درجنا في هذه الأحاديث الجمعية على إحياء ذكريات مشاهير الفكر الإسلامي والدعوة الإسلامية وشخصيات علمية وأدبية ذات وزن في الفكر الإنساني بصفة عامة اما من خلال عرض أفكار أو إنتاج أو مواقف يمكنها ان تذكر وتدفع للتي هي أفضل من القيم الإنسانية والسمو الروحاني، أو الدعوة إلى العدالة والإنصاف بين الناس، والذود عن الحرية والكرامة، وقد يلتقي في هذا أناس وأعلام قد لا يربطهم اتجاه عقدي أو مذهبي أو فكري، أو مرحلة زمانية أو عمرية مشتركة، وكل ذلك على أساس ومبدأ وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين وسيرا مع هذا العرف أو التقليد الذي دأبنا عليه فسنخصص هذا الحديث لشخصية من شخصيات الجهاد الفكري والعلمي في القرن العشرين الميلادي أو القرن الرابع عشر الهجري والذي كان عنصرا فاعلا ومؤثرا في الحياة الفكرية في حياته ولا يزال تراثه الفكري والعلمي مؤثرا وقد عالج في كتاباته الحياة الاقتصادية في المجتمعات الإسلامية والنامية بصفة عامة وشروط تجاوز التخلف. وننطلق من الإشارة إلى القرن الرابع عشر الهجري، لان الرجل رحمه الله كان يرى ويلح دائما على ان مشاكل العالم الإسلامي انطلقت من معركة (صِفين) ولذلك يجب ان نعالج مشاكلنا في سياق هذا التاريخ لا في سياق تاريخ آخر، ولذلك عندما بدأ في معالجة المشاكل الحضارية والثقافية انطلق من مقولة (عالم ما بعد الموحدين)، وهو في الواقع عندما يحدد التاريخ مرحليا بهذا الشكل يلتقي مع من حقب بمراحل الازدهار ومراحل الانحطاط التي تبتدئ بالقرن الرابع وتبلغ القمة في القرن السابع الهجري لدى ذوي التحقيب بهذا الأسلوب من مؤرخي الأدب والفكر في العالم العربي. لقد كان رحمه الله من الذين نذروا أنفسهم لخدمة الأمة الإسلامية من خلال الكتابة، ومن خلال منهاج خاص امتاز به بين الدعاة والمجددين في القرن العشرين الميلادي او الرابع عشر الهجري. ولم يكن يرى ان أمر هذه الأمة يمكنه ان يصل إلى هدفه في النهوض والتنمية الا بالاعتماد على ما اعتمد عليه سلفها، من عقيدة سليمة، وسلوك قويم، محاولا ان يصب كل ذلك في قوالب علمية ومعادلات رياضية ليجعل من أفكاره أفكارا قابلة للتطبيق، وهذا ما يميزه عن غيره من المفكرين المعاصرين له، وقد كان بهذا الاعتبار اعتبار عقلنة القضايا واستعمال المناهج الحديثة ذا أسلوب نقدي سواء تعلق الأمر بالحياة الفكرية أو الاجتماعية، ومن هنا كان موقفه من الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي وفي بلده بالذات يتسم بالتحليل والنقد في بعض الأحيان لغاية التصويب والترشيد، اما الأحزاب السياسية في بلده فقد كان له موقف واضح منها قبل قيام الثورة، وهذا ما خلق له خصوما كثيرين في بلده ورغم انه عاد بعد لاستقلال وتحمل مسؤولية في إدارة البحث العلمي ولكن مواقفه من أسلوب إدارة الأمور ومعالجة القضايا السياسية والاجتماعية سرعان ما عجلت باستقالته والابتعاد عن الإدارة ليعالج قضايا الفكر وقضايا النهضة ومشاكل الحضارة بعيدا عن مؤثرات المسؤولية. وإذا كان الرجل من الصنف الذي لا يوارب أو يداهن دون التعبير عن موقفه فان هذا جعله عرضة لاتخاذ بعض المواقف التي برهن تطور الأحداث على أنها كانت مواقف متسرعة، إذ كان ضحية لشيء من التبسط للأمور والاستنتاج الاستنتاجات الكبرى، تم يتراجع عنها لأن الغير قدم له مبررات أو معلومات وهذا ما جعل موقفه تجاه عبد الناصر وتجاه حركة الإخوان وتجاه مؤتمر باندونع ينبني على استنتاجات تعرضت لنقد كبير بعد ذلك، ونفس الشيء من موقفه تجاه جمعية العلماء الجزائريين التي أشاد بها كثيرا ولكنه سرعان ما ينتقدها لأنها في لحظة ما رأت انه من الممكن اكتساب أو تسجيل نقط لصالح أطروحتها في منتصف الثلاثينيات من لقرن الماضي بمساهمتها في مؤتمر عقد في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي في الجزائر. لقد كان لرجل إذن من أولئك الرجال الذين نشأوا في وسط الصراع بين الوطنية والاستعمار، وبين دعوة النهوض ودعوة التأييس والإحباط. ومع هذا وذاك فان الرجل الذي عاش حوالي سبعين سنة 1905-1973 خلف تراثا هائلا من الدراسات والأبحاث كان رائدا في عصر قضايا العالم الإسلامي فيما اسماه مشكلات لحضارة وهكذا عالج مشكلة الثقافة وشروط النهضة ومشكلة الأفكار والصراع الفكري وغير ذلك من القضايا التي كان ينظر اليها على أنها أساس ما يعانيه المجتمع الإسلامي من تخلف في مجالات عدة، وقد سبق لي في فترات مختلفة تناول بعض القضايا من خلال وجهة نظره كما عرضت في بعض المقالات مصدرا مهما من المصادر التي نهل منها وهو لا يزال طالبا، والذي كان له أثر كبير في توجهه الفكري بالإضافة إلى ما عايشه من الأحداث كما يروي ذلك في مذكراته (شاهد القرن)، وكما هو مثبوت في كتبه هنا وهناك اما المصدر الذي أشار إليه في مذكراته فهو كتاب الخيبة الأدبية للسياسة الغربية الذي كتبه احمد رضا بك رئيس برلمان الانجاد والترفي في تركيا وترجمة محمد بورقية ومحمد الزمرئي وهو كتاب تناول فيه السياسي التركي خيبة ظنه في الغرب وفيما يدعيه من حرية وتجرد وذلك عقب ما عاينه وعايشه أثناء تفاوض بلده مع الغرب عقب مؤتمر الصلح بعد الحرب العالمية الثانية. ونعود الى صاحبنا للقول ان القضايا التي نعالجها في المقالات الأخيرة ومن خلال هذه الأحاديث والمتعلقة بالأزمة المالية وذيولها الاقتصادية لم تكن بعيدة عن اهتمامات الرجل، اذ كان هاجس المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها الأمة الإسلامية والعالم الثالث مما أخذ من فكره وكتاباته حيزا كبيرا، ولاسيما والرجل مهندس كهربائي يحسب الأمور بدقة وسرعة تستمد جذورها من حسابات ودقة من يتعامل مع سرعة الضوء، وقد خص الموضوع بكتاب مستقل عنوانه (المسلم في عالم الاقتصاد)، عالج فيه الأفكار الأساس التي ينبغي ان تكون عليها فعالية المسلم في المجال الاقتصادي ونجد جذور هذا الكتاب الذي كتبه في الستينيات من لقرن الماضي في كتابه المهم والذي يحمل عنوان: (فكرة الإفريقية الأسيوية في ضوء مؤتمر نرويج). مبادئ اقتصاد افريسوي فعال حيث كتب فصلا بعنوان (مبادئ اقتصاد افرسيوي فعال) واذكر ان هذا الفصل قرأت ترجمته في مجلة لآداب البروتية) قبل ان يصدر في كتاب بترجمة عبد الصبور شاهين وتقديم أنور السادات الذي كان يشغل آنذاك سكرتير المؤتمر الإسلامي في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي وقد استهل هذا الفصل بقوله: » إن هدفنا الأول هو أن نوفر لشعبنا الغذاء والكساء« إن النظرية الماركسية التي ترد المشكلة الإنسانية كلها إلى العوامل الاقتصادية تغفل بعض الأشياء الجوهرية في الظاهرة الاجتماعية أو تغض من شأنها.. ولكن هذه النظرية صادقة في الحدود التي يمكن أن تفسر فيها الظاهرة الاجتماعية تفسيرا اقتصاديا. وفي هذه الحدود الواسعة يعتبر »الإطار الإنساني« الممتد من طنجة إلى جاكرتا شاشة من المباني والتكوينات الاقتصادية، ويعتبر »النموذج الاجتماعي« الجائع العاري الذي نراه في الصورتين المنشورتين في فصل سابق ثمرة لهذه المباني؛ وتلك التكوينات. وعليه فمن الممكن أن نتحدث في هذه الحدود عن حتمية اقتصادية تضغط بثقل قضائها على مصير الشعوب الإفرسيوية، ولكن هذا القضاء لا دخل فيه للميتافيزيقا، وهو ليس قضاء مطلقا نهائيا، بل هو عارض طارئ من أعراض التاريخ أو هو بمثابة الزمن الميت في النمو المادي لتلك الشعوب، يتفق مع تلك الأوضاع الشخصية الموروثة التي تتنافى مع الأوضاع الاقتصادية التي حددتها وفرضتها الحضارة الغربية. ولقدت ظهرت الآثار الاجتماعية لهذا التنافي منذ اللحظة التي وقع فيها الرجل الإفرسيوي في الأحبولة الاستعمارية، فأصبح العميل المستعبد المستغل للاقتصاد الحديث، دون أن يجد في نفسه، وفي تقاليده وفي عاداته الوسيلة الكافية كما ينتزع نفسه من تورطه، وهكذا بدأ عصر الحتمية الاقتصادية بالنسبة له مع بدء العصر الاستعماري. ولم يخلصه تحرره السياسي بصفة عامة من التورط الاقتصادي فإن المشكلة أولا ذات طابع نفسي حيث إن المعنى الاقتصادية لم يظفر في ضمير العالم الإفرسيوي بنفس النمو الذي ظفر به في الغرب، في ضمير الرجل المتحضر، وفي حياته. والحق أن الاقتصاد في الغرب قد صار منذ قرون خلت ركيزة أساسية للحياة الاجتماعية، وقانونا جوهريا لتنظيمها. أما في الشرق فقد ظل على العكس من ذلك في مرحلة الاقتصاد الطبيعي غير المنظم حتى إن النظرية الوحيدة التي تناولت تأثير العوامل الاقتصادية في التاريخ وهي نظرية ابن خلدون قد ظلت حروفا ميتة في الثقافة الإسلامية، حتى نهاية القرن الأخير. فلم يقبل المجتمع الشرقي تحت تأثير احتياجاته الداخلية على أن يضع نظرية اقتصادية كما حدث في المجتمع الغربي، حين وضع الرأسمالية أو الشيوعية. إنه لم يقبل على هذا بسبب ما انطوى عليه من نفسية خاصة منعقدة على »الزهد« كمثل أعلى قرون، وإن فقها اقتصاديا يستلهم خطته ومفاهيمه من مثل كهذا، ويصدر عنه لا يمكنه بداهة أن يعبر بنفس الدقة العملية عن فكرة (المنفعة) الخاصة بالرأسمالية، أو عن فكرة (الحاجة) الخاصة بالنظرية الماركسية فالزهد والمنفعة والحاجة ثلاث حقائق لا يمكن أن تدخل في اطراد اجتماعي واحد، وفي واقع اقتصادي واحد. فقد كان هناك إذن عنصر تنافر أساسي بين الأوضاع الشخصية الموروثة في البلاد الإفرسيوية وبين التكوينات الاقتصادية التي وضع أسسها العصر الاستعماري.(ص169 وما بعدها من الطبعة الأولى). لقد اخترنا مدخل هذا الفصل الذي خصه مالك بن نبي لنقد الجمود على الماضي الذي امتاز به الشرق أو العالم الثالث وفي مقدمته العالم الإسلامي محور »طنجة جاكرتا« وفي نفس الوقت للتقليد لمذهب من المذاهب الجاهزة دون التفكير في الاستفادة مما عنده. ويزيد لهذا الموضوع تحليلا ونقدا في كتابه المشار إليه (الحكم في عالم الاقتصاد) حيث يقول في فصل بعنوان: حدود الاختيار الإسلامي إذا تأملنا الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة المشكلات الاقتصادية، نرى أنه يضيق على نفسه مجال اجتهاده، بمقتضى مسلمات ضمنية يمكن حصرها تقريبا فيما يلي: 1 _ إنه يفكر أولا على أساس أن الموجود في المناهج الاقتصادية هو ما يمكن إيجاده. 2 _ إن النشاط الاقتصادي لا يمكن من دون تدخل المال، سواء في صورة استثمار تنظمه وتشرف عليه قطاعات خاصة أو استثمار تهيمن عليه سلطة سياسية، فيما يسمى القطاع العام. ومن هنا يبتدئ تعثر الفكر الإسلامي بصعوبات تنشأ من طبيعة موقفه من الأشياء، لا من طبيعة الأشياء ذاتها. فالمسلمة الأولى، مثلا، تضطره إلى الاختيار بين الرأسمالية، وبين الشيوعية. وإذا به يجد نفسه، مهما كانت ميوله، أمام مشكلات فنية، أو مذهبية، أو على الأقل أخلاقية، تضيف إلى متاعبه ما شاء الله، لأنه لا يجد لها حلا في نطاق اختياره في كلا الاتجاهين، إلا على حساب مبادئه الأولية، وبالتالي على حساب شخصيته وهويته من التاريخ. فان جنح إلى الرأسمالية فسرعات ما يصطدم بإباحيتها القائمة على المبدأ الذي عبر أدم سميث، في بداية العهد الاقتصادي الحديث، في عبارته الشهيرة: دعه يعمل، دعه يسير. والآن، بعد قرن ونصف، يرى المسلم بكل وضوح أين يؤدي هذا، إلى أي اضطراب اجتماعي يؤدي بالمجتمع الذي يسير هكذا، إلى أي انحرافات ثقافية تنشأ فيه كردود أفعال ضرورية أمام إفراط في الإنتاج وتفريط في التوزيع، فتنشأ الماركسية مثلا وتقوم على أساسها الثورات الشيوعية لتعيد المياه لمجاريها في عالم الاقتصاد حسب زعمها. ولا يصطدم المسلم في هذا الاتجاه، بإباحية الرأسمالية فحسب، أي بروحها فقط، بل سيصطدم أيضا بشروطها أو بعض شروطها الفنية، لأن الرأسمالية تقتضي استثمار المال كالوسيلة الوحيدة لدفع عجلة الاقتصاد، وإذا بها تلجأ لعملية تجميع الأموال وتركيزها في مؤسسات معينة، البنوك، لتقوم هي بتوزيعها وتوظيفها في القطاعات الإنتاجية المختلفة، على أساس الربا في عمليتي التجمع والتوزيع. وإذا بالمسلم الذي يختار هذا الاتجاه يغوص في محاولة تخليص الرأسمالية من الربا، لأنه محرم في شريعته. وكأنه من الناحية الفنية يحاول تخليص جسد من روحه، ويرجو أن الجسد سيبقى حيا وسيقوم بمهماته. ان المرحوم «مالك بن نبي» يضع إشكالية المسلم في عالم الاقتصاد في كونه يتردد بين حلين غريبين أحلاهما مر، وهذا في الوقت الذي كان فيه المطروح على الشعوب هو يمين أو يسار؟ وفي حين ان الذي يجب أن يقوم به المسلم هو اختيار طريق ينسجم مع مقوماته الحضارية والا سيظل يجدد في التقليد، ان المطلوب هو اقتصاد يجمع بين القوت والتنمية كما يقول مالك بن نبي.