في يوم 12 مارس 1964 اسلم العقاد الروح إلى بارئها وترك تراثا فكريا وأدبيا هائلا، كما ترك للناس منهاجا متميزا في البحث والدراسة والتحليل، وقد كان الناس تجاه الرجل وفكره ومواقفه ذوي مواقف متباينة وذلك لأن خصوماته الأدبية والفكرية ومعاركه السياسية تركت أثرا في نفوس الكثيرين، كما أن تعاطف الناس الآخرين مع اختياراته الفكرية جعلتهم ينحازون إليه، والواقع أن الذي لا يستطيع تجاوزه أي كان هو مكانة الرجل الفكرية والعلمية واطلاعه الواسع ومزاحمته للكثيرين في اختصاصاتهم الفكرية والعلمية وفي حديث الجمعة نعرف ببعض أفكاره حول الديمقراطية في الإسلام. الفكر العربي في القرن العشرين عرف نهضة قوية ومهمة وجادة، وكانت هذه النهضة تتشخص في أعلام استطاعوا بما أوتوا من مواهب ومن الجدية والمثابرة ان يكونوا في مستوى ما كان مطلوبا منهم من الشجاعة الأدبية والجرأة الفكرية و من الإنتاج الفكري والأدبي، وكانت لهم بجانب هذا العمل الفكري المضني مساهمات في الحياة العامة والسياسية في أوطانهم، واستطاعوا أن يكون لهم شفوف ومكانة ليس في أوطانهم القطرية فحسب ولكن على مستوى العالم العربي ككل، بل ان إنتاجهم أو إنتاج بعضهم على الأقل وجد مكانته في دائرة أوسع من الوطن العربي في العالم الإسلامي وغيره. ونظرا لهذا التأثير الواسع لديهم تجد الناس في أقطار أخرى يناقشون هذا الإنتاج فيأخذون منه ويردون، ويقبلون ويرفضون، ولكنهم بصفة عامة موجودون، وتأثيرهم قائم بين الناس، ومن هنا كان وجودهم حاضرا في تاريخ الفكر وتاريخ الأدب والنقد الأدبي وغير ذلك من مجالات التأليف والدراسة وفي مناهج التعليم في الكليات والمعاهد العلمية. وعباس محمود العقاد واحد من هؤلاء الأدباء والمفكرين الموسوعيين الذين تركوا بصماتهم في تاريخ الفكر والثقافة والأدب في العالم العربي والعالم الإسلامي لأن الرجل كان حاضرا في الشعر بل زعيما من زعماء التجديد في الشعر العربي في بداية القرن الماضي ونجده في النقد الأدبي والكتابة السياسية والمقالة الصحفية كما نجده مجددا ومبدعا في مجال الفكر الإسلامي واخذ مكانة متميزة في الكتابة عن الشخصيات والعبقريات، بل امتاز في الكتابة عن الشخصية بابتكاره مناهج وأساليب لم تعرفها الكتابة عن الشخصيات قبل مجيء عباس محمود العقاد. كاتب الشرق بالحق الإلهي وفي الكتابة عن عظماء الإسلام وتاريخه فتح بابا خاصا ومتميزا بما اسماه العبقريات الإسلامية واستطاع من خلال هذه الكتابة ان ينفذ إلى عمق أشياء كثيرة في الحياة الإسلامية ويستنتج استنتاجات مهمة في مجال الدعوة والتشريع، وفي مجال الخصائص النفسية والإنسانية لأولئك العباقرة الذين كتب عنهم، وإذا كانت كلمة عبقرية قد نالت حظا وافرا من النقد لدى بعض الباحثين والعلماء وبالأخص وصف الرسول عليه السلام بهذا الوصف فإن العقاد لم يكترث لذلك لأنه يستطيع دائما أن يجد المبرر المقنع لما يختاره من الأفكار والمصطلحات وهذا من الأمور التي جعلت النقاد أصدقاء وخصوما يطلقون عليه اسم الكاتب الجبار. وقد كان بالفعل على نحو من الأنحاء متقمصا لهذه الصفة، وكان معتزا بنفسه أيما اعتزاز، وهذا ما جعله ينظم القصيدة الشعرية المشهورة عندما خرج من السجن ليؤكد ان مواقفه السياسية من الأصدقاء والخصوم لن تتغير. وهذا التمسك بالمبادئ وبالقيم التي يؤمن بها جعله عرضة للطرد من العمل مرات متعددة وتحمل من أجل أفكاره ومبادئه شطف العيش حتى اضطر لبيع مكتبته في وقت من الأوقات، ولكنه بقي شامخا قويا حتى أمام زعيم حزب الوفد بعد سعد زغلول مصطفى النحاس وقال له الكلمة المعروفة والمشهورة عنه عندما قال له مصطفى النحاس أنا زعيم الأمة فأجابه العقاد أنت زعيم الأمة لأن هؤلاء الذين بجانبك انتخبوك اما أنا فكاتب الشرق بالحق الإلهي. الإيمان بالحرية وإذا كان العقاد استعمل مصطلح الحق الإلهي هل هو بالفعل يؤمن بهذا الحق الإلهي في الحكم، حتى يستعمله في الأدب وبالأخص ان يكون كاتبا بالحق الإلهي؟ مما لا شك فيه أن العقاد يؤمن بالحرية الفردية والحرية الإنسانية بالمفهوم العام لهذه الحرية، فهو طيلة حياته يتقمص العمل للدفاع عن الحرية مهما كلفه أمر هذه الحرية من ثمن ومهما كان الأمر شاقا وصعبا ومكلفا، ولكنه ساير الزعيم ليظهر له أنه كاتب يؤمن بالحرية وان الزعامة مهما كان صاحبها تبقى في حدود ولكن الكاتب وحريته فوق كل الأشياء التي تواضع عليها الناس ويسيرون على ضوابطها. ويستطيع المستقصي لإنتاج العقاد أن يلحظ هذا الإيمان بالحرية قولا وعملا. وإذا كانت الحرية لا تزدهر ولا تنمو إلا في ظل حكم ديمقراطي فهي أول لبنة أساس تبنى عليه الديمقراطية فما هو موقف العقاد من الديمقراطية؟ العقاد والديمقراطية و الوسطية لقد كتب العقاد عن الديمقراطية في مختلف الدراسات التي كتبها وعن الشخصيات والكتب التي ألفها عن الإسلام وعن فلاسفة الحكم والتي كتبها عن المذاهب الاجتماعية والسياسية كما كتب عن الحكم في الإسلام كتابات جيدة وعن مقارنة الإسلام بغيره من الأديان والفلسفات وكتب عن الإنسانية في ميزان الإسلام والشيوعية، وكتب عن الديمقراطية في الإسلام كتابا خاصا هو كتاب ممتع وجامع ومركز أتى فيه العقاد بما اعتبره كلمة الفصل في موضوع الديمقراطية والإسلام، ولعل أول ما يمكن ملاحظته هو ان العنوان »الديمقراطية في الإسلام«يرى البعض ان الأجدر هو الديمقراطية والإسلام وهو العنوان الذي اختاره مالك بن نبي لمحاضرة له حيث يرى ان المنهج الأسلم هو البحث عن خصائص الديمقراطية والنظر هل هذه الخصائص موجودة في نظام الإسلام للحكم أم لا؟ وعلى أي حال فإن الديمقراطية هي أسلوب الحكم الذي يرى فيه الناس أنهم موجودون في صميمه وبين ثناياه ويحقق ما يتوافقون عليه من الحقوق والمصالح دون إجحاف بحق هذا الطرف أو ذاك. والعقاد وهو يحاول تحديد الديمقراطية يبقى ذلك الرجل الذي رغم جبروته الفكري فهو ينحاز لموقف وسط من الحياة وهو ما عبر عنه عندما قال: زعيم الهند نعى الدنيا وصام أنا أنعاها ولكن لا أصوم طامع الغرب رعى الدنيا وهام وأنا أرعاها ولكن لا أهيم بين هذين الحدين قوام وليلم من كل قوم من يلوم الديمقراطية وأنظمة الحكم قديما وحديثا وهو عندما يؤلف في الديمقراطية في الإسلام إنما يريد البحث عن الديمقراطية وتعريفها ولاسيما وهي نظام نشأ عند الناس قبل مجيء الإسلام، وهو يهدف إلى إظهار ما بين ذلك النظام ونظام الإسلام من مواضع الاتفاق ومواضع الاختلاف. فكيف كانت الديمقراطية قبل الإسلام؟ وما هي وما مدلولها من لفظها ومعاناها؟ يتجاوز العقاد هذه الأسئلة ليناقش معنى ان تكون الديمقراطية هي حكم الشعب. ويستنتج من خلال متابعة أنظمة الحكم التي أطلق عليها هذا الاسم انه لم يثبت ان الشعب حكم نفسه بنفسه ليخلص إلى القول انه يجوز اعتبار التسمية هنا تسمية سلبية أي ان الحكم الديمقراطي غير حكم الفرد المطلق وغير حكم الإشراف وغير حكم الكهان وغير حكم القادة العسكريين وما عدا ذلك من ضروب الحكم التي ليس للشعب فيها نصيب. وبعد ان يستعرض كل ضروب الحكم التي عرفتها البشرية بإيجاز يصل إلى القول: من الواضح إذن أن الديمقراطية قديمها وحديثها لم تقم على الحق الإنساني المعترف به لكل إنسان، وأنها كانت إلى الضرورة العملية أقرب منها إلى المبادئ الفكرية والأصول الخلقية، وأنها لم تكن في الأمم القديمة تعني حكم الشعب بمعنى مباشرة الحكم أو إنابة أحد من الشعب نفسه لولاية الأمور العامة، ولكنها كانت سلبية يفهم منها أن الشعب منفرد بالسلطان أو غالب عليه. هذه الديمقراطية التي تفرضها الضرورة يتساوي فيها فضل التشريع وفضل الطبيعة، فلا فضل لأحد في حرية الطائر أو حرية البدوي الذي ينطلق بين مراعي الصحراء ويعتمد على حق لم يأخذه من دستور ولا من إنسان، ولا فضل كذلك للتشريع الذي يعطي حقا كذلك الحق ضرورة يمليها الواقع قبل أن يمليها دستور أو صاحب سياسة، فكل هؤلاء قد أخذوا ما لم يعطه أحد ولا يستطيع أحد أن يمنعه، وليس هذا هو المقصود حين نبحث عن الفضل في تقرير الحقوق وإقامة الدساتير. خلاصة حكم بني إسرائيل: والعقاد يرى أن المسيحية لم تأت بتشريع ولذلك تكلم عن الديمقراطية عند بني إسرائيل. وجملة ما يقال في وصف هذا النظام الحكومي بالصفة العصرية أنه نظام يجمع بن التيوقراطية والعنصرية والديمقراطية. فهو ثيوقراطي لأن اختيار الحكام والقضاة موكول فيه إلى الأحبار والكهان، هو عنصري لأنه خاص ببني إسرائيل ووظيفة الكهانة فيه مقصورة على سلالة معينة من السلالات الإسرائيلية، وهو ديمقراطي لأنه يسمح للشعب بطلب النظام الذي يؤثره ومبايعة الحاكم الذي يرشحه الأحبار. وسنرى فيما يلي أن نظام الديمقراطي كما بسطه القرآن الكريم والسنة المحمدية لم يتطور من هذا النظام. الديمقراطية العربية و الحرية البدوية وعن الديمقراطية عند العرب يقول العقاد: تردد في أقوال المستشرقين وكتاب التاريخ من الأوربيين أن ديمقراطية الإسلام ديمقراطية عربية: يعنون بذلك أن الإسلام قد جاء بمبادئ الحرية الديمقراطية لأنه نشأ في بلاد العرب بين أقوام من البدو الأحرار لا يعرفون طغيان الملوك ولا يخضعون لسطوة الحاكمين بأمرهم من الأكاسرة والقياصرة الذين حكموا بلاد الفرس والروم. ومن المقرر المتفق عليه أن الجزيرة العربية عرفت حرية البداوة على أنها قبل الإسلام، ولكنها الحرية التي لا تصدر عن مبدأ، ولا عن فكرة ولا عن تعريفات الحقوق الإنسانية، وهي حرية واقعية غير الحرية الديمقراطية كما بينا ذلك في الفصل السابق، مصدرها كمصدر الحرية التي تتمتع بها الأوابد في الخلاء أو تتمتع بها الطير في الهواء، وعلتها أنها حرية مصدرها قلة المنازعة عليها لا قوة المبادئ التي تدعمها وتحميها، فليست هي حقا من الحقوق ولكنها مال همل مباح لقلة الراغبين فيه وغيبة المنتفعين بالعدوان عليه. الديمقراطية الإسلامية هي الديمقراطية العربية الديمقراطية العربية ليست هي الديمقراطية الإسلامية في بعض الأحايين، ولكنها حرية لم تنعم بها لأن أحدا أرادها وشرع مبادئها، بل نعمت بها لأن أحدا لم يرد منعها ولم تكن لأحد مصلحة في تقييدها والاعتراض عليها. فهي حرية واقعية غير مقصودة وليست بالحرية الفكرية المقصودة على مبادئها المقررة، وقد تقدم أن الفرد لم يكن له حساب في أشد هذه القبائل بداوة وأوسعها حرية، إذ كانت القبيلة كلها هي مناط الحقوق والواجبات في مسائل الرعاية والقصاص والخصومات على الإجمال، ولا معنى للديمقراطية بغير مبادئ الحرية الفردية أو التبعة الفردية على التعبير الأصح. إذ كانت التبعات هي مرجع المحاسبة بين الحاكمين والمحكومين. ومؤدى ما تقدم أن الديمقراطية الإسلامية جاءت مع الإسلام ولم تسبقها الديمقراطية العربية كما توهمها أناس من المستشرقين وكتاب التاريخ من الأوربيين، وفضل الإسلام في تقرير ديمقراطيته فضل غير مسبوق. الإسلام يشرع الديمقراطية الإنسانية وعن الديمقراطية في الإسلام يرى العقاد انه يمكن القول إن نقرر أن شريعة الإسلام كانت أسبق الشرائع إلى تقرير الديمقراطية الإنسانية، وهي الديمقراطية التي يكسبها الإنسان لأنها حق له يخوله أن يختار حكومته وليست حيلة من حيل الحكم لاتقاء شر أو حسم فتنة، ولا هي إجراء من إجراءات التدبير تعمد إليها الحكومات لتيسير الطاعة والانتفاع بخدمات العاملين وأصحاب الأجور. وتقوم الديمقراطية الإسلامية، بهذه الصفة، على أربعة أسس لا تقوم ديمقراطية كائنة ما كانت على غيرها، وهي : 1/ المسئولية الفردية 2/ عموم الحقوق وتساويها بين الناس 3/ وجوب الشورى على ولاة الأمور 4/ التضامن بين الرعية على اختلاف الطوائف والطبقات. هذه الأسس كلها أظهر ما تكون في القرآن الحكيم وفي الأحاديث النبوية وفي التقاليد المأثورة عن عظماء الخلفاء. فالمسئولية الفردية مقررة في الإسلام على نحو صريح وبآيات متكررة تحيط بأنواع المسئولية من جميع الوجوه. فلا يحاسب إنسان بذنب إنسان »ولا تزر وازرة وزر أخرى«. ولا يحاسب إنسان بذنب آبائه وأجداده أو بذنب وقع قبل ميلاده: » تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون«. ولا يحاسب إنسان بغير عمله: »وأن ليس للإنسان إلا ما سعى... و »كل نفس بما كسبت رهينة«... و » كل امرئ بما كسب رهين« ...» ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون «. ومن تفصيل المسئولية في كل شيء قوله عليه السلام: » كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته: الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته...«. أما عموم الحقوق فالقرآن صريح في مساواة النسب ومساواة العمل: » يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم«. وكلمة التقوى كما جاء في غير هذا الفصل تشمل المسئوليات جميعا، لأنها تشمل كل ما يطالب الإنسان بأن يتقيه ويسأل عنه إذا وقع فيه. وسواء في الدنيا أو الأخرى لا تغنى الأنساب شيئا عن الإنسان: »فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون«. الشورى مسؤولية تناول المسلمون الشورى وأهميتها في نظام الإسلام قديما وحديثا فمنهم من يعتبرها ملزمة ومنهم من يرى غير ذلك. والعقاد من الذين يرونها ملزمة وهي كذلك وإلا كانت دون معنى وفي هذا يقول العقاد: أما الحكم بالشورى فالقرآن الكريم صريح في وجوبه، وليس بعد إيجابه على النبي إعفاء منه لوال من الولاة:» وأمرُهم شورى بينهم «...» وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله«... وقد رويت مسائل شتى من مسائل السلم والحرب استعان فيها النبي بآراء أصحابه وعمل بها على خلاف ما ارتآه. ومن تمام المسئولية الفردية تكافل الأمة في المسئولية العامة، فإن الأمة قد تصاب جميعا بضرر جناه عليه بعض أبنائها، فمن حق كل فرد أن يدفع الشر عن نفسه وعن غيره:» واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة«، وعلى كل فرد أن يبذل في دفع الشر جهد ما يستطيع: و»لا يكلف الله نفسا إلا وسعها« ولكنه قد يصاب بضلال غيره عملا ولا يحاسب عليه شرعا:» لا يضركم من ضل إذا اهتديتم«. هذه هي الأسس التي لا تقوم الديمقراطية على غيرها في بيئة من البيئات، وإذا علمنا من شأن أمة أنها تؤمن بالمسئولية الفردية والمساواة وترفض الاستبداد بالرأي في الحكومة وتتواصى بدفع الشر متكافلة في دفعة فلا يعنينا ما تسمى به في مصطلحات السياسة الحاضرة أو الغابرة، لأنها أفضل الحكومات سواء عرفت باسم الديمقراطية أو بغيرها من الأسماء. ما معنى السيادة؟ من الأمور التي كثر فيها النقاش والأخذ والرد لدى المفكرين والفلاسفة ومن علماء القانون الدستوري قديما وحديثا مسألة السيادة فكل واحد يرى لها تعريفا قد يلتقي مع غيره وقد يختلف وهذا ما يتناوله العقاد فهو يرى ان السيادة عرفت بتعريفات كثيرة، أصحها فيما نرى أن السيادة هي سند الحكم، ويشمل الحكم السياسة والتشريع وولاية الأمور العامة. ومعنى السند أنه هو المرجع الذي يكسب القانون أو الرئيس حق الطاعة له والعمل بأمره، فليست السيادة هي سلطان الحكم نفسه، ولكنها هي السند الذي يجعل ذلك السلطان حقا مسلما ولا يجعله غصبا ينكره من يدان بطاعته. ولا يتفق الباحثون من فقهاء النظام السياسي على مصدر واحد للسيادة، ولكنهم متفقون على وجودها ووجوبها، وأن الحكم بغيرها لا يقوم على أساس. وتتجدد الآراء عن مصدر السيادة كلما تقدم العلم وعرفت طبائع الاجتماع وقام تفسيره على التجارب العملية، فمن أبناء هذا العصر من يرجع إلى القول بالأمر الواقع وحق القوة، ومنهم من يرى أن الدولة تتطور وتتغير فيها مصادر السيادة كلما خرجت من طور إلى طور. السيادة والبيعة وليس في الإسلام ما يقضى بإنكار مذهب من هذه المذاهب في سند هذه السيادة وأساس الحكومة، إلا المذهب الذي يدعى للحاكم سلطة إلهية أو سلطة لا رجعة فيها. فإن الإسلام يقرر أن النبي بشر ليس له من الأمر شيء، وكان النبي عليه السلام ينكر على الوالي أن ينتحل لنفسه ذمة الله، ويقول لمن ولاه أمرا: » إذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك، فأنت لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا «. وكان الفاروق رضي الله عنه يأبى أن يقال عن رأيه إنه مشيئة الله، وانتهز بعض جلسائه لأنه زعم ذلك فقال:» بئس ما قلت ! هذا ما رأى. إن كان صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر.... لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة « والذي يبدو لنا أن أقرب الأقوال إلى سند السيادة في الإسلام هو الرأي القائل بأنها عقد بين الله والخلق من جهة وعقد بين الراعي والرعية من جهة، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . غير أن القول بأن الأمة هي مصدر السيادة في الإسلام لا ينبني على أنها قد تتحول عن دينها في احتمال قريب أو بعيد. إذ التحول عن الدين جريمة كبرى في جميع الأديان، وليس بالمعقول أن ينبني على الجريمة حق من الحقوق فضلا عن حق السيادة الذي هو مصدر جميع الحقوق. وإذ قال العلماء إن الأمة هي مصدر السيادة فلا تعارض بين هذا القول وبين القول بأن القران الكريم والسنة النبوية هما مصدر التشريع، فإن الأمة هي التي تفهم الكتاب والسنة وتعمل بهما وتنظر في أحوالها لترى مواضع التطبيق ومواضع الوقف والتعديل وتقر الإمام على ما يأمر به من الأحكام أو تأباه. هذه خلاصة للأفكار التي تناولها العقاد حول المبادئ الأولية للديمقراطية والديمقراطية وتعريفها والديمقراطية في الإسلام وما يميزها عن غيرها وسنحاول في حديث لاحق تتمة الكلام عن المضامين الاجتماعية للديمقراطية في الإسلام.