، وهي البنت، والخلاصة أن عدد الأسيرات قياسا إلى عدد الأسرى لا يعكس بحال حضور المرأة في حركة النضال. بالنسبة للصفقة ذاتها، من المهم التأكيد على ما تنطوي عليه من إذلال للعدو الذي اضطر لدفع هذا الثمن مقابل معلومة، مجرد معلومة عن الجندي، الأمر الذي يعكس انتصارا رمزيا للمقاومة بصرف النظر عن عدد الأسيرات، وعن عدم شمول الصفقة لأسيرات الأحكام العالية مثل البطلة أحلام التميمي التي ينتظر أن تكون بين المفرج عنهم في الصفقة التالية إذا تمت.. في دلالة الصفقة أيضا، هناك البعد المتعلق بالحضور الألماني الذي أتمها. صحيح أن بعض الفضل قد ردّ إلى مصر في الخطاب الحمساوي، لكن ذلك لم يكن سوى محض مجاملة لا تخفي حقيقة أن الدور الألماني كان هو الحاسم، مع العلم أن الدور المصري ينبغي أن يكون منحازا للفلسطينيين وأسراهم، وليس مجرد وسيط مثل الألمان. في دلالات الصفقة هناك ما يتعلق بانتماء الأسيرات، والذي عكس روحية المواقف التي تتبناها حركة حماس، تلك التي لا تفرق بين أبناء الشعب الفلسطيني. ففي حين تتعرض زوجات الشهداء والأسرى من حماس للملاحقة من قبل السلطة في الضفة الغربية (دعك مما يجري لأزواجهن)، تقوم حماس بتحرير خمس من أسيرات حركة فتح، مقابل أربع من الحركة وثلاث من الجهاد وواحدة من الشعبية وسبع بلا انتماء تنظيمي.. إنها رسالة إلى من يعنيهم الأمر عنوانها أن التوحد لا يكون إلا في دروب المقاومة ، بينما لا تنطوي مسارات التنازل والتعاون مع العدو إلا على مزيد من النزاع والصراع، مع إدراك العقلاء لحقيقة أنها مسارات عبثية لا تعيد الحقوق ولا الكرامة.بقيت كلمة بالغة الأهمية لا بد منها في أي سياق يتعلق بالأسرى، وهي أن من العبث أن يصار إلى تحريرهم من خلال التخلي عن القضية التي من أجلها جاهدوا وأسروا، ومن أجلها ضحى الشهداء بأرواحهم. فرحتنا بخروج الأسيرات كانت على موعد مع قدر كبير من القهر الذي مثله موقف السلطة من تقرير غولدستون بشأن الحرب على غزة، حيث طالبت بترحيل التقرير تجنبا للضغوط الأمريكية ومن أجل تمرير صفقة شركة الموبايل التي يساهم فيها بعض الأبناء، وتجنبا لتهديد ليبرمان بكشف تحريض السلطة على الحرب الأخيرة ضد حماس. موقف السلطة كان فضيحة بحسب تعبير عدد من الدبلوماسيين الأجانب ورموز منظمات حقوق الإنسان الدولية، لكنه لم يكن مستغربا بالنسبة إلينا، فالمسلسل على هذا الصعيد صار طويلا، والقوم كسروا كل المحرمات. ولن يسعف القوم حديثهم عن تضييع فرصة السلام، إذ يعرف الجميع بضاعة نتنياهو على هذا الصعيد ، لكن من يضع نفسه تحت رحمة الاحتلال في حله وترحاله وحياته واستثماراته، بل يستعين به ضد أبناء شعبه، لن يجرجر رموزه كمجرم حرب في المحاكم الدولية.