هل المتشدد وسطي؟ وهل الوسطية قابلة للانضباط النظري؟ وهل قابلة للمأسسة؟ ما بين منتدى عمان للوسطية والمركز العالمي لذات المفهوم في الكويت لا تزال التساؤلات مشرعة عن الوسطية.. أسئلة تنزل وفتوى لا حكم واجتهاد.. في هذا الحوار لموقع اسلام أنلاين ذؤكد المفكر أبو وزيد المقرئ الإدريسي أن الوسطية ليست جديدة على الدين الإسلامي، ولكنها جديدة على الفكر الإسلامي.. وهو ما جعلها تواجه مخاضا وامتحانا تنظيريا.. فهل هي منهج.. اتجاه.. موقف؟ كان ل مدارك هذا الحوار مع الإدريسي الذي فرع وأصل للمفهوم داخل الشبكة القيمية الإسلامية محاولا الإجابات عن هذه التساؤلات. ونظرا لأهمية الحوار نعيد نشره تعميما للفائدة: للوسطية تعريفات شتى وغالبها يضعها بين حدود تتحرك خلالها.. أو يصدرها بحسبانها رقة الطبع ولين الكلام.. وهذا يدعونا لنسألك عن رؤيتك للوسطية.. وهل لديك مفهوم يستوعب تمددها غير المتناهي؟ أريد أن أقول في البداية إن تيار الوسطية قد فرض نفسه في الساحة الإسلامية كخيار بالحجة والإقناع، وبالنتيجة العملية والمآلات العملية لخيارات أخرى غير الوسطية، والحمد لله أن كتب للوسطية رجل بحجم الشيخ يوسف القرضاوي حتى يكون رائدها ومرسخها والمنظر الأكبر لها. ولم تكن الوسطية والدعوة لها تلقى تجاوبا عند الشباب المتحمس؛ لأنها مقرونة بما أشرت إليه أنت من اللين، المفضي إلى الضعف، إلى أن تَبين أن رواد الوسطية، هم رواد المقاومة والصمود. فيوسف القرضاوي هو أكبر مدعم معنويا وفكريا للمقاومة في أفغانستان والعراق وفلسطين، مدعما لها أيضا بالفتاوى وبالمؤسسات وبجمع التبرعات، وهو نفسه هو رائد الوسطية التي تتصدى لكل أشكال التطرف والتنطع والتشدد. ويتبين عمليا أن الوسطية ليست خيارًا إسلاميًّا أمريكيًّا كما سماه سيد قطب، أو هو إسلام يريد أن ينزع روحه وهو الجهاد، هذا الخيار الذي من أجله أنشأ ديانات ومولها، كالقاديانية والبهائية في القرن التاسع عشر والعشرين، وما زال يدعمها، هذا الخيار الذي توجه له أمريكا المليارات الآن، وأنا مسئول عما أقول، وليس الملايين، من أجل تكريس ما سمي بفرقان الحق، طباعة ونشرا وتفسيرا وتوزيعا، ليكون بديلا للقرآن، لمجرد أنه استُل منه مفهوم الجهاد، وأيضا مفهوم النكير على الصليبيين لما أحدثوه في الدين من شرك ووثنية، فتبين إذن أنه لا علاقة للوسطية بهذا التوجه الاستسلامي، الذي هو توجه من صناعة بريطانية وأمريكية وأهداف صهيونية. الوسطية والقيم وأين مكان الوسطية دخل خريطة القيم الإسلامية؟ والوسطية بعد هذا التوضيح التصوري واللغوي العام هي بالأساس منهج الدعوة الإسلامية؛ لأن الله عز وجل جعل الأمة وسطا، بين من غالوا في الدنيا كاليهود، ومن غالوا في الآخرة كالنصارى، بين من أفرطوا في الإيمان لدرجة الخرافة كالنصارى، وبين من فرطوا في الدين إلى درجة الإلحاد الدنيوي كاليهود. الوسطية أيضًا وسط في الأرض، فالأرض الإسلامية وسط بين كل الأراضي والأقاليم والقارات، وسط في الاختيارات فهي تجمع بين خيري الدنيا والآخرة، تجمع بين الجهاد والسلام، فالإسلام دين السلام، ودين الجهاد، وليس هناك تناقض، فالإسلام ليس دين إبادة وعنف، وليس دين استسلام وسلبية وانتحار. الوسطية في التصورات وفي العقائد، وفي التصور الكوزمولوجي الكوني الوجودي، حيث الألوهية لا تلغي الإنسانية، وحيث يستطيع الإنسان أن يجد موقعه الكريم والمكرم في ظل الألوهية؛ لأنه يجمع بين كونه عبدا لله، وسيدا للكون وفقا لمبدأ التسخير. الوسطية في الأخلاق، فلا مثالية تجعل الإنسان ضحية للخديعة، ولا مادية تجعل الإنسان نهابا مكارا سارقا أثيما، الوسطية في التعامل مع الناس. وفي العلاقات الاجتماعية والزوجية، وسطية في الأسرة بين تطرف حرم الزواج أصلا ودعا للإباحية، وبين تطرف حرم الطلاق وجعل قدسية الأسرة تساوي استمراريتها؛ إذ أباح الله سبحانه وتعالى الطلاق مع وجود حرمة عظيمة لما سمي بالميثاق الغليظ، وهو الصلة بين الرجل والمرأة. هكذا نجد الإسلام يطرح في تشريعاته التعبدية والمعاملاتية، والعلاقات الاجتماعية، وفي تصوره الوجودي، وسطية في العمودين المتعامدين.. أحدهما إلى أعلى صلة بالله.. والآخر إلى الوسط صلة بين الإنسان. الوسطية في الدعوة إلى الله، حيث الصرامة في الدفاع عن الله دون مجاملة من أحد، وفي نفس الوقت اللين، والكلمة الحسنة {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، ولكن {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}، فلا نتطرف تطرف المذاهب الكنسية التي أباحت الشذوذ، وسمحت للقساوسة أن يكونوا شاذين، بل وزوجتهم داخل حرم الكنيسة، ولا نصل إلى الدخول على الناس إلى بيوتهم وانتهاك حرماتهم، بحجة التفتيش الأخلاقي، كما أعلنته الفرمانات البابوية، وعلى رأسهم فرمان البابا جريجوريوس الأول الذي حوَّل باسم الدين والأخلاق، بيوتَ الناس إلى حرمات منتهكة بحجة البحث عن الفاسدين والمنحرفين. الدين الإسلامي أيضًا وسط في مواجهته للآخر في حربه وصراعه معه، فالأصل هو العلاقة الإنسانية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فالأصل التعاون على الخير، (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُم}، والمصاهرة مع أهل الكتاب حل لنا، ولكن من الجهة الأخرى، {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. وسطية في الجمع بين الرؤية الواقعية والرؤية المثالية؛ لأن الإسلام ينطلق من معطيات الواقع، ويقف أمامها موقف المعتبر، فالقرآن الكريم نفسه هو راعَى الواقع، فانفك عن ترتيب الأزلي الذي في المصحف، إلى ترتيب النزول، وراعى أسباب النزول، وراعى المكي والمدني، وصارت علما، وراعى الناسخ والمنسوخ وصارت علما. حتى الوحي نفسه خضع للواقع وراعى الواقع، ولكن الإسلام في نفس الوقت جاء لإصلاح الواقع وتطويره، وليس للخضوع له، فواقعية الإسلام ليست وقوعا في الواقع، ولكن مراعاة الواقع، وهذا هو الفرق بين الرؤية الوسطية في التعامل مع الواقع وعدم الرؤية الوسطية. عمومية الوسطية لكن هناك سؤال يطرح نفسه.. فمفهوم الوسطية عام وواسع وفضفاض، هل هذا الطرح الفضفاض ميزة تميزه بحيث يستوعب الجميع، ويقصي التطرف أم أنه يعيبها باعتباره غير محدد؟ جميع المفاهيم تأخذ طابعا عقليا مجردا عامًّا، وإلا ما صلحت أن تكون قاعدة، فليس العيب في صياغة المفاهيم أن تكون عامة، وإلا لو كانت خاصة ما أصبحت مفاهيم، لصارت فتاوى أو وقائع أو تطبيقات رياضية عملية. كما أنه ليس هناك عيب في تعريف يعرف الآخر، فالنظرية البنيوية قامت على تعريف الشيء بما ليس هو، وهذا موجود في كل النظريات الهندسية، من علم الهندسة إلى علم الأصوات، ففي كل المجالات تحديد الشيء بما ليس هو؛ لأن التعريف حد، والحد هو رسم الخط الفاصل بين الشيء ونقيضه، الذي هو نهايته سواء بالمعنى الهندسي أو بالمعنى النظري. إذن ليست المشكلة أن يكون مفهوم الوسطية مفهومًا عامًّا، لكن المشكلة في تنزيل الوسطية، وهذا ليس خاصا بالوسطية، بل خاص بكل المفاهيم والمعالم، فالتنزيل يدخلنا إلى عالم آخر، يخرجنا من عالم الفكر إلى عالم السياسة، وأنا أقول إن الوسطية في التصور الإسلامي هي العلاقة مع الآخر سلميا، وهي استثناء لعلاقة قتال لدفع معتدٍ، وفق الآية التي ذكرناها. متى أنزل اختيار الحرب أو اختيار السلم؟.. هذا يتعلق بالقرار السياسي للأمة أو للجماعة أو للدولة، وهذا القرار يتخذ بالشورى، فنجد أنفسنا ملزمين بتعريف الوسطية بوجه عام أنه منطق الأشياء وطبيعتها، وأن تنزيلها يحتاج إلى القرار الشوري، فإذا كان العلماء مجتمعين في تنزيل نازلة، أو إصدار فتوى، في واقعة -وفق منظور إسلامي- فلابد أن تراعى الشورى، وأن يراعى أهل الذكر من العلماء، إذا كان القرار جمعوي، فالهيئة أو المنظمة المدنية أو الجمعية الأهلية أو المجتمع المدني المنعقد ينبغي أن يتخذ قراره وفق المصادر والقوانين، إذا كانت دولة لها مجلس شورى وعلماء فإنها تتخذ قرار الحرب أو السلم عن طريق الشورى، وإذا كانت حركة إسلامية دعوية، فينبغي ألا تكون هيئة القيادة مستبدة، وغير مقصية للآخرين في القرار ومستوعبة للتجديد والتطوير وللاقتراحات. إذن الوسطية نظرية في حاجة لسياسات لتنزل؟ الوسطية بشكل عام هي اختيار فكري فلسفي منبثق من الطبيعة السمحة للإسلام، هي وسطية الإسلام نفسه، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، ولكن تنزيلها على الأرض، وإخراجها من فضفاضيتها النظرية، يكون بالقرارات المسئولة والتي ليس لها إلا ضامن واحد وهو الشورى.. لأن هذه الأمة لا تؤمن بالعصمة لأئمتها؛ لأن العصمة فقط للأنبياء والنبوة ختمت، ولكن الأمة معصومة في مجموعها، فلا تجتمع الأمة على ضلال، فينبغي أن ننشد القرار الصائب بالاقتراب من العصمة عن طريق الشورى. عرفت وأصلت للمفهوم وفرعت عليه أيضا.. ولكن تظل القضية هنا عن أي وسطية نتحدث.. إذا كان الإخواني والسلفي وغيرهم.. كلهم يتحدثون عن الوسطية.. هل الوسطية هي الإسلام نفسه، أم أنها تيار داخل الإسلام؟ ومن هو الوسطي الأمة.. أم الإسلام نفسه؟ وما زالت نقطة التحديد هي الإشكال حتى الآن؟ أولا: نحن نسند الصواب دائما إلى الإسلام في كل المواقف والاختيارات.. سواء الوسطية أو غيرها.. فعندما أخذنا مثلا قضية العقيدة وهي قضية حساسة، وعندنا نظريات في العقيدة وفلسفاتها وكتبها، تصورات الأشاعرة أو المعتزلة، ليست هي العقيدة الإسلامية السمحة، ولكن هي اجتهاد بشري لإدراك وجه السماحة في هذه العقيدة. ولذلك نحن لا ننسب السلامة إلا لعقيدة الإسلام، وليس لفكرنا العقدي؛ لذلك فالوسطية ننسبها للإسلام، ونتنافس {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} في الاقتراب منها، ومقاربتها عمليا وتطبيقها على أرض الواقع، ونجتهد في أن نبحث عن أصول تنظيرية تخرج الوسطية من الهلامية، أو هذا الطابع الأخلاقي النظري، كي تدخله في إجراءات عملية مضبوطة تؤسس للفكر النظري. وإذا كان الكل يطلب ود الوسطية، وصلا بليلى، وليلى لا تقر لهم بذاك.. فإن هذا دليل على تطور الوسطية، فقبل عشرين سنة كانت الوسطية سُبة، وموسوم بها علماء السلطان، وهي تهمة الإسلام الأمريكي والبريطاني والصهيوني، بالعكس ما كان السلفي يقبل أن يكون وسطيًّا، وما كان الثوري والمقاوم يقبل ذلك، ولا حتى الراديكالي أو الشيعي، بالعكس الآن صار الجميع يتكلم عن الوسطية ويسندها لنفسه ويحتكرها دون الآخر ويدعي أنه الأحق بها. هذا انتصار لفكرة ضمن مجموعة من المعالم، استطاع تيار أن يخرجها من القرآن ويستخرجها من الدين، واستطاع أن ينظر لها، وهذه صناعة الأفكار التي تكلم عنها مالك بن نبي في كتابه ميلاد مسلم وكتابه مشكلة الثقافة وكتاب الصراع الفكري في بلاد مستعمرة؛ لأن إخراج الأفكار من القرآن وبلورتها كمفاهيم تاريخ تقدم الفكر الغربي، وهم الآن وضعوا مادة تدرس في الجامعات الغربية تسمى تاريخ الأفكار، ولم يسموها تاريخ الفكر، ويدرسون أيضا تطور الأفكار، الغرب السياسي والاجتماعي والتعاقدي النضالي.. الغرب بالكامل تطوره هو تطور أفكار، ونحن الآن بدأنا أن ننتج أفكارا. وفكرة الوسطية ليست جديدة على الإسلام، لكن جديدة على الفكر الإسلامي، استخراجها وغرسها وجعلها البوصلة، قد تصبح عنوان عصر آخر، قد يصبح عصر النهضة، أو عنوان العصر التكنولوجي، وهذا لا يعني أننا نستبعد الوسطية، ولكن الآن وفي هذه المرحلة، نحن فاقدو البوصلة، بين الاستسلام أو المقاتلة حتى الموت، هل نكون راديكاليين أو مسالمين، فاختيار المرحلة الآن هو إبراز فكرة الوسطية، حتى إننا نرى الجميع يخطب وُدَّها، ويتغزل بها ويدعيها. حوار مصطفى عاشور - عبد الله الطحاوي