تمهيد "" لا تزال تداعيات الانتخابات الجماعية، ليوم ثاني عشر يونيو 2009 ، تفعل فعلها في الساحة السياسة، خاصة في هذا الصيف الذي امتزجت فيه حرارة السياسوية بارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات غير مسبوقة في الآونة الأخيرة؛ هذا فضلا عن تلك الحرارة الناجمة عن حمى الأنفلونزا العابر للقارات... وبرغم كل ما يجري في هذا الصيف -وهي تطورات كثيرة تستحق أكثر من نقاش- فان الأمور تبدو، في ظاهرها، وكأنها طبيعية. لكن، لا شيء يمكنه أن يضل طبيعيا، وذلك بسبب من المنطق المادي للتاريخ الذي يقضي بأن يطال التطور والتغير كل مناحي الحياة البشرية، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم ثقافية أم بيئية. ما من شيء إذن يمكنه الثبات في "جوهره الطبيعي" إلى ما لا نهاية... فالثبات ليس له من وجود إلا إذا كان ذاك الوجود نتاجا وهميا لمنطق إيديولوجي، هو بالضبط المنطق الإيديولوجي السائد الذي، وان اختلفت تعبيراته ومقولاته وشعاراته بحسب كل مرحلة سياسية، ليس يهدف سوى إلى التصدي لكل تغير/تغيير، قد يطال مجموع البنى المجتمعية التي تعتمل في طياتها تغيرات أضحت تفصح عن نفسها من خلال تنامي سلوكات وممارسات ومواقف لا يمكن لأي متتبع أن يتجاهلها. 1-في تهافت أطراف الساحة السياسية تتنازل في ساحتنا السياسية الوطنية، في هذا الصيف الحار، بعض الأطراف السياسية، إعلاميا وقضائيا، سبا وشتما، استكمالا منها لمسلسل الاستحقاقات الانتخابية؛ تلك الاستحقاقات التي أضحت غير ذي جاذبية جماهيرية، أي أنها باتت مفصولة عن قاعدتها الاجتماعية التي فيها –ومنها- تستمد مشروعيتها التمثيلية، على الأقل بالمعنى الليبرالي البورجوازي للديمقراطية التمثيلية. بالعودة إلى الساحة السياسية، وفي سياق تلك المعركة الانتخابوية المستعرة، تتبارز أطراف سياسية بعضها البعض بشكل غير مسبوق، بحيث أن كل طرف من أطراف الساحة السياسية، بما هي هنا ساحة انتخابوية وفقط، أضحى يتوسل بكل ما أوتي من وسائل الضغط -المتاحة له- لحسم ذلك الصراع لصالحه، وبالتالي فوزه بمناصب ومواقع هي، بالتحديد، التي أشعلت فتيل ذاك الصراع وأوصلته إلى هذا المستوى من الابتذال. يتكشف ذلك الصراع المبتذل في عدة أشكال منه، كأن يلجأ الأصالة والمعاصرة إلى تحريك القضاء ضد خصومه السياسيين سعيا لحفظ "كرامة" أعضائه الذين يتعرضون –كما يقولون ويدعون- إلى وابل من القذف والشتم من طرف مسئولي وأعضاء أحزاب منافسة، مثل العدالة والتنمية تحديدا، وكأن يتوسل الأصالة والمعاصرة بوزارة الداخلية في محاولة منه لنقض أحكام ذلك القضاء الذي قضى، في غير صالحه، بنزع موقع عمودية مراكش منه. ما كان أمام وزارة الداخلية، وطلب الأصالة والمعاصرة يوضع أماها، إلا أن تسرع لتوها في إرسال لجنة مركزية للتحقيق، حيث قامت على الفور بإعفاء والي مراكش من منصبه في سابقة إجرائية وبروتوكولية، كأن أحوال مراكش ستنهار إذا ما استمر واليها في ممارسة مهامه إلى حين إعفاءه من طرف القصر، حيث هذا هو البروتوكول المتبع لتعيين وإقالة الولاة. فنحن لسنا هنا ندافع على والي مراكش، فهو الأجدر بتحمل مسئولياته.... وحتى نضل متسقين مع أنفسنا فإننا –وكما عبرنا عن ذلك في مناسبات سابقة- ضد أن يضل آل الفاسي الفهري مهيمنين على كل مفاصل الدولة المغربية التي يجب أن تكون ملكا لجميع المغاربة وليس لفئة معينة محضوضة. حتى لا نتيه في أمور ليست في وارد موضوعنا في هذا المقام، نعود مرة أخرى إلى ما نحن بصدد مناقشته من أشكال قلنا إن فيها يتمظهر ذلك الصراع المبتذل. لقد وصل الأمر بأحد قياديي حزب العدالة والتنمية اللجوء إلى طلب التدخل الملكي للحسم في شأن تحالفات سياسية هي، بطبيعتها ووفقا لآليات بناءها، إنما تقوم على الحرية في اتخاذ قرار التحالف أو نقضه في الوقت الذي يراه كل طرف سياسي مناسبا له. فالتحالفات الانتخابية هي في أحسن الأحوال ظرفية، بحيث أنها تخضع لاختيارات الفاعلين ولمصالحهم الخاصة، هذا إن كانت تلك التحالفات نابعة عن قواسم مشتركة ومؤطرة بمرجعيات واضحة. وقد تكون تلك التحالفات أحيانا آنية وخاضعة لحسابات وتقلبات المصالح الآنية لدى العديد من الفاعلين؛ وهو الشيء الذي لا نظن أن قياديا من العدالة والتنمية يجهله، خاصة عندما يتعلق الأمر بتحالفات يعرف الجميع أنها هجينة، ولا تقوم على أسس عقلانية واضحة. إذا كانت الأمور تجري على هذه الشاكلة، فما على الفاعل السياسي الذي آثر أن يدخل غمار الانتخابات وتحالفاتها إلا أن يضع في حسبانه كل الاحتمالات الممكنة. في ضوء هذا الذي قدمناه يطرح السؤال التالي: كيف إذن يمكن أن نفهم طلب قيادي من العدالة والتنمية التدخل الملكي للحسم في تحالفات هجينة لا تخضع لأي منطق ولأي مرجعية واضحة!؟... بالارتباط دائما بتداعيات الانتخابات الجماعية الأخيرة وتشكيل المجالس البلدية، فوجئ الرأي العام الوطني بسابقة أخرى لما قام برلماني عن العدالة والتنمية بطلب تدخل السفير الفرنسي في أمور وطنية داخلية. ورغم ما لهذه النازلة من تأويلات قد تصل إلى مستوى المس بالسيادة الوطنية، إلا أن قيادة العدالة والتنمية لم تتخذ القرار السياسي الرزين الذي قد يضع الحزب في منأى عن كل سوء فهم، أو قل سوء تأويل، خاصة وأن الحزب في غمار صراع شرس مع الأصالة والمعاصرة الذي سيجد في هذه النازلة ما سيعضد به مواقفه وخطاباته إزاء خصومه الاسلامويين، في سبيل إضعافهم ونزع تلك الهالة من القدسية الدينية عنهم، ومحاولة موقعتهم في موقع من يستقوي بالأجنبي. هكذا كان، ونحن نكتب هذه السطور، طلع علينا سامر أبو القاسم بمقال، من حلقتين، في الجريدة الأولى، بعنوان "العدالة والتنمية وطلب الحماية من السفارة الفرنسية" (العدد 369-370 ، 29-30 يوليوز 2009)؛ وهو مقال -كما نراه- جاء متهافتا بسبب من كون صاحب المقال هو في ذات الوقت خصم للعدالة والتنمية وفاعل في حزب الأصالة والمعاصرة الذي يتهمه حزب العدالة والتنمية بالضلوع في ما جرى أثناء تشكيل المجلس البلدي بوجدة. أما وأن الشعار المرفوع، من طرف جميع الأطراف هو "محاربة الفساد والمفسدين"، فمنطقي إذن أن يحتدم ذاك الصراع السياسوي في ساحتنا السياسية -التي فيها ليس يتخذ القرار السياسي والاستراتيجي- بين أطراف حزبية أضحت غير معنية ليس بمسألة صنع القرار السياسي وحسب، بل أيضا بمسألة فصل السلط باعتبارها تتداخل وكيفية صنع أي قرار سياسي. معنى هذا أن كل تلك الأطراف، في تصارعها وتطاحنها، إنما هي بعيدة كل البعد عن التأثير في دائرة صنع القرار السياسي. ما يعني أن السياسة، بابتعادها عن التأثير في كيفية صنع القرار السياسي، تفقد كل معانيها وأهدافها النبيلة في خدمة الشأن العام، باعتبارها وسيلة لاقتراح وتنفيذ مشاريع مجتمعية نابعة عن إرادة شعبية، على الأقل من خلال صلاحيات واسعة للوزير الأول الذي يجب أن يحاسب على حصيلته فور نهاية ولايته الحكومية. 2- صراع الأصالة والمعاصرة والعدالة والتنمية ملهاة لتمرير الدولة لأجندات سياسية محددة ولئن كان المشهد السياسي على هذا القدر من العبث والتفكك، فان ما يجري، في هذه الأيام، من تلاسنات حادة بين أحزاب سياسية وأخرى، وتحديدا بين الأصالة والمعاصرة والعدالة والتنمية لا يعدو أن يكون صراعا سياسويا بين أطراف لا شك أنها تشكل عماد "التوازن السياسي" القائم في البلاد. ولا أدل على ذلك من كونهما يحاولان، في سيرورة تطاحنهما، أن يمتحا من بعض ثوابت البلاد، أو قل أنهما يحاولان أن يجيرا تلك الثوابت -كل بحسب منطلقاته وميولاته- لحسم صراعه مع الأخر. ذلك أنه في الوقت الذي ارتسمت فيه، في المتخيل الشعبي، صورة حزب الملك حول حزب الأصالة والمعاصرة، هذا الذي ما كان له أن يتقدم -في حيز زمني قصير- نتائج الانتخابات الجماعية وانتخابات الغرف لولا تلك الصورة التي ارتسمت عنه لدى فئات شعبية واسعة. أما حزب العدالة والتنمية الذي يستند، في ممارسته السياسوية إلى نوع من المزج بين السياسي والديني، والذي يتوسل بنوع من الخطابات والشعارات الاسلاموية/الاخلاقوية من أجل الوصول إلى جمهوره، فنجده، بعد أن مني بهزيمة لم يكن يتوقعها بسبب من تنافسية الأصالة والمعاصرة الذي جيء لهذا الغرض تحديدا، نجده يلجأ من خلال أحد قيادييه إلى الملك "لإنصافه في تحالفات قال إنها انهارت بسبب من عدم أخلاقية تنافسية الأصالة والمعاصرة في احترام تحالفات العدالة والتنمية وأيضا بسبب من دعم السلطة للأصالة والمعصرة". ألا يعني هذا أن الحزبين معا، في تصارعهما السياسوي الذي هو انعكاس لمأزقهما السياسي، إنما يحاولان اكتساب المزيد من الشرعية والحظوة، بمحاولاتهما غير المبررة التقرب من الملك، أو من خلال ظهورهما بمظهر من هم أكثر وفاء وأكثر دفاعا عن المؤسسة الملكية. فضلا عن ذلك، نجد أن خطابي الأصالة والمعاصرة والعدالة والتنمية، في جوهرهما، يتمحوران -أو قل يتنافسان على- حول نوع من الدفاع غير المبرر عن الثوابت الوطنية، وان اختلفا في شعاراتهما. ففي الوقت الذي يصف فيه العدالة والتنمية حزب الأصالة والمعاصرة بكونه حزبا أقرب ما يكون إلى الدولة/السلطة، حتى لا نقول إلى المؤسسة الملكية، نرى أن هذا الأخير يأبى إلا أن يتهم حزب العدالة والتنمية باحتكار الإسلام باعتباره ثابتا مشتركا لجميع المغاربة. لذا نقول بصيغة مكثفة ما يلي: بلجوء كلا الحزبين إلى التوسل بما هو ثابت ومشترك لدى المغاربة فإنهما يتهافتان، أو قل إنهما تهافتا إلى غير رجعة. ولكي لا نطيل في توصيف ما يجري بين الحزبين، أمكننا القول أن كلا الحزبين ليسا يجسدان، لا سياسيا ولا إيديولوجيا، أي تناقض مع السياسات والخطابات الرسمية للدولة، أو بمعنى أكثر دقة إنهما -أي هذين الحزبين- ليسا يشكلان عائقا سياسيا/طبقيا، أعني بنيويا، أمام تنزيل أجندات الدولة، في المرحلة الراهنة. وهي طبعا أجندات كثيرة أخذت تتكثف في هذا الصيف "المبارك"، وعلى جميع الأصعدة، في وقت لا نرى في الساحة السياسية إلا من يتهافت على المناصب والمواقع من دون مناقشة الأمور الحيوية التي تهم على الأقل البعد الاجتماعي للمواطنين، إن لم نقل البعد الديمقراطي العام. في هذا السياق من الصراعات السياسوية، تقوم الدولة بتمرير سياساتها من دون التوافق مع الفاعلين الأساسيين، فمن محاولات الدولة تكميم أفواه الصحافة -وأخرها ما تعلق بقضية "ملك ملوك إفريقيا" العقيد معمر القذافي- إلى تحريك مفرط وعجيب للقضاء في كل نازلة مهما ضعف شأنها، خاصة من طرف وزارة الداخلية وبطلب من المكتب السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة أحيانا، وأيضا من الدعم الحكومي المالي لشركات المشروبات الغازية "كوكاكولا" إلى الإسراع في استكمال حلقات المخطط الاستعجالي، خاصة في شقه المتعلق بالتوظيف "التعاقدي" لأساتذة التعليم الثانوي والابتدائي في عز هذا الصيف الأغر، وهلم جرا. للإشارة فقط، فان التعاقد ليس تعاقدا إلا إذا كان نتيجة مفاوضات، أو قل على وجه الدقة تفاهمات، بين طرفين يصلان، في نهاية المطاف، إلى حد أدنى مشترك يرضي الطرفين. أما ما سمي بهتانا "تعاقدا"، فليس سوى تضليلا إيديولوجيا فيه تنطمس حقيقة أساسية ألا وهي فرض أمر الواقع الذي تمارسه فئات، مهيمنة في الدولة، ممن تولت خدمة سياسات/املاءات صندوق النقد الدولي والدوائر المالية الامبريالية، من دون مراعاة الاكراهات الوطنية وكذا مستوى تطور وانتطارات المجتمع المغربي، وتحديدا طبقاته الكادحة. أما ما يجري في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة من التوظيف ب "التعاقد"، فيمكن اعتباره نقلة نوعية في مسار التراجعات الكبرى وفرض أمر الواقع في الحقل الاجتماعي، وخاصة التعليمي منه، بعد استكمال التفكيك التاريخي الممنهج للعمل الجماهيري والنقابي الذي دخل طور انحساره، أو قل انكفاءه، مع بداية مرحلة سياسية حاسمة من تاريخ المغرب هي بالضبط مرحلة "التناوب التوافقي" التي لا تزال ارتداداتها تعمل على المزيد من تفكيك البنى السياسية والاجتماعية والثقافية المغربية. أما الأجيال الحالية، وبسبب من العطالة وانسداد الأفاق، فسترغم على قبول اشتراطات وزارة التربية الوطنية في العمل معها بواسطة ما تسميه هذه الأخيرة "تعاقدا" هو الذي نجده أبعد ما يكون تعاقدا فعليا. 3- في عدم أهلية العدالة والتنمية للدعوة إلى جبهة وطنية للدفاع عن الديمقراطية عود على بدء، فعلى غرار حزب الأصالة والمعاصرة الذي لا يختلف اثنان عاديان-وليس بالأحرى مثقفان- في كونه حزبا إداريا إنما جاء يدافع عن مشروع مرحلي/استراتيجي للدولة، هو المبني أساسا على تقرير الخمسينية وعلى "توصيات هيأة الانصاف والمصالحة" التي لم تجد بعد طريقها إلى التحقق على أرض الواقع، بسبب من التفاف جرى عليها –أي على تلك التوصيات- من طرف مكونات معينة كانت تشتغل من داخل هيأة الانصاف والمصالحة قبل أن تنتقل إلى الأصالة والمعاصرة، وللإشارة فهي مكونات كانت إلى الأمس القريب تتشبث بأجرأة تلك التوصيات، قلنا على غرار الأصالة والمعاصرة فان حزب العدالة والتنمية ليس بمقدوره الظهور مظهر ذلك الحزب الجماهيري الشعبي "التاريخي" الذي بإمكانه طرح مشروع مجتمعي بديل نقيض للسياسات الرسمية للدولة، بما هي سياسات مسؤولة عن تأزم الوضع السياسي والاجتماعي والثقافي الراهن بالبلاد. يكمن عجز العدالة والتنمية في الظهور بذلك المظهر "التاريخي" في كون هذا الحزب الاسلاموي نشأ وترعرع، في كنف السلطة السياسية وبرعاية منها، في مرحلة تاريخية معينة، لخدمة أجندات معروفة لدى كل متتبع، أهمها الحد من نفوذ اليسار داخل الإطارات الجماهيرية وكبح نضالات هذه الأخيرة في أفق إفراغها من مضمونها الاحتجاجي المطلبي الديمقراطي وتحويلها إلى فضاءات للدعوة/التناصح، في محاولة لتحريف الصراع من كونه صراعا سياسيا/طبقيا إلى صراع دعوي أخلاقي، فيه بالضبط تختفي السيطرة الطبقية لمختلف الفئات البرجوازية والإقطاعية التي تشكل القاعدة الأساسية للنظام السياسي المهيمن، قبل أن يعدل حزب العدالة والتنمية خطابه في اتجاه خلق نوع من "المسافة الفاصلة" بين السياسي والدعوي. أما هذا التعديل المستجد في خطاب وممارسة العدالة والتنمية فله أسبابه الموضوعية والذاتية، ودون الدخول في الحيثيات يمكن القول أن هذه الانعطافة، في صيرورة الحزب، حدثت أولا بسبب من تغير تركيبته البشرية بعد التحاق فئات واسعة من البرجوازية والبرجوازية الصغيرة بصفوفه نتيجة خيبة أملها في الاتحاد الاشتراكي أساسا، وثانيا جاءت نتيجة اكراهات وضرورات يفرضها العمل السياسي على كل حزب سياسي مهما بالغ في التستر وراء خطابات دينية وأخلاقية، منها على الخصوص ضرورة توضيح المواقف بشأن العديد من القضايا السياسية الوطنية؛ ورغم كل ذلك ضل خطاب وممارسة العدالة والتنمية يكتنفهما الغموض والازدواجية إلى حدود الآن. بسبب إذن من ظروف نشأة العدالة والتنمية في أحضان السلطة، ونظرا لمرجعيته الإسلاموية التي تلتقي، في وجه منها مع مرجعية الدولة، فان هذا الحزب لن يكون بمقدوره تجاوز اكراهات وظروف نشأته، ولا تبرير ممارساته/تجاوزاته السياسية السابقة في حق قوى اليسار، وبالأحرى قدرته على التمظهر في مظهر ذاك الحزب "الطليعي" الذي يدعو لبناء جبهة وطنية للدفاع عن الديمقراطية.... فكيف أمكن، إذن، اليوم لحزب العدالة والتنمية، وهو الذي يوجد في تناقض مأزقي بين شكل ممارساته السياسية وطبيعة خلفياته الإيديولوجية، أن يدعو كل الديمقراطيين إلى تشكيل جبهة وطنية للدفاع عن الديمقراطية؟.... ألا يسطبتن شعار الدفاع عن الديمقراطية مغالطة وتضليلا للرأي العام وكأن الديمقراطية قد تحققت فعليا، ولم يعد أمام الديمقراطيين من مهام سوى تحصينها والدفاع عنها؟.... أليس من اللازم أن تحدد أية جهة سياسية، ترفع شعار الدفاع عن الديمقراطية، مضمون تلك الديمقراطية حتى يتسنى لكل الأطراف السياسية الأخرى تحديد موقفها، بشكل لا لبس فيه من ذلك الشعار؟ أم أن الخروج، في هذه المرحلة وفي مثل هذه الأزمات، بشعارات ملتبسة هي ضرورة تكتيكية للالتفاف على المأزق السياسي الذي أضحت تنوجد فيه تلك الجهة السياسية؟ 4- مأزق أحزاب المعارضة هو هو مأزق أحزاب الأغلبية الحكومية ما يدور بين الأطراف السياسية، اليوم، وتحديدا بين العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة، وهما المتخندقان كليهما في"المعارضة"، بعد مغادرة الأصالة والمعاصرة ل"لأغلبية الحكومية" التي لا حول ولا قوة لها في كل ما يجري، إلا إذا تعلق الأمر بضرورة تبريرها لذلك الذي يجري أو قل المساهمة فيه، من خلال تمرير بعض الأجندات ولو بدون علم بمضامينها. لذا، فان ما يجري اليوم، سواء على مستوى المعارضة أو الحكومة يستثير جملة من الملاحظات والتساؤلات. لعل ما يستثير المتتبع هنا هي تلك الحركة –وكل حركة طبعا فيها بركة- الدؤوبة لأطراف المشهد السياسي بين موقعي الحكومة والمعارضة حتى أن ما يجري يمكن توصيفه بحركة ذهاب وإياب بين الموقعين: هناك من الأطراف السياسية من انبثق لتوه من تجمع غفير لبرلمانيين رحل بعد انتخابهم، وبهؤلاء الرحل تشكل حزب سياسي ما لبث أن ساهم إلى جانب أطراف تقليدية أخرى -منها من هي معادية له إلى حد وصفه بالوافد الجديد- في تشكيل الأغلبية الحكومية، بعد تحييد الحركة الشعبية التي لم تكن لترضى في حينه (شتنبر2007) بالحصة المخصصة لها في الاستوزار..... ها هي الحركة الشعبية تعود الآن للدخول في أغلبية حكومية، ولو بمنصب واحد بدون حقيبة، بعد أن غادر الأصالة والمعاصرة موقعه في الأغلبية الحكومية صوب المعارضة، ليس لمعارضة البرنامج الحكومي، إن وجد، بل للتنافس مع العدالة والتنمية من داخل موقع المعارضة هو الذي أضفت عليه سخرية التاريخ نوعا من الجاذبية باعتباره أضحى موقعا فيه منافع كثيرة!. في ذات الوقت، وفي خضم هذا الخروج من الأغلبية الحكومية –الأصالة والمعاصرة- وهذا الدخول إليها بعد نوع من المكابرة والأنفة في حينه –الحركة الشعبية-، نجد أن أحد أبرز تلك الأطراف التقليدية –وتحديدا الاتحاد الاشتراكي- لا زال يسعى إلى "تعزيز" موقعه في الأغلبية الحكومية حتى يتسنى له، كما يدعي، إجراء إصلاحات سياسية واسعة، حتى أن هذا الحزب بات يربط، عضويا، بين استمراريته في الأغلبية الحكومية وإجراء تلك الإصلاحات. في خضم هذه الانتقالات المثيرة، بين موقعي الأغلبية والمعارضة، نجد الاتحاد الاشتراكي يحافظ، على الأقل، على نوع من الثبات، أي الثبات في موقعه، وهو شيء يحسب له –وعليه- في هذه المرحلة!. غريب هذا الذي يجري اليوم: من هم في الأغلبية الحكومية يسعون إلى إجراء إصلاحات سياسية!... حسبنا هذا نوعا من التوفيقية والتلفيقية التي دأبت عليه قيادة الاتحاد الاشتراكي في محاولة منها للالتفاف على مطلب الانسحاب من الأغلبية الحكومية الذي أضحت ترفعه فئات واسعة من قواعد هذا الحزب. أما الذين خرجوا للمعارضة، أعني الأصالة والمعاصرة، فما ذا هم فاعلون؟!... هل خرجوا حتى يتمكنوا من إجراء إصلاحات سياسية؟!... أم أنهم خرجوا في محاولة منهم تثبيت هذا المشهد السياسي المترهل حتى تنتفي الحاجة مستقبلا إلى إجراء تلك الإصلاحات؟.... ماذا عسانا أن نفعل حتى نتمكن من فهم هذا الذي يجري في الساحة السياسية الوطنية في المرحلة الراهنة؟... هل نحن عاجزون عن رؤية حقائق التاريخ كما هي مجسدة في الواقع!.. أم أن للتاريخ مكره الذي اقتضى، في حالتنا الوطنية، بأن تصير الأحزاب الإدارية في موقع المعارضة، وهي بذلك في مأزق، أو قل في مأساة، هو ذاته مأزق أحزاب الأغلبية الحكومية. في ضوء هذا المأزق، أخذت تتكثف حركة انتقالات أطراف الساحة السياسية، أكانت من الأغلبية الحكومية نحو المعارضة أم العكس، فالأمران سيان لا يحتملان البحث في التمييز بينهما. بناء على ما تقدم فان "المشهد السياسي"، في ضل هذا الصراع السياسوي، وبه، إنما يراد له أن يتراءى في شكل جديد-قديم، بشعارات مميزة من قبيل "التنافس السياسي الشريف"، و"الجدية في خدمة الشأن العام" وكذا "الصرامة في التنظيم والالتزام السياسي"، حتى يتمكن القائمون على هندسة هذا المشهد السياسي من إعادة الروح والدفء للساحة السياسية المهترئة وللسياسة بشكل خاص. 5- في مغزى "معارضة" العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة: من يعارض من؟ بسبب من طبيعة وتركيبة الحزبين "المعارضين"، أي الأصالة والمعاصرة والعدالة والتنمية، ونظرا لشروط بروزهما على الساحة السياسية، وان اختلفت مراحل ظهورهما والعوامل التاريخية المتحكمة في ذلك الظهور، وبسبب أيضا من انخراطهما في الإطار السياسي العام الرسمي، ولو أنهما راهنا ينوجدان في موقع "المعارضة"، بسبب من كل هذه المعطيات فان الصراع الدائر بين العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة ليس يجسد صراعا سياسيا، أعني طبقيا، بين من يمثل فئات مسيطرة وأخرى مسيطر عليها، بل هو صراع سياسوي يجري بهدف تأثيث وترميم المشهد السياسي في أفق إعادة إنتاجه في أشكال جديدة-قديمة منه، أو قل للدقة بهدف إعادة إنتاج أزمة النظام السياسي التي هي بالضرورة، وفي وجه منها، مرتبطة بأزمة النظام الرأسمالي العولمي في المرحلة الراهنة. لو كانت السياسية عندنا على قدر من الموضوعية والجدية، لما حصل كل هذا الصراع بين أطراف "معارضة" بعضها البعض؛ وعوضا عن ذلك، كان ينبغي أن يحتدم الصراع بين من هم في المعارضة من جهة، وبين من هم في الأغلبية الحكومية من جهة أخرى، هذا هو منطق الصراع الديمقراطي. فأن يحتدم الصراع بين مكونات من داخل المعارضة من دون أن يكون لذلك الصراع أثر على الحكومة، فهذا يعني أن موقع الأغلبية الحكومية فقد بريقه وتوهجه، ولم يعد للقابعين فيه أية مهام تذكر. في خضم إعادة إنتاج هذا المشهد السياسي يحتد إذن الصراع، فيتخذ أشكالا متعددة كأن يتمظهر، في اللحظة الراهنة المأزومة، في شكل صراع خاص بين حزبين هما معا في "المعارضة"، فيحاول كل منهما التموقع، أي توسيع قاعدته الاجتماعية من خلال تواجده في المعارضة، ليس للضغط من أجل تحقيق مكاسب اجتماعية وديمقراطية، بل بما يضمن له تقديم المزيد من الخدمات الإستراتيجية للدولة، ولو من موقع المعارضة. أضحت إذن المعارضة هي مركز الثقل في العمل السياسي الوطني، طبعا بعد أن جرى تحييد العمل الحكومي، ورهن عمل الأغلبية الحكومية بحسابات سياسوية ضيقة. فأي مشهد هذا الذي أضحى فيه التهافت السياسي، على المستوى المركزي، أعني الوطني، على موقع "المعارضة" بانسحاب الأصالة والمعاصرة من "الأغلبية الحكومية" ولجوءه للعمل من داخل موقع المعارضة، في الوقت الذي يجري فيه نفس التهافت، على المستوى المحلي، بمحاولات جميع الأطراف السياسية الانضمام إلى المجالس القروية والبلدية التسييرية، حتى أنه يمكن القول إن الانتخابات الجماعية أضحت تجري فقط لتشكيل المجالس وليس لفرز معارضة بناءة لتلك المجالس؟! ولما كان حزب العدالة والتنمية، في المرحلة الراهنة، يقترب من نهاية دورته السياسية "الخدماتية" –بمعنى إسدائه لخدمات معينة للدولة في مراحل معينة- أو قل في طوره الأخير من زمنه السياسي، في تقديم خدماته للدولة، ولئن كان حزب الأصالة والمعاصرة، في المرحلة الراهنة، في مستهل دورة سياسية خدماتية جديدة، أو قل أنه في بداية طوره الأول، من زمنه السياسي، فانه من البديهي أن ترجح كفة الصراع لصالح الأصالة والمعاصرة، وهو الصاعد في زمنه السياسي الخدماتي، على حساب غريمه العدالة والتنمية، وهو الهابط المنحدر في زمنه السياسي الخدماتي ذاك. تقتضي إذن الضرورة التاريخية بان يكون الحسم لصالح الحزب الصاعد، أي حزب الأصالة والمعاصرة المسنود في هذه المرحلة، من طرف السلطة، وخاصة وزارة الداخلية التي لبت في ما مرة نداءات الأصالة والمعاصرة، في تعارض تام مع أحكام القضاء الذي صار في هذه المرحلة أبعد ما يكون عن الاستقلالية. ذاك هو إذن منطق التطور المادي التاريخي، فما أن تستكمل قوة سياسية رجعية دورتها، أو قل زمنها السياسي الخاص، حتى تتهيأ الشروط لقوة سياسية رجعية أخرى لملء ذلك الفراغ، بالشكل الذي يمكن القوة الجديدة من أداء وظيفتها الجديدة-القديمة، وهي وظيفة ضرورية لتأبيد سيطرة الطبقات المسيطرة التي هي طبقات برجوازية، في أساسها؛ وهكذا دواليك فيما يمكن اعتباره إعادة إنتاج النظام السياسي السائد، إلى أن تنبثق قوة اجتماعية سياسية مستقلة حيث تقوم بعرقلة تلك العملية من إعادة الإنتاج في اتجاه دمقرطة الحياة السياسية والنظام السياسي بشكل عام. هكذا يتراءى لنا ما يجري اليوم من صراع سياسوي بين العدالة والتنمية، في طوره الهابط من زمن سياسي يحتضر، وبين الأصالة والمعاصرة، في طوره الصاعد من زمن سياسي يتشكل وفق متطلبات مسلسل تقديم الخدمات السياسية للدولة في المرحلة الراهنة. لذا يمكن القول أن الصراع الدائر اليوم بين هذين الحزبين والذي اتخذ أشكال متعددة، منها لجوء أحد منتسبي العدالة والتنمية إلى السفارة الفرنسية، وكذا ردود فعل وزارة الداخلية على ذلك اللجوء، دون الرجوع إلى القضاء، ليس يجري بهدف خدمة الجماهير الشعبية والشأن العام، كما يدعون، بل هو، كما أكدنا سابقا، صراع مواقع بين أطراف هي كلها في موقع السيطرة الطبقية، ولو أنها ظاهريا في موقع المعارضة. على سبيل الختم وحدها الأحزاب الجماهيرية التي قد تنشأ، في ظروف اجتماعية وفي شروط تاريخية محددة، هي هي شروط التحرر والتقدم الاجتماعي، كحاجة وكضرورة اجتماعية وتاريخية، وفي استقلال تام عن الدولة، وحدها تلك الأحزاب ستكون لها القدرة على تغيير واقع الجماهير الشعبية، ووحدها القادرة، اجتماعيا وتاريخيا، على رفع شعار تشكيل جبهة وطنية، ليس للدفاع عن الديمقراطية، بل للتغيير الديمقراطي الفعلي، وآنذاك فلتلتف كل القوى الديمقراطية للدفاع عن الديمقراطية. إلى أن تنوجد مثل تلك الأحزاب، أو أن تعود بعض الأحزاب إلى ما كانت عليه من قوة اجتماعية ونفس تاريخي، ندعو جميع المثقفين والديمقراطيين الفعليين إلى الانكباب على دراسة الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي الراهن ببلادنا بغية إعادة صياغة مشروع تقدمي ديمقراطي وطني قادر على الإجابة على متطلبات المرحلة الراهنة، في تأهيل الجماهير الكادحة وتنظيمها في جبهة مستقلة عريضة مرنة تضم كل التيارات السياسية والاجتماعية والثقافية لمنع الانزلاق إلى متاهات، وربما إلى مخاطر مستقبلية، بسبب من ذلك الفراغ الهائل الذي ما فتئت تكرسه الجماهير بعزوفها وبخيبة أملها في الأحزاب السياسية الراهنة التي أخذ منها الوهن والعجز مأخذا عظيما. قد يكون هذا الوهن وهذا العجز مبررا، من الناحية التاريخية، بحكم أن العالم اليوم يعيش عصر التفككات الكبرى، لكن ما لا يمكن تبريره هو تقاعس الفاعلين عن التقاط متطلبات اللحظة الراهنة وعن فعل شيء ما قبل فوات الأوان.