أبو زيد المقرئ الإدريسي يحاضرحول قرآنية الرحمة-الحلقة الرابعة الجهاد الإسلامي بين الرحمة والخوض في الدماء تحدث أبو زيد المقرئ الإدريسي، في الحلقات الثلاثة السابقة من المحاضرة، التي شارك بها في مؤتمر عالمية الإسلام لجمعية الدعوة الإسلامية العالمية بطرابلس بليبيا، عن قرآنية الرحمة وإقرار الإسلام بحق الآخر في الاختلاف وإبداء الرأي وقدم آليات لإدارة الخلاف بين الأديان، وفي هذه الحلقة يتناول أبو زيد العدالة الإلهية والآخر لدى الغرب واليهود المنحرفين، ليرد على شبهة أن الإسلام أكره الناس للدخول فيه بالسيف، وهو ما يناقض دعوته إلى الرحمة. رحمة الإسلام تقر بسواسية البشر وفي إطار العدالة الإلهية يتضح معنى قوله تعالى:(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)(الزلزلة-8)، ومَنْ هنا للعاقل المجرد، وليست موسومة بصفة دينية ولا صفة عرقية ولا جنسية ولا لونية، وهذا واضح في القرآن في تصحيح الانحرافات الدينية، فعندما قالت اليهود والنصارى: (نحن أبناء الله وأحباؤه)، أجابهم القرآن بقانون:(قل فلم يعذبكم بذنوبكم)، ويضيف:(بل أنتم بشر ممن خلق)(المائدة-02)، فأنزلهم إلى مستوى الآدمية المشتركة، ونفى أي صفة أو تأسيس لعقيدة عنصرية: عقيدة شعب الله المختار، أو عقيدة نحن الأحق أو نحن الأولى التي تبيح للإنسان اللجوء إلى العنف. فأي رحمة مثل هذه؟ عاطفة حب وإنصافا تسوى البشر جميعا أمام قانون الله العادل، لكنها عاطفة تتأسس على بناء عقلي وتصوري صارم! أما الحضارة الغربية القائمة على أسس الأخلاق المسيحية خ اليهودية كما تزعم لنفسها، فلم تثبت قط قدرتها على قبول الآخر، ولا على تحمل الاختلاف معه، ولا على فهم العالم إلا على صورة نمطية موحدة، هي أن يكون انعكاسا لصورته المهيمنة، منذ عهد الرومان إلى زمن العولمة. الغرب يحاور نفسه بنفي الآخر إن أحد ثوابت الفكر الغربي هو نفي الآخر، و قد وضح ذلك جيدا مفكرون نقديون متميزون ممن لهم فضيلة الفكر المؤسس والإبداع المتميز، بل والعيش لمدة طويلة داخل المجتمع الغربي كجارودي وإدوارد سعيد، بينوا أن الغرب لا يحاور الآخر ولا يقبله، وأنه في العمق يحاور نفسه بنفي الآخر، لأن الآخر مشروع للهيمنة والإقصاء، بما أنه مشروع للتحكم والسيطرة والاستغلال، وليس مشروعا للتعايش. يقول فؤاد سعيد:ولأن العلاقة علاقة معرفة فقط، وعلاقة انفصال واغتراب، فقد كان أمرا طبيعيا أن تصبح علاقة عدائية، ذلك أن الهدف النهائي لإنسان الغرب الحديث تحدد في معرفة العالم وفهم قوانينه من أجل السيطرة عليه، وذلك في تجسيد واضح لذلك المنظور، الذي نجده عند دارون، كما نجده عند هوبس الإنسان في حرب دائمة مع الآخرين.... إننا نجد أن الغرب عبر تاريخه الطويل، رغم أن خطابه اليوم هو خطاب التسامح والإنسانية والتعايش والديمقراطية وحقوق الإنسان، كان دائما يقصي وينفي الآخر. فمن الرومان إلى الأمريكان، من الإمبراطورية الرومانية إلى العولمة الأمريكية، نجد حوارا متمركزا حول الذات أو ما يسمى التمركز حول الأنا. فالغرب لا يحاور الآخر، وإنما يحاور نفسه بصدد ألآخر، ويتحدث مع نفسه عن أشكال تصور الآخر وعن أشكال التعاطي معه والهيمنة عليه واستغلاله ومحاولة تنميطه بإلزامه بالمقاييس والمفاهيم الغربية. فمن الرومان، الذين كانوا يعتقدون بضمير مرتاح أن الأمة المهزومة تفقد حقوقها بكل بساطة، لأن المنتصر يؤسس لعقيدة القوة عن طريق الانتصار، والمهزوم مهزوم، لأنه فقد القوة، إلى أمريكا التي تقول اليوم:من ليس معي فهو مع الإرهاب، وتختصر البشرية كلها في حذلقة سوفسطائية نفاها الفكر الإنساني الغربي نفسه منذ ألفين وخمسمائة سنة، عندما جاء سقراط، لكي يحارب السوفسطائيين، الذين كانوا يعتمدون على الاستدلال القائل:أنا لست أنت وأنا لست الحمار، إذن أنت الحمار !، كأنه لا يوجد في الدنيا إلا أنا (أي الذات الغربي)، والآخر هو الحمار !. وهذا عين التتويج لمنطق القهر العولمي في الاقتصاد والثقافة، والسياسة وحقوق الإنسان، وكذا في قضية المرأة وقضية الطفولة والقضايا النقابية والعلمية والمنهجية. الغرب يريد أن يكون الآخر نسخة له بالشكل الذي يريده هو، وليس ما يريده الآخر لنفسه، وحتى إن أراد أن يقلده بطريقته الإبداعية لكي يبني ذاته بقوته، فإنه لا يقبل ذلك ولا يسمح به، هذا على مستوى التاريخ الروماني والتاريخ المسيحي الذي ترومن بعد ذلك. الآخر عند اليهود المنحرفين أما بالنسبة إلى الفكر اليهودي، فالتوراة والتلموذ يتأسسان على إلغاء الآخر ورفضه. فاليهود يعتقدون أن نوح عيه السلام غضب على ابنه حام وجعله عبدا مع سلالته لابنه سام وسلالته، واليهود طينة غير طينة البشر، وأرواحهم جزء من الله، أما الجوييم فأرواحهم شيطانية، وخلقوا من نطفة حصان. وإذا ضرب يهودي فكأنما ضربت العزة الإلهية، وجزاء ضاربه الموت، وقد خلق الله غير اليهود على هيئة إنسانية ليكونوا لائقين بخدمة اليهود، وأموال الجوييم ودماؤهم وأعراضهم حلال لليهودي، وانتهاكها قربى لله، ولا يحرم على اليهودي الظلم إلا تجاه اليهود، لأنهم شعب الله المختار . أما الحاخام الأكبر لإسرائيل، لليهود الشرقيين، فقد طرح في الصلاة الرسمية التي تمر عبر وسائل الإعلام منذ مدة قصيرة بعد اندلاع الانتفاضة، بأن الرب قد أخطأ بأن خلق بني إسماعيل، ونحن سوف نصحح خطأ الرب بإبادتهم جميعا. وهذه ليست حالة غضب كفر فيها حبر يهودي بالله، وإنما هو اعتقاد مؤصل لدى اليهود يسمى عقيدة البداء، وهي أن الرب يخطئ فيصحح له الحاخامات!. ردان على شبهة قد يصطدم الحديث عن الرحمة في الإسلام، عمومها وشمولها وحساسيتها، بواقع أليم هو كون المسلمين قد خاضوا في الدماء، خلال الحروب المريرة التي قادها الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده في زمن الفتوح، حتى قال المستشرقون ومن لف لفهم، إن الإسلام قد أكره الناس بالسيف ومارس عليهم القتل، ووضعهم تحت طائلة الإعدام من أجل أن يدخلوا فيه و يعتنقوه. لقد جيش الإسلام، حسب هذه الدعوى، جيوشا وفتح بها العالم، وبالتالي فالإسلام مثل باقي الإمبراطوريات الكبرى قد لجأ للقوة، واستعمل أقساها وهي القوة العسكرية لاحتلال الشعوب وإكراهها على التحول إلى الإسلام، وبالعبارة التقليدية:إن الإسلام انتشر بالسيف، فأين هي الرحمة ؟ وما جدوى ادعائها في خضم الحروب والاقتتال؟ وللجواب على هذه الشبهة، لابد من التفصيل في مستويين: أولا:السياق التصوري:نستشف من قوله تعالى في إعلان واضح وصريح ومبدئي:(كتب عليكم القتال وهو كره لكم)، أن القرآن يبين كون الفطرة الإنسانية والفطرة الإسلامية تنبذ العنف وتكره استعمال القوة أو الإفراط في هذا الاستعمال، إنها فطرة مسالمة سلمية. ومعلوم القاعدة الكلية في الإسلام، وهي أن التشريعات تتأسس على أساس الفطرة، فالأمر بالتوحيد ينبني على فطرة عبادة الله عز وجل وتوحيده وتعظيمه، أمر الزوج بالنفقة على عياله يرتكز إلى فطرة الكرم، التي ركزت في الإنسان، النهي عن الظلم والإيذاء والاعتداء يستند كتشريعات إلى أن الإنسان مفطور على كراهية الظلم وعلى استنكار الاعتداء، والنهي عن الكبر مبني على أن الإنسان قد ركزت فيه فطرة التواضع وكراهية المتكبر، فلا يكره الإنسان شخصا لم يؤذه كما يكره المتكبر لمجرد مشيته المتبخترة. كل هذا يدل على أن ما أسميه بالتأسيس الفطري للأحكام الشرعية مطرد في كل أحكام الإسلام، و معنى هذا أن التأسيس لحكم شرعي بالمسالمة وتجنب العنف يستند على فطرة كراهية القتال، مما يقوم دليلا واضحا على أن القتال حالة استثنائية في الإسلام. ثانيا: يبين السياق السياسي والتاريخيلتشريع القتال في القرآن الكريم (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وأن الله على نصرهم لقدير)(الحج-93)، أن الإذن بالقتال نزل في سياق الدفاع والاقتصاص، و هذا هو الشرط الوحيد والظرف الوحيد والاستثناء الوحيد الذي يجيز فيه الإسلام استعمال القوة، أي يجيزه لمواجهة القوة، استعمال الردع لمواجهة الاعتداء، استعمال الخشونة لمواجهة الخشونة المضادة. إن هاتين الآيتين وغيرهما لا تكتفيان بالتشريع أو البيان، وإنما تخلقان جوا عاما، ينبذ عبادة القوة والاحتكام إليها، وهو جو مناقض للجو العام الذي نزل فيه القرآن، والذي ظهرت فيه دولة الإسلام، بحيث كانت جميع الدول والأمم المحيطة به تعبد القوة، من الرومان إلى الفرس إلى الحبشة وغيرهم. إن الحديث عن الجهاد في القرآن هو تدبير حل لمشكل لا سعي لخلقه، وإن تشريع الجهاد ليس للمبادرة بغرس هذا السلوك كاختيار عند المسلمين، وإنما هو سعي لمواجهة حالة موجودة وقائمة وما زالت عند البشرية إلى اليوم. أبو زيد المقرئ الإدريسي يحاضرحول قرآنية الرحمة-الحلقة الثالثة أبو زيد المقرئ الإدريسي يحاضرحول قرآنية الرحمة- الحلقة الثانية أبو زيد المقرئ الإدريسي يحاضرحول قرآنية الرحمة -الحلقة الأولى