فيد تأمل الخطاب السياسي الذي حملته وثائق المؤمر الأخير لـالأصالة والمعاصرة معرفة أبعاد التوجه السياسي الفعلي لهذا الوافد الجديد بحسب التوصيف الاتحادي له، والرؤية التي يحلمها للحياة السياسية والاجتماعية الوطنية، وذلك بعد شهور من اللبس حول الخلفيات الحقيقية للهجوم المتكرر من قبل عدد من قيادات هذا الحزب على تجربة المشاركة السياسية للحركة الإسلامية. ولعل في الفقرة الخاصة بالإسلام من وثيقة مبادئ ووجهات التي عرضت في مؤتمر بوزنيقة ما يفسر أن الأمر أكبر من استثناء هذا الحزب أو ذاك، أو رفض حضور هذه الجريدة أو تلك. يرتكز الموقف الذي عبر عنه حزب الأصالة والمعاصرة من الدين على ثلاث ركائز: طبيعة الدين: إذ اختار هذا الحزب أن يسمه بصفة المقدس المشترك، وهي الركيزة التي سيرتب عنها موقفه مما أسماه التوظيف السياسي للدين، فالإسلام ـ حسب فهم حزب الأصالة والمعاصرة، هو دين المغاربة، وهو ملك لهم، ولا يجوز لأحد أن ينطلق منه، أي من المقدس المشترك، لبناء مفاهيمه وتصوراته ومواقفه ومشاريعه، بحكم أن ذلك يعتبر توظيفا للمقدس، وإخراجا للدين من طبيعته المشتركة. وظيفة الدين: لا يتحدث حزب الأصالة والمعاصرة عن وظيفة الدين الحيوية في بناء المنظومة القيمية للمجتمع، ولا يتحدث عن الدور الذي يقوم به الدين في بناء الجماعة وإرساء نظمها، وإنما يتحدث فقط عن وظيفتين اثنتين من وظائف الدين: 1 ـ هو إحدى عناصر اللحمة التي تشكل الهوية المغربية، أي أنه لا يشكل عمقها ولا ناظمها الرئيس، وإنما يقوم إلى جانب عوامل أخرى بتشكيل هذه اللحمة. 2 ـ أنه يقوم بالدور التوحيدي للمجتمع، إذ بفضل هذا الدور حسب تصور حزب الأصالة والمعاصرة، أن يستمر الإسلام السني المالكي. الدين والسياسة: لا يعرض الحزب لأية مقاربة نظرية تؤطر علاقة الدين بالسياسة، ولا بقدم أي إطار فكري أو تاريخي يؤسس عليه الموقف الذي تبناه بخصوص ما أسماه توظيف المشترك، وإنما يتوجه رأسا إلى مناقشة ما أسماه وضع الدين في حلبة التنافس والتباري الانتخابي، فحسب حزب الأصالة والمعاصرة، فالدين يوجد اليوم في قلب هذه الحلبة، وأن هناك قوى سياسية، تغذي حضور الدين في هذه الحلبة بنظرة سياسوية. بناء على هذه المرتكزات يحدد الحزب موقفه، ليس من الدين، ولكن من فاعلين سياسيين يعتقد أنهم يوظفون هذا المقدس المشترك في معارك انتخابية، ويرى أن التوظيف السياسي للدين، لا يشكل فقط تشويشا على العملية الانتخابية، ولكنه يمثل تهديدا لوحدة المغاربة. 1 ـ في المعجم الاستئصالي يبدو أن حزب الأصالة والمعاصرة في وثيقته اختار أعلى درجات التعبير عن النزعة الاستئصالية حين وسم أعداءه ـ وهم في الوثيقة سوى منافسين سياسيين ـ بأنهم يهددون وحدة الأمة المغربية وأمن أبنائها الروحيين، فهذه المفردات الاسئصالية، بالقياس إلى المعجم الأصولي الذي أثراه بعض المثقفين من أمثال النابلسي وعبد المجيد الشرفي وغيرهم، تعتبر الأكثر جذرية في تمثيل التوجه الاستئصالي، إذ لم يكن هذا التوجه على طول الخريطة العربية يصل إلى مستوى استعمال مثل هذه المفردات، إذ غاية ما وصل إليه التوجه الاستئصالي هو تحميل الحركات الإسلامية المعتدلة المسؤولية المعنوية عن ظهور الحركات الراديكالية مع اختلاف ظاهر بين أطياف هذا التوجه بخصوص منهجية التعامل مع الإسلاميين المشاركين في العملية السياسية، لكن في حالة، حزب الأصالة والمعاصرة، فقد قفز رأسا إلى استعمال مفردة تهديد وحدة الأمة المغربية، وهي تهمة خطيرة، على اعتبار أن الوثيقة تتحدث عن الملكية باعتبارها فاعلا محوريا في لحم الوحدة الدينية والسياسية للأمة المغربية، إذ أن مفهوم تهديد وحدة الأمة المغربية يعني في أحد وجوهه تهديد الملكية. والأخطر من ذلك مفردة تهديد الأمن الروحي للمغاربة، إذ في الغالب ما تستعمل هذه العبارة لوسم ظاهرة التنصير أو التفسخ والميوعة الأخلاقية، وتستعمل عبارة تهديد الوحدة المذهبية في حالة التشيع، أما استعمال مفردة تهديد الأمن الروحي للمغاربة في حق الإسلاميين المشاركين في العملية السياسية، فهو ما لم تكن له سابقة، إذ أن ذلك يعتبر تهمة ليس فقط لإبطال مشروعيتهم السياسية، وإنما لتأليب المغاربة ضدهم بدافع ديني، وهو جانب جديد في المعجم الاستئصالي، يوظف مفهوم حماية الدين لتصفية حسابات سياسية من خصوم منافسين، وهو عين التوظيف السياسوي للدين، الذي التزم حزب الأصالة والمعاصرة بعدم الانزلاق إليه في الحقل السياسي مع أنه يؤسس له في وثيقته قبل أن يحوله إلى ممارسة سياسية. 2 ـ النزوع الإقصائي يبدو أن حزب الأصالة والمعاصرة اختار أن يجعل من الموقف من الدين مبرره لتجميع الاستئصاليين ضد الإسلاميين، إذ لم يعد الأمر يتعلق بموقف غير رسمي صرفه زعيم هذا الحزب، وإنما أصبح الأمر يتعلق بموقف سياسي عبرت عنه وثيقة رسمية، إذ اعتبرت مهمة الحزب هو التصدي لمن يوظف الدين أو قضايا الأمة لأهداف سياسية، وتشكيل جبهة واسعة لهذا الغرض، بدعوى أن هؤلاء يشكلون تهديدا لوحدة الأمة المغربية وللأمن الروحي لأبنائها. بيد أن هذا الوضوح على مستوى التعبير عن الموقف يقابله غموض كبير في تحديد الجهة التي تشكل كل هذا الخطر على وحدة المغرب وتدين المغاربة، إذ لم توضح الوثيقة هل يتعلق الأمر بحركات إسلامية أم بجمعيات تشتغل في الحقل المدني. أكيد أن المقصود ليس هو الحركات الراديكالية، إذ أن هذه الحركات لم تكن في وقت من الأوقات معنية بالتباري والتنافس الانتخابي، ومن المؤكد أيضا أن المقصود ليس هو ما يعرف بالسلفية الجهادية لأن مثل هذه الحركات تحرم الأحزاب السياسية وتعتبر العملية الانتخابية برمتها باطلة، ويبقى التساؤل مطروحا عن هوية هذه الحركات والجمعيات التي تستهدف وحدة الأمة المغربية وأمنها الروحي، وهو التساؤل الذي يكشف، إلى جانب لغة التعويم التي استعملت في الوثيقة، لغة الغموض التي ركبت بها مفردات الوثيقة. على أن الجمع بين التعويم والغموض، وفي المقابل البعد عن التأطير النظري وعن حسم الإشكالات الحقيقية بلغة واضحة، يؤشر على أن خلاصة الموقف من الدين في وثيقة الحزب لم تكن إلا محاولة لتبرير الموقف السياسي الاستئصالي الذي سبق أن عبر عنه بعض قادة الحزب من الإسلاميين المنافسين لحزبه في العملية السياسية. 3 ـ الفقر النظري من الناحية الشكلية، يبدو أن الحجم الذي احتله موقف الحزب من الدين في مشروعه السياسي لا يناسب طبيعة الدين الذي تحدث عنها، فما عدا الحديث عن مفهوم المقدس المشترك، وكون الدين يشكل إحدى عناصر اللحمة التي تشكل هوية المغاربة، لا تكاد تجد أي حديث في موقف الحزب عن مفهوم الدين ووظيفة الدين الاجتماعية، بل إن الموقف يتميز بفقر نظري شديد، إذ في العادة ما يأتي الموقف السياسي من الدين مصحوبا برؤية توضح طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة، وما إذا كان الحزب يتبنى موقف الفصل أو الوصل أو التمييز بين الوظيفة الدينية والوظيفة السياسية، وهو الأمر الذي ظل غائبا عن موقف الحزب، إذ لم يستشف من موقفه أي تصور أو مقاربة لطبيعة هذه العلاقة. وعلى الرغم من أن حديثه عن خطورة التوظيف السياسي للدين، يسمح بشكل أو بآخر بالتقاط خيوط من الطرح العلماني لقضية العلاقة بين الدين والسياسة، إلا أن الحزب اختار في وثائقه أن يكون غامضا بخصوص هذه النقطة، ولعل القصد من تعويم هذه الرؤية واضح من خلال الحديث الفضفاض عن الهويات المتعددة للمغرب الإسلامية والأمازيغية والمتوسطية والإفريقية والأندلسية، ومن خلال الحديث عن الرؤية المتفتحة المتسامحة للدين. فهذه الاصطلاحات، مع ما تحمل دلالاتها من اختلاف قد يصل حد التناقض، وهذا التعويم في استعمال مصطلحات مثل الرؤية المتفتحة والمتسامحة للدين من غير توضيح مفهومها ودلالاتها ونماذجها، يجعل الناظر في هذا الموقف يخلص إلى أن الأمر ليس فيه أي جهد في التأصيل النظري للموقف، وأن الأمر يتعلق بمجرد اصطلاحات استهلاكية تؤدي وظائف سياسية سجالية لا غير. 4 ـ المنطق الصراعي الانتخابي من الواضح أن الهاجس الانتخابي حاضر بقوة في موقف الحزب من الدين، ذلك أن اللحظة الانتخابية ليست إلا إحدى عناصر العملية السياسية، ومن ثمة، لم يكن من الضروري، أن يتأطر الموقف بهذه اللحظة حين تحدث الحزب بلغة واضحة عن وضع الدين اليوم في حلبة التنافس والتباري الانتخابي. كان الأمر سيكون مختلفا لو قصر الحزب حديثه عن توظيف الدين في السياسة وجرد موقفه خ وهذا ما يطلب في كل ورقة مؤطرة- من حيثية الزمن (حديثه عن اليوم) وحيثية التنافس الانتخابي، فهذا على الأقل سيعطي لموقفه بعده السياسي، لكن لما كان الموقف متضمنا لهاتين الحيثيتين، فإن الحزب لم يدع مجالا للشك في كون موقفه من الدين هذا كان برمته مؤطرا بالهاجس الانتخابي الذي غالبا ما يوصف في الأدبيات السياسية بالبعد السياسوي في الموقف.