في الوقت الذي تعرف فيه أسهم الشركات العالمية ركودا غير مسبوق بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، عرفت أسهم شركة «روش» لصناعة الأدوية، والحاصلة على حقوق صناعة عقار «التاميفلو» المضاد لأنفلونزا الخنازير، ارتفاعا مفاجئا، إلى درجة أن المختبر أصبح يبحث عن وحدات صناعية خارج الشركة الأم لتلبية طلبات الدول المتزايدة على هذا العقار. في المغرب، يبدو الجنرال حسني بنسليمان قائد الدرك والكولونيل محمد بنزيان قائد الوقاية المدنية وياسمينة بادو وزيرة الصحة، جميعهم سعداء وهم يفرجون كاميرات التلفزيون على أبواب المراقبة الحرارية التي اشترتها الحكومة ووضعتها في المطارات ونقط الجمارك. لكن الأسعد من هؤلاء جميعا ليس شخصا آخر سوى عبد الحنين بنعلو، مدير الشركة الوطنية للمطارات. فقد جاءت حمى الخنازير في الوقت المناسب لكي تنتشله من براثن فضيحة مالية كان قضاة المجلس الأعلى للحسابات قد وقفوا عندها خلال إنجازهم لتقريرهم السنوي حول صفقات الشركة. وما لا تقوله التقارير الصحافية المرافقة للتغطية الإعلامية الرسمية التي تطبل لوضع أبواب المراقبة الحرارية في المطارات ونقط الجمارك، هو أن هذه الأبواب ليست «سلعة» جديدة وإنما «خردة» تعود إلى سنة 2006، تاريخ اندلاع الإنذار العالمي بفيروس «أنفلونزا الطيور». وقد كان مدير الشركة الوطنية للمطارات آنذاك، وانسجاما مع تحذيرات منظمة الصحة العالمية، قد سارع إلى إبرام صفقة مع إحدى الشركات الفرنسية لتصنيع أبواب حرارية لوضعها في المطارات. وقد تم فعلا تصنيع تلك الأبواب وجاءت الشركة لوضعها في مطار محمد الخامس وتقاضت عن عملية التركيب مبلغ عشرين ألف أورو، حيث بقيت واقفة كديكور فقط، دون أن يتم تشغيلها، تماما مثلما فعل كريم غلاب بالكاميرات التي أبرم صفقة اقتنائها بالملايير ووضعها في الطرقات وتركها تصدأ منذ سنوات. المشكل هو أن الشركة الفرنسية التي «رست» عليها الصفقة لم تكن مجبرة على المشاركة في طلبات عروض، كما ينص على ذلك القانون، وإنما تلقت مباركة «حنونة» من طرف عبد الحنين، مدير الشركة، ورست عليها صفقة مالية تتجاوز أربعة ملايير سنتيم. وطبعا، فالشركة الفرنسية التي رست عليها الصفقة جاءتها من الجنة والناس، لأنها لم تستطع أن تسوق أبوابها الحرارية في مطارات أوربا، بسبب معرفة وزارات الصحة الأوربية بعدم فعالية هذه الأبواب في رصد حمى الأنفلونزا عند المسافرين. وهذا ما توضحه الدراسات العلمية الرصينة في هذا المجال، والتي تؤكد جميعها على أن هامش الخطأ في هذه الأبواب الحرارية يصل إلى مستويات مزعجة. فبين 100 مسافر تؤكد كاميرات الأبواب الحرارية إصابتهم بالحمى نعثر فقط على عشرة مصابين فعلا بالحمى. وهكذا، فهذه الأبواب الحرارية التي تطبل لها وزارة الصحة عندنا تكشف عن هامش خطأ كبير. وحسب دراسة علمية نشرتها المجلة الطبية الأمريكية المتخصصة Emerging infectious diseases في غشت الماضي، والتي أنجزها فريق من العلماء الباحثين الفرنسيين بمستشفى «بيتي سالبيتيير» برئاسة الدكتور «بيير هوسفاتن»، فإن هامش الخطأ أقل بكثير في حالة استعمال ترمومتر الأذن أو الكاميرا المجهزة بالأشعة فوق الحمراء والتي توجه نحو جبهة المريض لتحديد درجة حرارته. فيما يبقى هامش الخطأ في الأبواب الحرارية مقلقا وغير مضمون. ولذلك هناك اليوم في فرنسا شبه إجماع علمي حول عدم فعالية هذه الأبواب الحرارية في تحديد الإصابات بأنفلونزا الخنازير. ولذلك أيضا شاهدنا في نشرات الأخبار الدولية كيف أن الأطقم الصحية الفرنسية ستعمل الترمومتر الخاص بالأذن، وتتأكد من خلو المسافرين من الحمى واحدا واحدا. أما في الصين فقد شاهدنا كيف يستعملون الكاميرات اليدوية التي توجه أشعتها فوق الحمراء نحو جباه المسافرين لضبط حرارة أجسامهم. ولو كانت شركة المطارات المغربية تفتقر إلى التقنيين المتخصصين لهان الأمر، لكن الكارثة أن الشركة لديها مديرية متخصصة في التدقيق حول صلاحية وجدوى الآلات التي تشتريها الشركة من أموال دافعي الضرائب. وعندما نعرف أن أغلب هؤلاء المهندسين الذين يشتغلون في هذه المديرية قد فضلوا الانسحاب بسبب عدم خضوع الصفقات التي يبرمها عبد الحنين للدراسة والمتابعة، فإننا نفهم سبب «تلبيق» هذه الصفقة للشركة الوطنية للمطارات، التابعة لوزارة التجهيز، التي يبدو أنها مغرمة بإبرام أغلب الصفقات المربحة مع الشركات الفرنسية دون غيرها. ولهذا، فهذه الأبواب الحرارية التي تم إخراجها من البطالة لكي تشتغل في الحملة ضد «أنفلونزا الخنازير»، ستسيل لعاب الشركة الفرنسية مجددا وهي ترى ميزانية قدرها 850 مليون درهم، رصدتها الحكومة المغربية لاقتناء الأدوية والمعدات الضرورية للتصدي للفيروس القاتل، تتراقص أمامها. ولكي يقف عبد الحنين إلى جانب رئيسه المباشر في التجهيز، كريم غلاب، وزميلة هذا الأخير في الحكومة وزيرة الصحة ياسمينة بادو، فقد جرد بعض المطارات الجهوية من هذه الأبواب وأرسلها إلى الموانئ ونقط الجمارك. عندما ظهرت وزيرة الصحة في وسائل الإعلام لكي تقول إن كل الموانئ والمطارات ونقط الجمارك مجهزة بأبواب حرارية، فإنها لم تقل الحقيقة للشعب. لأن الأمكنة الوحيدة التي كانت مجهزة بهذه الأبواب هي المطارات. ولم يتم تجهيز ميناء طنجة وميناء الناظور، حيث يعبر الآلاف كل يوم، ببابين يتيمين سوى خلال نهاية الأسبوع الماضي. وعندما قالت ياسمينة بادو إن جميع الحدود الأرضية والبحرية للمغرب مجهزة بكاميرات رقمية أو حرارية مزودة بشاشات يمكن من خلالها رؤية أجزاء من الجسم المصاب بالحمى، فإنها لم تقل الحقيقة للشعب. لأن الأمر لا يتعلق لا بكاميرات رقمية ولا حرارية، وإنما فقط بالأبواب التي تم وضعها. وما لا تعرفه ياسمينة بادو وما لا يعرفه كاتبها العام في الوزارة، بحكم تخصصهما في شيء آخر غير الطب، هو أن الأبواب الحرارية التي يفتخرون بوضعها في المطارات والموانئ لا تلتقط فقط حرارة الأجسام التي تمر عبرها، وإنما تلتقط أيضا حرارة الفضاء الداخلي حيث يوجد الباب. أي أنه إذا كانت الحرارة الخارجية مرتفعة، أو كانت مكيفات الهواء معطلة في المطار (وهي دائما كذلك) فإن «البولا الحمرا» سوف تشتعل عند مرور أحد المسافرين عبرها منذرة بارتفاع الحرارة في جسمه عن معدل 37 درجة. والشيء نفسه سيحدث عندما يكون الجو باردا، بحيث من الممكن جدا أن «يغفل» الباب الحراري عن تسجيل حالات حمى حقيقية بسبب تدخل عوامل الطقس الخارجية في تحديد نتائجه. الكولونيل بنزيان، قائد الوقاية المدنية، قال في الندوة الصحافية التي عقدها بالرباط إن الطريقة الوحيدة التي تؤتي أكلها في الوقاية من فيروس «أنفلونزا الخنازير» هي تخويف الناس منها. تخويف المغاربة من أجل وقايتهم شيء، لكن الكذب عليهم من أجل التلاعب بأموالهم شيء آخر تماما. على الحكومة أن تقول للشعب الحقيقة، وهي أنها إلى حدود اليوم لا تتوفر على المخزون الذي تتحدث عنه من الأدوية والمعدات الطبية، وأن ملايين الحقن التي تتحدث عنها لازالت لم تصنع بعد لأنها لم تطلبها سوى قبل أسبوع. عليهم أن يقولوا للشعب ما هي الشركات التي ستستفيد من صفقات ميزانية 850 مليون درهم التي سيصرفونها بسبب «أنفلونزا الخنازير». عليهم أن يشرحوا لنا لماذا يشترون أبوابا حرارية من دولة كفرنسا يستحيل أن تعثر لديها في مطاراتها على أثر لهذه الأبواب. هذه الأسئلة كان من المفروض أن يطرحها السادة البرلمانيون على وزيرة الصحة ووزير التجهيز، وبما أن السادة النواب منشغلون بحمى «أنفلونزا الانتخابات»، فإننا نتطوع لأخذ مكانهم، عسى أن يكون هناك من يجيب في «دار غفلون» المسماة حكومة.