من هذا الملف مع محاكمة القيادات السياسية الستة التي انطلقت أمس الخميس، ويأتي في سياق طرح العديد من الأسئلة بخصوص الرواية الرسمية للسلطات المغربية بخصوص ملف بلعيرج، ومناقشة التدبير الحكومي لهذا الملف، كما يضع بين يدي القارئ تجربة الاختيار الإسلامي بمساراتها ومراجعاتها، ويسجل العديد من التناقضات التي وقعت فيها رواية وزارة الداخلية بخصوص علاقة القيادات السياسية الستة بالعنف، ومدى مطابقة المخطط الذي نسبته وزارة الداخلية لهذه القيادات بالوقائع السياسية التي شهدها المغرب بعد منتصف التسعينيات، كما يطرح أسئلة عميقة على طريقة الربط التي اعتمدتها الرواية الرسمية لتنتهي بها إلى تقرير تحول هذا المخطط من الهدف المحلي إلى الهدف الدولي بتنسيق مع تنظيم القاعدة. ولم ينس هذا الملف أن يطرح قضيتين أساسيتين للنقاش تتعلق أولاها بالشروط القانونية التي يتم فيها محاكمة هؤلاء في ظل غياب تمكينهم من شروط المعادلة العادلة، وقد سعت في هذا الاتجاه لمحاورة نقيب المحامين عبد الرحمان بنعمرو، وتتعلق الثانية بالتدبير الحكومي لهذا الملف، والتوظيف السياسي الذي لحقه والأهداف التي يراد تحقيقها من خلال استهداف القيادات السياسية الستة. كما يعرض هذا الملف لقرار المجلس الأعلى السمعي البصري بخصوص طريقة التدبير الإعلامي لهذا الملف، وقد حرصنا على تسجيل رأي المعتقلين الست وهيأة دفاعهم بصدده. أخذت قضية بلعيرج حيزا كبيرا من اهتمام الإعلاميين والسياسيين والحقوقيين، وأثار التدبير الحكومي لها نقاشا عموميا كبيرا شملت جوانبه البعد القانوني والقضائي والإعلامي والسياسي، بيد أن كثيرا من المتتبعين والناشطين الحقوقيين والسياسيين تواضعت تحليلاتهم على أن التدبير الحكومي لهذا الملف تجاوز الحدود القانونية، وأخل بالشروط والضمانات الضرورية للمحاكمة العادلة، وأنه تذرع بعنوان سلامة الدولة في وجه المخططات الإرهابية، وأباح لنفسه استباق القضاء في تقرير الأحكام، مستهدفا بذلك قرينة البراءة التي تقرها القاعدة القانونية التي تقول: إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، هذا السلوك الحكومي الذي تصرف من خلال بيان وزير الداخلية في وسائل الإعلام الوطنية، ومن خلال تصريحات وزير الاتصال على القناة الثانية، وفي برنامج حوار بالقناة الأولى، وإقدام الوزير الأول على حل حزب البديل الحضاري؛ دفع العديد من المتتبعين والمحللين السياسيين إلى الانتهاء في خلاصاتهم إلى أن الملف لم يكن بعيدا عن التوظيف السياسي، ودللوا على ذلك بالعديد من المؤشرات نوردها كما يلي: 1- التدبير الحكومي للملف على المستوى الإعلامي استغلت وزارة الداخلية تلهف الرأي العام إلى تلقف معلومات حول شبكة بلعيرج التي أعلن عن تفكيكها، وأصدرت بيانا مفصلا في الموضوع كشفت فيه عن مخطط كبير كان يستهدف سلامة الدولة المغربية، واتهمت فيه قيادات سياسية وإسلامية بالتورط في هذا المخطط، وبإنشاء تنظيم يتخذ واجهتين متكاملتين في العمل: واجهة العمل العسكري من خلال العمل الخاص والواجهة السياسية من خلال تأسيس حزب سياسي لاختراق المؤسسات السياسية في البلاد، واتهمت الأمين العام لحزب البديل الحضاري والأمين العام لحزب الأمة محمد المرواني بالضلوع في هذا المخطط، كما اتهمت كلا من عبد الحفيظ السريتي مراسل قناة المنار، ومحمد العبادلة مسئول ملف الصحراء بحزب العدالة والتنمية بالمشاركة في هذا المخطط، واتهمت حميد نجيبي عن الحزب الاشتراكي الموحد بالمشاركة في هذا المخطط عبر تقديم المساعدة للعصابة الإجرامية التي كونها جناح العمل الخاص. وقد أثار هذا البيان وما تلاه من تصريحات وزير الاتصال، وكذا تصريح الأمين العام للرباطة المحمدية الذي قدم تأصيلا شرعيا في الموضوع انتقادات حادة من قبل رجال القانون والناشطين في المجال الحقوقي، واعتبروا ذلك إفشاء لسر البحث التمهيدي، وتدخلا من الحكومة في اختصاصات القضاء، وطعنا في قرينة البراءة، ومسا بشروط المحاكمة العادلة، وأصدرت هيئة الدفاع عن القيادات السياسية الستة بيانا شديد اللهجة اتهمت فيه الحكومة بإفشاء سر البحث التمهيدي من طرف القائمين عليه، بالرغم من أن القانون يمنعهم تحت طائلة العقوبات المقررة في القانون الجنائي وأوضح البيان ألا حق لوزير الداخلية في الاطلاع على مجريات البحث التمهيدي الذي تجريه الضابطة القضائية، واعتبر سلوك وزارة الداخلية يندرج ضمن الضغط على القضاء وتوجيهه، والإخلال بالضمانات التي يوفرها القضاء للمحاكمة العادلة، واحتجت عل سلوك الحكومة، وقدمت شكاية بالقناتين الأولى والثانية للمجلس الأعلى السمعي البصري؛ لكونهما خالفا دفتر التحملات، وانخرطا في انحياز كامل لرواية الحكومة، وهو ما كان موضوع قرار أقر فيه المجلس الأعلى السمعي البصري بانحياز الإعلام العمومي، وإن كان لم يرق إلى درجة ترتيب عقوبات على القناتين الأولى والثانية؛ جراء ارتكاب هذه الأخطاء المخلة بواجبهما المهني. وقد أدان القرار الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة بمبدأ عدم احترام التعددية، لكنه لم يسمح بتوفير التعددية من خلال رد المصطفى المعتصم، ومحمد المرواني. 2- التدبير الحكومي للملف على المستوى السياسي كان أكبر خطأ وقع فيه التدبير الحكومي لهذا الملف هو إقدام الوزير الأول على حل حزب البديل الحضاري. هذا القرار الذي استبق القضاء نظر إليه من الناحية السياسية على أساس أنه إدانة لحزب البديل الحضاري وتأكيد نسبة التهم لأمينه العام مصطفى المعتصم، وهو الأمر الذي لا يملك أن يقره إلا القضاء. وقد استنكر العديد من الفاعلين السياسيين والحقوقيين هذا القرار الذي أقدم عليه الوزير الأول، واعتبروا أن اللجوء إلى استعمال الفصل 75 من قانون الأحزاب السياسية لا يعكس الوضعية التي يوجد عليها حزب (البديل الحضاري) قبل الحل، ودعوا إلى إلغاء قرار الحل؛ مطالبين بإسناد اختصاصات أي حل حزب سياسي أومدني أووضع قيد على الحريات العامة إلى الجهاز القضائي وحده؛ بعيدا على السلطة التنفيذية، وهكذا اعتبروا قرار الحل مدانا من جهتين: - قانونيا: لأنه لا يستجيب إلى الشروط القانونية المنصوص عليها في قانون الحزب، ذلك أن شروط حل الحزب حسب هذا القانون لا تنسحب إطلاقا على حزب البديل الحضاري. سياسيا: إن إقدام الوزير الأول على حل حزب البديل الحضاري والقضية لا زالت معروضة على القضاء تطرح مشكلة قانونية وسياسية عميقة، ذلك أن هذا القرار يتضمن إدانة مسبقة لقيادة هذا الحزب، وإخلالا بشروط المحاكمة العادلة. وهو الجانب الذي يظهر فيه حضور البعد السياسي لهذا الملف وتغطيته على الجوانب القانونية فيه. 3 التدبير الحكومي للملف على توفير شروط المحاكمة العادلة: كان المفترض أن تصحح الاختلالات التي ارتكبها التدبير الحكومي على المستوى السياسي والإعلامي، وأن يوفر للمتهمين كل الشروط والضمانات التي يكفلها القانون حتى ينعم المتهمون في هذا الملف بالمحاكمة العادلة، لكن يبدو أن هذه الاختلالات قد تعمقت، وذلك من خلال منع المتهمين وهيئة دفاعهم من تسلم نسخ من محاضر الاستماع التي أجرتها الشرطة القضائية معهم قبل إجراء قاضي التحقيق للبحث التفصيلي، وهو الأمر الذي سيجعل القضاء في امتحان إثبات استقلاليته وعدم خضوعه للاعتبارات والضغوط السياسية. في التوظيف السياسي للملف هذا الموقف يزيد من تأكيد الشكوك على أن هذه القضية هي قضية سياسية بالأساس، وأن هناك إرادة سياسية من جهات تريد أن تستثمرها لضرب فعاليات سياسية بعينها، خاصة وأن الأمر تزامن مع عملية إعادة هيكلة الحقل الحزبي، والتي انخرط فيها الوافد الجديد في إطار استراتيجية لتقوية القطب اليميني الإداري، وتصفية كل الأحزاب التي من شأنها أن تخلق تكتلات خارج منطق الطبيعة حسب تعبير حسن بن عدي في برنامج حوار الأخير، وقد يكون المراد من هذا الاستثمار السياسي لملف بلعيرج واستهداف الحزب الاشتراكي الموحد وحزب البديل الحضاري وحزب الأمة وبعث رسالة سياسية إلى من يهمه الأمر إلى أن النظام السياسي لا يقبل أن تقوم تحالفات بين اليسار والإسلاميين؛ بالشكل الذي تطور به الموقف بين القوى الإسلامية الديمقراطية وبين اليسار في العديد من القضايا المركزية، وعلى رأسها قضية نصرة القضية الفلسطينية ومقاومة التطبيع. وعلى الرغم من أن هذا التحالف لا يهدد النظام السياسي في شيء في المدى المنظور إلا أنه من الممكن أن تكون بعض الجهات داخل الدولة قدرت أن من شأن هذا التحالف أن يكسر الحواجز النفسية المصطنعة، والتي تحول دون قيام تحالف سياسي بين اليسار والقوى الإسلامية الديمقراطية، ولذلك حاولت الدخول على الخط، واستثمرت ملف بلعيرج من أجل استهداف هذه القوى جميعا. بالإضافة إلى المؤشرات التي تكشف حضور البعد السياسي ، تجدر الإشارة إلى أن التوظيف السياسي الأخطر في الموضوع يكمن في الرؤية التي يحاول أن يرسخها هذا الملف عن الحركة الإسلامية، فيبدو واضحا من خلال الإخراج الذي قدمته وزارة الداخلية الحرص على الحديث عن ازدواجية تكاملية في عمل مكونات الحركة الإسلامية التي اعتقلت قياداتها، بين العمل السياسي الذي تحدثت وزارة الداخلية على أن الهدف منه هو اختراق المؤسسات السياسية، وبين العمل العسكري المسلح الذي يستهدف المصالح الحيوية في بالبلاد، وبغض النظر عن الانتهاك الصارخ الذي ارتكبته وزارة الداخلية وهي تقدم روايتها على سبيل الجزم دون أن يكون القضاء قد قال كلمته فيها، فإن الحرص على إخراج الرواية بهذه الطريقة دون الالتفات إلى إمكانية وجود احتمالات أخرى من قبيل حدوث مراجعات داخل تنظيم الاختيار الإسلامي أدت إلى ترك العمل السري والأحلام الطلابية كما صرح أحد قيادات البديل الحضاري في حوار صحفي أجرته معه التجديد، وقادت إلى تبني خيار العمل في إطار الشرعية، وهو الاحتمال الذي تؤكده عدة مؤشرات. المشكلة أن وزارة الداخلية في روايتها استبعدت تماما هذا الاحتمال الراجح الذي يؤكده أكثر من مؤشر، ونسجت رواية بنتها على بعض الوقائع المنسوبة إلى هذه القيادات حسب محاضر الاستماع إليهم لدى الشرطة القضائية، وهي الوقائع التي حصلت في تجربة الاختيار الإسلامي التي تعتبر جزءا من تجربة الماضي التي طوتها تجربة الإنصاف والمصالحة. ولعل هذا الاختيار من وزارة الداخلية، استثمرته بعض الجهات لتكرس لدى الرأي العام صورة نمطية عن الحركة الإسلامية بجميع مكوناتها، ترى أن الازدواجية صفة لصيقة بها، وأنها لم تتخل عن العنف حتى وهي داخلة ضمن المؤسسات السياسية، وأن إيمانها بالديمقراطية وبالعمل إلى جانب بقية الشركاء السياسيين يدخل ضمن استراتيجية تكامل الأدوار بين جناح عسكري خفي، وجناح سياسي مهمته اختراق المؤسسات السياسية للبلد.