يفضي تتبع مسار حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية والموقف الأخير لوزير الخارجية الأميركي السابق، كولن باول، الذي اختار دعم المرشح الديمقراطي أوباما، والتصريح علنا بانتقاد خطاب ماكين المركّز على علاقة هذا الأخير بالإسلام، يفضي إلى توقع مستويات من التغيير المعتبر في السياسة الأميركية في مرحلة ما بعد بوش، وما عزز من هذا التوقع تطورات الأزمة العالمية الاقتصادية وما فرضته من حاجة إلى تعبئة ما يناهز ثلاثة آلاف مليار دولار على مستوى العالم. أحد مستويات التغيير هذه ترتبط بعلاقة أميركا بالعالم الإسلامي وضمنه الحركات الإسلامية، حيث يمكن القول إن انتهاء إدارة بوش الابن سيحمل معه نهاية فصل من تاريخ علاقة الولاياتالمتحدة بالحركات الإسلامية ارتبط بتفجيرات 11 سبتمبر وما حملته من تغييرات جذرية في العلاقات الدولية ككل، فصل سيُعدّ الأكثر جدلا في تاريخ هذه العلاقة بسبب التناقضات العميقة التي عرفتها، وكثرة الخيارات الممتدة من الصدام إلى الاستيعاب التي جُربت دون أن تستقر العلاقة على مسار محدد، بل وتعود معها إلى نقطة الصفر في السنة الأخيرة من عهد الإدارة الحالية. إلا أن الخلاصة النهائية لمرحلة بوش بسنواتها الثماني هي أن مفردات السياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خصوصا والعالم الإسلامي عموما أصبحت رهينة للموقف من الحركة الإسلامية بشقيها المعتدل والمتطرف، حيث أدى تعقد المجال العربي الإسلامي إلى جعل سياسة أميركا في المنطقة ككل خاضعة بدرجة كبيرة لسياستها تجاه الحركات الإسلامية بشكل أخص، كما لم تعد السياسات المحلية تجاه الحركات الإسلامية مسألة محلية بقدر ما تحدد عناصرها الكبرى في واشنطن وربما قبل أي مكان آخر. وبناء على ذلك فلم تشهد مرحلة بوش بفترتيها الرئاسيتين تبلور علاقة نمطية صالحة للتعميم على كل الحركات والدول، بل هي علاقة مركبة متعددة الخيارات ومتغيرة المسارات. فقد أدت تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001 إلى سلسلة تحولات في التعاطي الأميركي مع الحركات الإسلامية تحديدا والمنطقة العربية والإسلامية إجمالا، ويمكن رصد أهمها في مستويين: الأول، تجلى في إعادة دمج الإدارة الأميركية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط، بعد توجس من عودة الانعزالية وخاصة في قضايا ذات علاقة بنشر الديمقراطية، وبرز ذلك بوضوح في خطابات حال الاتحاد السنوية بعد التفجيرات والتي تحدثت عن محور شر يشمل العراق وإيران وكوريا الشمالية، وكشفت عن سياسة خارجية تدخلية وأحادية، أحدثت تغييرا جذريا في أولويات ومضامين السياسة الشرق الأوسطية للولايات المتحدة، بالرغم من استمرار نفس المحاور التقليدية الموجهة لهذه السياسة، كضمان أمن إسرائيل، والحرب على الإرهاب، وحماية الأنظمة الحليفة، وصيانة الاستقرار، وضمان توفير النفط للاقتصاد العالمي، ومكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل. ونتج عن السياسات التي جربت بحسب هذا البلد أو ذاك، وضع فريد في السياسة الخارجية، حيث تعمق ارتهان سياسات أميركا الأخرى لهذا الموضوع. فالحرب على الإرهاب لم تعد مجرد حرب أمنية وعسكرية واستخباراتية تركز على مجموعات متخفية ونخبوية، بل أصبحت جزءا من سياسة أشمل في ما أطلقت عليه الولاياتالمتحدة حرب القلوب والعقول؛ تضع الحركات الإسلامية ضمن أهدافها. أما أمن إسرائيل وتسوية النزاع العربي الإسرائيلي فقد ارتهن هو الآخر للتطور الديمقراطي في كل من لبنان وفلسطين مع تقدم كل من حزب الله وحركة حماس في الحياة السياسية للبلدين. كما أن نشر الديمقراطية واستقرار الأنظمة الحليفة أصبح يخضع بشكل متزايد لمدى القدرة على الانفتاح على الحركات الإسلامية المعتدلة، خاصة في بلدان كمصر والأردن ودول الخليج. وفي العراق انكشف وهم المراهنة على الأحزاب العلمانية لمصلحة أحزاب إسلامية تمتلك أذرعا عسكرية، ورغم ذلك لم تجد الولاياتالمتحدة من خيار سوى التعامل والتعايش مع وضع تعلن مناهضته في لبنان وفلسطين. كما دفعت قضية الأزمة مع إيران إلى الخشية من حصول تقدم سياسي واجتماعي للتيار الإسلامي في الخليج يضعف خيار الحرب أو على الأقل خيار العقوبات ضد إيران بدعوى مكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل، وهي كلها عناصر تفسر حالة الإحباط الشديد في دوائر السياسة الخارجية الأميركية من عمليات التجريب التي شهدتها السنوات الماضية، وحصول نكوص عن اعتماد سياسة إيجابية لكن دون تفكير عميق وبتجريبية صارخة. فكيف سيكون موقف الإدارة القادمة؟ ليس هناك من شك في أن سياسة أميركا المستقبلية تجاه المنطقة بغض النظر عن الفائز ستكون محكومة بضرورة تجاوز مأزق المراوحة بين خياري الإدماج والصدام، أما التجاهل فهو خيار سلبي يؤجل المشكلة دون أن يحلها، وهو ما يحمل معه مؤشرات أمل في حصول تغيير في المرحلة القادمة، يفتح آفاقا جديد لحركية التحول في المنطقة، إلا أن السؤال هو: ماذا أعدت فعاليات المنطقة لذلك؟