قبل وفاته بسنوات قليلة، نشر المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي مذكراته تحت عنوان شاهد نصف قرن. بن نبي، الذي ولد في مطلع القرن العشرين وتوفي في 1973، قصد بذلك العنوان تسجيل شهادته على مجريات عقود خمسة من القرن العشرين، عاشها واعياً بأحداثها ومشاركاً في بعضها، ومراقباً لتياراتها الفكرية والسياسية، بين الجزائر وفرنسا ومصر. عبد الوهاب المسيري، الذي توفاه الله هذا الشهر عن سبعين عاماً، نشر هو الآخر بعضاً من مذكراته قبل سنوات قليلة. وإلى جانب قيمتها الأدبية الكبيرة، فإن مذكرات المسيري تقدم شهادته على نصف قرن آخر، النصف الثاني من القرن العشرين، شاباً وكهلاً، طالباً ومناضلاً ومفكراً، شيوعياً وقومياً وإسلامياً، ومراقباً لأحوال عالمنا الذي عاشه بين مصر والولاياتالمتحدة، وتنقل بين مدنه وعواصمه، شرقاً وغرباً. وككل الشهود الكبار على هذا العالم بالغ الاضطراب والاتصال والتعقيد، فسيكون من الخطأ والتبسيط تصنيف المسيري في خانة سياسية أو فكرية صغيرة. المساحة التي احتلها المسيري في خارطة العرب الفكرية المعاصرة هي بالتأكيد أكبر بكثير مما يظنه محبوه أو منتقدوه. ولد عبد الوهاب المسيري بمدينة دمنهور لأسرة تجارية وصناعية من طبقة ما بين الحربين المصرية الوسطى. وبالرغم من أن الأسرة ستعاني من إجراءات التأميم الاشتراكية في العهد الناصري، فإن ذلك لم يرسب مرارة ما لدى المسيري، ولم يمنعه من العمل في مؤسسة الدولة بعد عودته من دراساته العليا في الولاياتالمتحدة. وربما يمكن القول إن المسيري كان على نحو ما نتاج العهد الناصري، ليس بالمعنى السياسي للناصرية، بل بمعنى التحولات الكبرى التي صنعتها الجمهورية في البنية الاجتماعية المصرية. في العهد الجمهوري، كسرت هيمنة الارستقراطية المصرية وشرائح الطبقة الوسطى العليا على مقدرات مصر السياسية والثقافية والاقتصادية، وفتحت أبواب معاهد التعليم الكبرى لكافة شرائح الشعب المصري، وأصبح بإمكان حتى أبناء المدن والقرى الطرفية والبعيدة أن يتلقوا أفضل تعليم متوفر في بلادهم، وأن يرسلوا في منح دراسية إلى أفضل الجامعات الغربية. هذا المناخ، مناخ تساوي المصريين في الفرص إن كان لدى أي منهم الاستعداد، كان الرافد الأول في تكوين المسيري. بيد أن ثمة رافداً آخر يتعلق بالمثابرة وقيم العمل الصارم. وقد رأيت عبد الوهاب المسيري يعمل على مدى العقدين الماضيين بعزيمة يحسد عليها، باحثاً عن المصادر، مناقشاً، وكاتباً، ومحاضراً. وحتى عندما كان ينجز عملاً ما، لم يكف عن التدخل في أدق تفاصيل عملية النشر، الفني منها والشكلي. قبل أسابيع قليلة من وفاته، كنت أزوره وبعض الأصدقاء في منزله، وكان لا يزال يعمل وعلامات الإجهاد بادية عليه، حتى إن د. هدى حجازي، رفيقة عمره، أعربت لنا بهدوء عن قلقها من انكبابه المستمر على عمله. ولعل هذه الخلفية هي ما يثير القلق على أوضاع مصر الحالية. فمن ناحية، عاشت مصر خلال العقود القليلة الماضية تراجعاً مستمراً في مناخ تكافؤ الفرص، بعد أن افترق التعليم المدرسي والتعليم الجامعي على السواء إلى مجالين منفصلين، أحدهما لعموم المصريين والآخر لأبناء الطبقات الميسورة والنافذة بكافة شرائحها. ولم تعد المثابرة والاجتهاد والعمل الصارم تكفي لتحقيق الطموحات؛ فتكلفة التعليم الجيد تفوق قدرات الأغلبية الساحقة، ومنذ القضاء على مؤسسة الوقف، تضاءلت قيم التكافل ومكافأة ذوي الاستعداد والمجتهدين. ومن ناحية أخرى، تعاني مصر من تراجع حثيث في قيم العمل، بينما يسيطر على البلاد مناخ ثقيل من السعي إلى الكسب السريع، والثراء بلا جهد، وتحقيق أقصى الطموحات في أقصر زمن ممكن، بغض النظر عن الاستحقاق. تلقى المسيري دراسته الجامعية في الإسكندرية، وفي كولومبيا ورتجرز بالولاياتالمتحدة. تخصصه الأولي كان في الأدب الإنكليزي، الذي ظل وفياً له حتى سنوات حياته الأخيرة. ولكن اهتماماته، كما إدوارد سعيد، سرعان ما اتسعت لتطال كبار القضايا التي تشغل عالمنا المعاصر، ليس فقط بفعل ثراء ثقافته ونزعته النقدية المستقلة وتجربته الأكاديمية، ولكن أيضاً بتأثير مجالات عمله المتعددة، من الجامعة في مصر والسعودية والكويت، مركز الدراسات الإستراتيجية في الأهرام ومستشارية وزارة الإعلام، إلى وفد الجامعة العربية في الأممالمتحدة. وفي كل موقع احتله، كان يترك خلفه انطباعاً يصعب محوه، وينضم إلى حلقته مزيد من التلاميذ والمريدين. وربما كانت دراسته في الولاياتالمتحدة وعمله كمستشار لوفد الجامعة العربية في الأممالمتحدة هو ما دفعه لحقل الدراسات الصهيونية. كتب المسيري في مجالات النقد الأدبي، العربي والإنكليزي، وكتب نصوصاً هامة في الشعر الحديث والقصة، وحتى قصص الأطفال. ولكن إسهاماته الكبرى كانت في دراسة اليهود والصهيونية، في قراءته للعلمنة، وفي تحليله لإشكالية التحيز. وتعتبر موسوعته حول اليهود والصهيونية، التي استهلكت زهاء العقدين من العمل، أبرز إضافة قدمت باللغة العربية في هذا المجال الشائك، الذي لا يتطلب جهداً بحثياً هائلاً ومعرفة عميقة وواسعة وحسب، بل ويتطلب أيضاً قدراً هائلاً من الموضوعية والدقة، نظراً للصراع المحتدم على فلسطين الذي يمس حياة العرب جميعاً. وبغض النظر عن الخدمة المعرفية الكبيرة التي قدمها المسيري في موسوعته للقارئ العربي، ينبغي النظر إلى مفهوم الجماعة الوظيفية الذي استخدمه لتفسير علاقة الدولة العبرية بالقوى الإمبريالية الكبرى، باعتباره إضافة ملموسة لحقل العلوم الاجتماعية. أثار المفهوم/المصطلح، عندما نشر المسيري عمله، جدلاً واسعاً في الأوساط العربية؛ ولكن سلسلة المقالات بالغة الأهمية التي نشرها الأكاديمي الإسرائيلي مائير فيريت تؤيد إلى حد كبير أطروحة المسيري، على الأقل فيما يتعلق بلحظة ولادة المشروع الإسرائيلي خلال سنوات الحرب العالمية الأولى. ومن الدراسات اليهودية والصهيونية، انتقل المسيري إلى دراسة العلمانية. وهنا أيضاً سرعان ما طرح مفهوم العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية. ولم تكن ردود الفعل على أعماله حول الفكرة ونمط الاجتماع العلمانيين أقل من تلك التي ولدها نموذجه التفسيري للدولة العبرية. وإلى جانب قراءته لظاهرة التحيز في العلوم الإنسانية والاجتماعية، لا يبدو أن جانباً من جوانب عمل المسيري أسيء فهمه كما أسيء فهم مقاربته للعلمانية، سواء من أولئك الذين وافقوه أو عارضوه، بحيث وضع هذا المفكر الحديث، ابن الميراث الإنساني الواسع، في خانة الراديكاليين المسلمين الجدد، الذين أودي بهم الصعود الأصولي إلى الارتداد على الحداثة. وليس هذا بالطبع مجال الجدل حول رؤية المسيري للإسلام والعالم الحديث؛ ولكني أذكر نقاشاً بيننا حول الاجتماع السياسي الإسلامي التقليدي، وكيف أن المسلمين ميزوا وظيفياً بين طبقة الحكم والجند، من ناحية، وطبقة العلماء، من ناحية أخرى؛ وقد أبدى اتفاقاً كاملاً مع هذه الرؤية للتجربة الإسلامية التاريخية. مشكلة المسيري مع العلمانية، إن كان يمكن اختصارها في كلمات، تتعلق بالتشييء المتسارع للإنسان: الإنسان باعتباره سلعة، هدفاً للاستهلاك، ورقماً إحصائياً في الحروب. وليس ثمة شك أن التطور البارز في رؤيته للإسلام خلال العقود الأخيرة من حياته كان نتاجاً لتطور رؤيته للمسار الراديكالي الذي أخذته الحداثة الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر. بمعنى، أن المسيري وجد في النهاية أن مسلم القرن العشرين بإمكانه أن يعيش الحياة الحديثة بدون أن يتخلى عن إيمانه، وأن الحفاظ على منجزات الحداثة لا يتطلب الاستسلام لقوى التشييء الإنساني وللتصور الحلولي المادي للعالم. في مطلع حياته، وبالرغم من انتمائه لحزب معارض ممنوع، لم يكن مزاج المسيري سياسياً بالضرورة. وربما كانت نشاطاته اللاحقة لخدمة القضية العربية والمسألة الفلسطينية أثناء وجوده في الولاياتالمتحدة أقرب إلى الشعور بالواجب منه إلى الرغبة في أن يكون نشطاً سياسياً. ولكنه في نهاية الستينات من عمره، وقد أصابه المرض، قبل أن يصبح أميناً عاماً لحركة كفاية، الهيئة المصرية المعارضة غير الحزبية. وقد أثارت خطوته تلك إشفاق بعض من أصدقائه، الذين وجدوا في انشغاله بتفاصيل السياسة المصرية إرهاقاً إضافياً، في وقت لم يعد لديه الكثير من الوقت، ودفعاً به إلى مربع سياسي محدود، بينما هو يحسب في عداد حراس الضمير الوطني. ولكنه مضى في قراره بلا تردد، مساهماً في لقاءات كفاية التنظيمية وفي تجمعاتها ومظاهراتها الشعبية. وفي المقابل لم تتردد أوساط الحكم (وهو الحامل لجائزة الدولة التقديرية) في إحدى التظاهرات الاحتجاجية عن اختطافه وزوجته، والإلقاء به في طريق مهجور خارج المدينة. البعض ممن علق على انخراط المسيري في حركة المعارضة السياسية رأي في تلك الخطوة تصميماً على كسر الجدار التقليدي بين المفكر والنشاط السياسي العملي. وهذا بلا شك كان في حسبان المسيري؛ ولكن ما بدا واضحاً في أحاديثه المتكررة خلال السنوات القليلة الماضية كان ما هو أكثر من ذلك: قلق عميق على مستقبل مصر ودورها، قلق استدعى منه خطوة أكثر وضوحاً وصراحة من الكتابة والتعليق العابر على الشأن العام. بيد أن ما هو أبلغ وأكثر مدعاة للحزن في وداع المسيري هو الإنسان خلف هذه الإنجازات جميعاً. كان عبد الوهاب المسيري إنساناً بكل ما يحمله المثال الإنساني من معنى، رب أسرة وصديقاً ومعلماً. ترى تعامله مع أبنائه وأحفاده فتصاب بالدهشة، وترى استقباله لأصدقائه وتلاميذه فتصاب بدهشة أكبر. قبل سنتين، كنت وأسرتي في زيارة للقاهرة، وقد التقينا على العشاء بدعوة منه ود. هدى. كان في تلك الفترة مشغولاً بتجميع أكبر عدد من النكات، تمهيداً لقراءة المحتوي السياسي والثقافي - الاجتماعي للنكتة المصرية. وقد جلست أشاهد المفكر الكبير، مدهوشاً، وهو يذكر لابني الصبي النكتة وراء الأخرى، ويشرح له حمولاتها الدلالية، بصبر وأناة وجدية بالغة. بغياب عبد الوهاب المسيري، لن تعود القاهرة كما كانت.