فتحت الرسالة الملكية الخيرة بمناسبة احتفال المغرب بالذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان جدلا واسعا حول مضمون وأبعاد وآثار قرار سحب تحفظات المغرب عن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة. ففيما كان نص الرسالة واضحا في ربط رفع هذه التحفظات بالتشريعات الجديدة التي أقرها المغرب؛ سواء تعلق الأمر بقانون الجنسية الذي صودق عليه بالإجماع في 26 فبراير 2007 ، أو مدونة الأسرة التي تمت الموافقة عليها في الجلسة العامة لـ16 يناير 2004 بالإجماع، وفيما كانت الرسالة الملكية واضحة في اعتبار مدونة الأسرة إحدى المعالم البارزة في مسيرة تعزيز المغرب لحقوق الإنسان، والتجسيد الرائد في بابه لمبدأ مساواة الرجل بالمرأة، استثمرت بعض الجهات الرسالة لتجعل منها ذريعة للمطالبة بتغيير بعض الأحكام الإسلامية التي أقرتها مدونة الأسرة ومنها قضية أحكام الإرث، وتعدد الزوجات الذي اجتهدت المدونة في تقييده بما لا يعطل إذن الشرع به، وحرمة تزوج المسلمة بغير المسلم، بل إنها راحت تستمسك بمواد الاتفاقية بما يجعل بعض الامتيازات التي منحها الشرع للمرأة مهددة وعرضة للضياع؛ من قبيل حقها في الصداق والنفقة، وهما مما ألزم الشرع به الزوج، ومن قبيل حقها في الحضانة بحكم الأمومة، وهو الحق الذي ضمنته المدونة للأم بمقتضى أمومتها، وألزمت المطلق بالنفقة على أولاده، وهما - الحضانة والنفقة على الأبناء- حقان يمكن أن يتعرضا للزوال بمقتضى الاتفاقية التي تحتكم إلى المقاربة حسب النوع، والتي لا تعتبر الأمومة سببا ولا مرجحا للحضانة، وإنما تخضع أهلية الحضانة لمعايير مادية تتعلق بالانفاق والقدرة على الرعاية مما تسميه بعض مواد الاتفاقية بـمصلحة الأطفال في الاعتبارالأول. والحقيقة التي لا مرية فيها، أن هذه الجهات بدل أن تحتفي بالمسار المهم الذي حققه المغرب على مستوى تشريعه لمجموعة من القوانين التي لا تخرج عن مقتضيات الشريعة، وفي نفس الوقت تسحب التحفظات التي ما عاد لها من ضرورة بحكم قانون الجنسية الجديد، وبحكم الأحكام الجديدة التي تضمنها المدونة، فإنها تحاول أن تستثمر الظرف ليس فقط لخوض معركة ضد بعض أحكام الشريعة، وإنما أيضا ضد بعض مواد الدستور التي أعلن المغرب بمقتضاها تحفظه على المادة الثانية من الاتفاقية التي تتحدث عن ضرورة إدماج مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية أو تشريعاتها المناسبة الأخرى، وهي الفقرة التي تعني دستوريا إعادة النظر في ما يتعلق بولاية العهد واشتراط الذكورة فيه، كما تعني قانونيا وتشريعيا إعادة النظر في كل الأحكام الشرعية التي تمايز بين المرأة والرجل لاعتبار وظيفي كما هي الحالة في الصداق والنفقة والقوامة، أو لاعتبار يتعلق بنسق النظام التشريعي وتكامله وبنائه الذي يحقق العدالة كما هي الحالة في أحكام الإرث. إنه من السذاجة أن يفهم من نص الرسالة المليكة ما لا يقتضيه، إذ كيف يتم الاحتفاء بالمدونة؟ وكيف يتم اعتبارها تجسيدا لمبدأ المساواة؟ وكيف يتم اعتبارها رائدة في بابها؟ وفي نفس الوقت يدعي البعض أن ذلك يقتضي ضرورة تعديل كثير من بنودها مما تتطلع إليه تلك الجهات. إن التعارض واضح بين بعض بنود الاتفاقية وبين مدونة الأسرة، وهو مما كشفت عنه تحفظات المغرب على الاتفاقية عند مصادقته عليها سنة ,1993 ولا شك أن التشريعات المتقدمة التي أقرها المغرب هي التي دعت إلى رفع تلك التحفظات، أما ما عداها مما هو منصوص عليه دستوريا أو في مدونة الأسرة، فالتعارض مع بعض مواد الاتفاقية لا زال مستمرا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نفهم من الرسالة الملكية أن المغرب ماض نحو التنازل عن بعض أحكام الشريعة، كما تتطلع هذه الجهات التي لم تستوعب بعد نص الخطاب الملكي الذي أكد فيه الملك أنه لن يحل حراما ولن يحرم حلالا ، بل إنها لم تسوعب بعد الشرعية الدينية التي تقوم عليها الدولة، وأنه لن يكون واردا تحت طائل المواءمة مع الاتفاقيات الدولية التنازل عن أحكام الشريعة.