يوصف الإسلام من قبل خصومه بأنه أكره الناس بالسيف ومارس عليهم القتل، ووضعهم تحت طائلة الإعدام من أجل أن يدخلوا فيه ويعتنقوه. لقد جيش الإسلام -حسب هذه الدعوى- جيوشا وفتح بها العالم، وبالتالي فالإسلام مثل باقي الإمبراطوريات الكبرى قد لجأ للقوة، واستعمل أقساها وهي القوة العسكرية لاحتلال الشعوب وإكراهها على التحول إلى الإسلام، كما كان يقول المستشرقون التقليديون دائما: إن الإسلام انتشر بالسيف. وسوف أكتفي هنا أيضا ببعض المحددات والمبادئ والسلوكات. فمن خلال السياق التصوري، نستشف من قوله تعالى في إعلان واضح وصريح ومبدئي:كتب عليكم القتال وهو كره لكم (البقرة/216)، إن القرآن يبين أن الفطرة الإنسانية والفطرة الإسلامية تنبذ العنف وتكره استعمال القوة أو الإفراط في هذا الاستعمال. إنها فطرة مسالمة سلمية. ومعلوم أن القاعدة الكلية في الإسلام وهي أن التشريعات تتأسس على أساس الفطرة، فالأمر بالتوحيد ينبني على فطرة عبادة الله عز وجل وتوحيده وتعظيمه، وأمر الزوج بالنفقة على عياله يرتكز إلى فطرة الكرم التي ركزت في الإنسان، والنهي عن الظلم والإيذاء والاعتداء يستند إلى أن الإنسان مفطور على كراهية الظلم وعلى استنكار العداء، والنهي عن الكبر مبني على أن الإنسان قد ركزت فيه فطرة التواضع وكراهية المتكبر، فلا يكره الإنسان شخصا لم يؤذه كما يكره المتكبر لمجرد مشيته المتبخترة. كل هذا يدل على أن ما أسميه بالتأسيس الفطري للأحكام الشرعية مطرد في كل أحكام الإسلام، ومعنى هذا أن التأسيس لحكم شرعي بالمسالمة وتجنب العنف يستند إلى فطرة كراهية القتال، مما يقوم دليلا واضحا على أن القتال حالة استثنائية في الإسلام. يبين السياق السياسي والتاريخي لتشريع القتال في القرآن الكريم أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير (الحج/39)، أن الإذن بالقتال نزل في سياق الدفاع والاقتصاص، وهذا هو الشرط الوحيد والظرف الوحيد والاستثناء الوحيد الذي يجيز فيه الإسلام استعمال القوة؛ أي يجيزه لمواجهة القوة؛ استعمال الردع لمواجهة الاعتداء، استعمال الخشونة لمواجهة الخشونة المضادة. إن هاتين الآيتين وغيرهما لا تكتفيان بالتشريع أو بالبيان، وإنما تخلقان جوا عاما ينبذ عبادة القوة والاحتكام إليها، وهو جو مناقض للجو السياسي العام الذي نزل فيه القرآن، والذي ظهرت فيه دولة الإسلام، بحيث كانت جميع الدول والأمم المحيطة به تعبد القوة، من الرومان إلى الفرس إلى الحبشة وغيرهم. إن الحديث عن الجهاد في القرآن هو تدبير حل لمشكل لا سعي لخلقه، وإن تشريع الجهاد ليس للمبادرة بغرس هذا السلوك كاختيار عند المسلمين، وإنما هو سعي لمواجهة حالة موجودة وقائمة وما زالت عند البشرية التي لم تنضج بعد إلى يومنا هذا. إن سياق الحديث عن القتال واعتماد القوة واضح في عموم تشريع الإسلام (مثل سياقات الحديث عن مشكل الرق أو مشكل الفقر أو مشكل العنف في العلاقات الاجتماعية) هي سياقات لتدبير هاته المشاكل لا لتبنيها. ويتبين ذلك أكثر عندما ندخل في تفاصيل فقه الجهاد، فمن جهة يعتبر الإسلام استعمال القوة في الجهاد حالة اضطرارية تتوقف فور توقف دواعيها: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله (الأنفال/58)، وجواب الشرط هنا بالفاء الملزمة بالفور والعجلة والسرعة، بمجرد ما يكف العدو عن الاعتداء على المسلم أن يتوقف فورا عن عملية رد هذا الاعتداء. فهذا عهد سلم لكف الأذى المتبادل، يأمر القرآن بتبنيه. وعندما يتكلم القرآن الكريم عن المعاهدين ينهى عن كل أشكال إيذائهم أو نقض العهد معهم، ويعتبر ذلك غدرا وكفرا يخرج من الملة: إلا الذين عاهدتم من المشركين (التوبة/4)، وعندما يتكلم القرآن الكريم عن ضبط العلاقات مع الآخر، يحددها تحديدا عمليا قائما على محدد واحد وهو درجة استعماله للعنف: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين و أخرجوكم من دياركم و ظاهروا على إخراجكم (الممتحنة/98)، فالقرآن يبين بوضوح أن الموقف من الآخر ليس موقفا من دينه ولا من عقيدته ولا من حضارته ولا من حقه في الوجود، ولا من هيمنته على جزء من هذه الأرض أو من مساهمته في بناء الحضارة أو منافسته للمسلمين في مجالات اقتصادية وسياسية أو ثقافية، وإنما هو موقف من اعتدائه على المسلمين، فمن اعتدى على المسلمين حرمت معاشرته ومبايعته ومناكحته والتعاون معه، وإذا توقف عن إيذائهم فإن كل ذلك يعود إلى دائرة الجواز، بل ويصبح هو الأصل. وعندما يقول عز وجل: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، يبين أن الأصل هو البر وهو القسط وهو الإحسان، فلسنا مأمورين فقط بمهادنتهم أو مسالمتهم وعدم الاعتداء عليهم، بل نحن مأمورون بالإحسان إليهم والبر بهم والإقساط إليهم، وهذا مستوى عال في العلاقات الإنسانية. لكن ذلك يتوقف استثناء إذا كان هناك داع واحد؛ وهو أن يقاتلونا في الدين لإكراهنا على الرجوع إلى الكفر و نزع صفة الإسلام عنا أو إخراجنا من ديارنا أو المظاهرة على إخراجنا. وحتى عندما يحتاج المسلمون لذلك، فإن على المسلم ألا يغدر وألا يبيت وألا يباغت، وعليه أن يعذر وأن ينذر ويوضح: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء (الأنفال/58)، فلا بد أن ينبذ المسلم إلى العدو، ويعلمه و يهيئه نفسيا وينذره بالحرب، فإن أصر على الخيانة آنئذ يقاتله، وإذا لم يصر فإنه يرجع عن الأمر. هكذا تتضح ثلاثية الخصيصة الجهادية، فالجهاد دفاعي:يقاتلون...ظلموا، واضطراري:...كره لكم، ومؤقت:...فاجنح لها.